سلامة الصدر وطهارة القلب من الأمور التي نكاد نفتقدها في واقعنا رغم أهميتها، حتى صار ورود هذه الصفة من الغرائب، أما من يقرأ في سير سلفنا الصالح فإنه يجد الدرجة السامية التي بلغوها في سلامة الصدر ونقاوته!! وهذا يرجع لمعرفتهم بما يدعو إليه القرآن والسنة في ذلك.

من أحوال الأنقياء

إن أصل هذا الموضوع هو حديث عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: (قيل: يا رسول الله! أي الناس أفضل؟ قال صلى الله عليه وسلم: كل مخموم القلب صدوق اللسان، قالوا: صدوق اللسان نعرفه، فما مخموم القلب؟ قال صلى الله عليه وسلم: هو التقي النقي لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد)1(1) أخرجه ابن ماجة في سننه في كتاب الزهد باب: الورع والتقى، وذكره الألباني في الصحيحة وصحيح الجامع..

ومعنى مخموم: من خممت البيت إذا كنسته، ولذلك بين النبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث أن النقي هو: الذي لا إثم فيه ولا بغي ولا غل ولا حسد.

فما أحوجنا لمثل هذا النقي في مثل هذا الزمن الذي اتصف بكثرة الخلاف والنزاع والفرقة، فامتلأت النفوس وأوغرت الصدور، فلا تسمع إلا كلمات التنقص، والازدراء، وسوء الظن، والدخول في النيات والمقاصد! فما هي النتيجة؟!

إن خوطبوا كذبوا أو طولبوا غضبوا أو حوربوا هربوا أو صوحبوا غدروا

على أرائكهم سبحان خالقهم عاشوا وما شعروا ماتوا وما قبروا!

فالنتيجة أن أصبح المسلمون أحزاباً (كُلُّ حِزْب بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ) [المؤمنون:53] وكل حزب من الآخر ينتقصون، فلا نسمع سوى تقسيم الناس وتصنيفهم، ففرح المنافقون وهم لها باذرون وساقون وراعون، وصدق الله عز وجل: (وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ) [الأنفال:46] .

من أوصاف الأنقياء

فالأنقياء لا يعرفون الانتقام ولا التشفي، ويتجاوزون عن الهفوات والأخطاء.

الأنقياء: يتثبتون ولا يتسرعون.

الأنقياء: سليمة قلوبهم نقية صدورهم.

الأنقياء: يحبون العفو والصفح وإن كان الحق معهم.

الأنقياء: ألسنتهم نظيفة فلا يسبون ولا يشتمون.

الأنقياء صفاء في السريرة ونقاء في السيرة، دعاؤهم: اللهم قنا شح أنفسنا، اللهم قنا شح أنفسنا، (وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ) [الحشر:9] .

سبب الحديث عن الأنقياء

لماذا الحديث عن الأنقياء؟ ولماذا الحديث عن سلامة الصدر؟ أدعوك وأنت تقرأ هذه الكلمات إلى التجرد من الهوى وترك حظوظ النفس، تجرد من حب التصدر والزعامة، ومن التعالم ومن الكبرياء والغرور، ومن الحقد والحسد، ومن كل الأمراض القلبية، فإنني أريدك أن تقرأ كلماتي بقلب سليم، بقلب ذلك المسلم الطيب التقي النقي، أنسيت أنك خلقت لعبادة الله ومرضاته، وطلباً لجنات الفردوس، أيجوز لمن كان هذا هو هدفه ومقصده من هذه الدنيا أن يغفل عن قلبه؛ فيطلق لهذه المضغة العنان في البغضاء والشحناء، والحمل على الآخرين والانتقام والتشفي؟!

لماذا أصبحنا نسمع كلمات الذم أكثر من سماعنا لكلمات الثناء؟! لماذا أصبحنا نسمع كلمات التنقص أكثر من سماعنا لكلمات التثبت إلا ما شاء الله؟! كيف غفلت عن هذه المضغة التي (إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله)؟! – كلمات لم تعد تسمع: سلامة الصدر، طهارة القلب، صفاء النفس، كلمات نادرة الاستعمال وعزيزة الذكر، لا نكاد نسمعها في مجالسنا ومنتدياتنا، موضوعات كثيرة تلك التي نتحدث عنها لكنها لا تخلو من غيبة ملبسة بلباس النصيحة، أو من حديث يشفي الغليل ويرضي الخليل، أو من هم فيه همز ولمز وانتصار للنفس! فيا من في قلبك خوف من الله جل وعلا، إننا نريد أن نسمع كلمات الحب والإخاء، والصدق والوفاء، والنصح والصفاء، وأن نسمع كلمات الشكر والعرفان، وذكر الفضل والإحسان، وأن نسمع عن جمع القلوب، وعن توحيد الكلمة، وعن الإصلاح بين الناس.

التواضع وهضم النفس

لا تبرر ساحة نفسك من التقصير، واحسب أن الآخرين من المسلمين خير منك عند الله تعالى، (فرب أشعث أغبر ذي طمرين؛ لو أقسم على الله لأبره) .

لا تنظر إلى نفسك بنظرة الزهو والفخر والارتفاع، فكم من مسكين خير منك عند الله، ومن عامي هو خير منك عند ربك، ومن إنسان استجاب الله دعاءه وفتح على قلبه، بينما أنت ما زلت تنظر لنفسك في خيلاء وفي كبر والعياذ بالله.

أما سمعت لقول بكر بن عبد الله المزني وهو واقف بـ عرفة ينظر إلى الناس: -لا إله إلا الله! -[لولا أني فيهم لقلت قد غفر الله لهم!] .

يقول الذهبي معلقاً على هذه العبارة في السير: كذلك ينبغي للعبد أن يزري على نفسه ويهضمها ا.هـ.

سلامة الصدر وتنقية القلب

اعلم أن سلامة الصدر وتنقية القلب مطلب عزيز، والحرص عليه واجب، وبذل الأسباب إليه وسلوك طريقه متعين، ولكن لا تنس أن الناس بشر وأن النفس ضعيفة، فلا بد من الخطأ ولا بد للنفس أن تتأثر، فتنبه لهذا وعامل الآخرين بحسبه.

ولهذا يقول سعيد بن المسيب رحمه الله تعالى: [إنه ليس من شريف ولا عالم ولا ذي فضل إلا وفيه عيب، ولكن من الناس من لا ينبغي أن تذكر عيوبه، ومن كان فضله أكثر من نقصه وهب نقصه لفضله] .

الحذر من الأعداء

[لست بالخب ولا الخب يخدعني] ، لا ينافي سلامة القلب والأخذ بالظاهر، ولكنه يعني الحيطة والحذر، فإن هناك من الناس من يستدرج الناس ويستغفلهم ويلبس عليهم، فعليك أن تكون فطناً متنبهاً، فالله سبحانه وتعالى يقول للمؤمنين: (خُذُوا حِذْرَكُمْ) [النساء:71] ، ويقول سبحانه وتعالى: (وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) [الروم:60] .

القرآن يدعوك

إن القرآن يدعونا جميعاً، وفي أكثر من سورة وأكثر من آية لمثل هذا الموضوع، متى؟ إن تدبرنا القرآن ونظرنا فيه.

إن قرآننا هو كلام ربنا، ودستور حياتنا، ومنبع صفائنا، وميزاننا الذي نحتكم إليه عند خلافنا، بل وفي كل حياتنا وأمورنا.

فالقرآن يدعوك لبراءة القلب من الغل للذين آمنوا: (رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا) [الحشر:10] .

والقرآن يدعوك فيقول: (خُذْ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنْ الْجَاهِلِينَ) [الأعراف:199] .

والقرآن يدعوك فيقول: (فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ) [البقرة:109] .

والقرآن يدعوك فيقول: (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [المائدة:13] .

والقرآن يدعوك فيقول: (وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) [التغابن:14] .

والقرآن يدعوك فيقول: (وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحْ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) [الحجر:85] .

والقرآن يدعوك فيقول: (قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَة يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ) [البقرة:263] .

والقرآن يدعوك فيقول: (وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنْ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [آل عمران:134] .

والقرآن يدعوك فيقول: (يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ * إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْب سَلِيم) [الشعراء:88-89].

وأخيراً! القرآن -يا أخي الحبيب- يدعوك فيقول: (وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) [النور:22] .

(أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ) [النور:22] ؟ [بلى والله إنا نحب أن يغفر لنا ربنا] قالها أبو بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه، مع سخاء نفسه وسلامة صدره ونصحه للأمة، فماذا نقول نحن وهذه حالنا مع قلوبنا؟!

صور مشرقة في عالم الصفاء والنقاء

لا ننسى أن من أراد فهم هذه الدرجة من تنقية القلب وسلامة الصدر كما ينبغي، فلينظر إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم مع الناس؛ يجدها مليئةً بل يجد هذه الدرجة بعينها، ولم يكن كمال هذه الدرجة لأحد سواه صلى الله عليه وسلم.

الصورة الأولى: مثال لسلامة الصدر

وهي التي لا تطاق: روى الإمام أحمد في مسنده من حديث أنس قال: (كنا جلوساً مع النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوئه وقد علق نعليه بيده الشمال، فلما كان من الغد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك، فطلع الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل مقالته أيضاً، فطلع ذلك الرجل على مثل حاله الأولى.

فلما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم تبعه عبد الله بن عمرو -أي: تبع الرجل- فقال للرجل: إني لاحيت أبي -أي: وقع بيني وبين أبي خصومة- فأقسمت أني لا أدخل عليه ثلاثاً، فإن رأيت أن تؤويني إليك حتى تمضي فعلت؟ قال الرجل: نعم.

قال أنس: فكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الليالي الثلاث فلم يره يقوم من الليل شيئاً، غير أنه إذا تعار -تقلب على فراشه- ذكر الله وكبر حتى يقوم لصلاة الفجر، قال عبد الله: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيراً، فلما مضت الليالي الثلاث وكدت أن أحتقر عمله قلت: يا عبد الله! لم يكن بيني وبين أبي غضب ولا هجرة، ولكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لك ثلاث مرات: يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة، فطلعت أنت الثلاث المرات، فأردت أن آوي إليك لأنظر ما عملك فأقتدي به، فلم أرك تعمل كبير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! قال -أي الرجل-: ما هو إلا ما رأيت.

قال عبد الله: فلما وليت دعاني فقال الرجل: ما هو إلا ما رأيت غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشاً، ولا أحسد أحداً على خير أعطاه الله إياه، قال عبد الله: فهذه التي بلغت بك وهي التي لا تطاق!)2(2) قال ابن كثير: رواه النسائي في اليوم والليلة عن سويد بن نصر عن ابن المبارك عن معمر به، وهذا إسناد صحيح على شرط الصحيحين، لكن رواه عقيل وغيره عن الزهري عن رجل عن أنس، فالله أعلم..

إن قلب المؤمن المطمئن بذكر الله، النابض بحلاوة الإيمان؛ لا يحتمل أبداً أن يحمل بين جنباته حقداً على أحد من المسلمين.

هذا الرجل لم يكن يقوم الليل ولم يكن له كبير عمل، ولكن العمل الذي كان سبباً في دخوله الجنة: هو أنه لا يجد في نفسه حسداً لأحد، وليس في قلبه غش على أحد من المسلمين!

الصورة الثانية: أيعجز أحدكم أن يكون كأبي ضمضم؟

عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه: (أيعجز أحدكم أن يكون كـ أبي ضمضم، قالوا: ومن أبو ضمضم يا رسول الله؟ قال: رجل كان إذا أصبح يقول: اللهم إني قد وهبت نفسي وعرضي، فلا يشتم من شتمه، ولا يظلم من ظلمه، ولا يضرب من ضربه)3(3) أخرجه أبو داود في الأدب، وقال الألباني في الإرواء عن هذا الحديث: والمحفوظ عن قتادة، وإسناده صحيح إلى قتادة. ثم ذكره في صحيح أبي داود، وقال: صحيح مقطوع..

قال ابن القيم رحمه الله تعالى في كتابه مدارج السالكين: (والجود عشر مراتب، ثم ذكرها، فقال: والسابعة: الجود بالعرض كجود أبي ضمضم من الصحابة رضي الله عنهم، كان إذا أصبح قال: اللهم لا مال لي أتصدق به على الناس وقد تصدقت عليهم بعرضي فمن شتمني أو قذفني فهو في حل، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من يستطيع أن يكون منكم كـ أبي ضمضم، وفي هذا الجود من سلامة الصدر وراحة القلب والتخلص من معاداة الخلق ما فيه) اهـ.

الصورة الثالثة: التصدق بالعرض

أخرج البزار في كشف الأستار في كتاب الزكاة باب: فيمن تصدق بعرضه أخرجه من حديث كثير بن عبد الله بن عمرو بن عوف عن أبيه عن جده: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حث يوماً على الصدقة فقام علبة بن زيد فقال: ما عندي إلا عرضي، فإني أشهدك يا رسول الله أني تصدقت بعرضي على من ظلمني، ثم جلس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: أين علبة بن زيد؟ قالها مرتين أو ثلاثاً، قال: أنت المتصدق بعرضك؟! قد قبل الله منك)4(4) قال الهيثمي: رواه البزار وفيه كثير بن عبد الله وهو ضعيف..

إذاً انظر لحال صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، هذا أبو ضمضم وهذا علبة بن زيد وغيرهم كثير كانوا يتصدقون بأعراضهم رضوان الله تعالى عليهم، يعفون ويصفحون عمن سبهم أو شتمهم أو ضربهم أو اغتابهم، أو ذكرهم في شيء لا يرضونه، فماذا نقول عن أنفسنا؟

الصورة الرابعة: الذب عن الأعراض

[والله ما نعلم إلا خيراً] هذه المقالة قالها معاذ بن جبل رضي الله عنه دفاعاً عن كعب بن مالك في قصة تخلفه في غزوة تبوك، قال كعب: (لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم تبوك ذكرني وقال: ما فعل كعب؟ فقال رجل من قومي: خلفه يا نبي الله برداه والنظر في عطفيه، فقال معاذ بن جبل وكان حاضراً: بئس ما قلت! والله ما نعلم إلا خيراً!) .

أسمعت هذا الموقف؟! لقد كان بإمكان معاذ رضي الله تعالى عنه السكوت تأدباً أمام رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولن يعيب عليه النبي صلى الله عليه وسلم سكوته، ولكنه أعلن الحق الذي امتلأ به قلبه، لم يطق معاذ أن يسمع هذه الكلمات بأخيه كعب، فأعلن الحق الذي في قلبه انتصاراً لـ كعب بن مالك رضي الله عنهما جميعاً.

وعن أبي الدرداء أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من رد عن عرض أخيه رد الله عن وجهه النار يوم القيامة) ، كما أخرجه الترمذي في سننه في كتاب: البر والصلة، باب: ما جاء في الذب عن المسلم، وإسناده صحيح.

واسمع لهذا الموقف: قال حنبل بن إسحاق: سمعت ابن معين يقول: رأيت عند مروان بن معاوية لوحاً فيه أسماء شيوخ: فلان رافضي، وفلان كذا، ووكيع رافضي! فقلت لـ مروان: وكيع خير منك! قال مروان: مني؟! -استفهام وتعجب- قلت: نعم.

قال: فسكت، ولو قال لي شيئاً لوثب أصحاب الحديث عليه!.

قال -أي يحيى -: فبلغ ذلك وكيعاً فقال وكيع: يحيى صاحبنا، وكان بعد ذلك يعرف لي ويرحب.

انظر أثر الدفاع عن العرض في قلب وكيع رحمه الله تعالى، أصبح يحيى بن معين حبيباً إلى قلبه، أصبح يرحب به كثيراً!

الصورة الخامسة: طيب قلب بين نساء النبي صلى الله عليه وسلم

ذكر الذهبي في السير بسنده إلى عوف بن الحارث أنه قال: سمعت عائشة تقول: [دعتني أم حبيبة -أي: زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم- عند موتها فقالت: قد يكون بيننا ما يكون بين الضرائر فغفر الله لي ولك ما كان من ذلك، فقلت -أي: عائشة -: غفر الله لك كله وحللك من ذلك، فقالت أم حبيبة: سررتني سرك الله، تقول عائشة: وأرسلت أم حبيبة إلى أم سلمة فقالت لها مثل ذلك] .

الصورة السادسة: انشغال قلب الحاقد بما لا ينفع

صورة قصيرة لكنها كبيرة المعاني: قال رجل لـ عمرو بن العاص رضي الله عنه: والله لأتفرغن لك! يعني بالكيد والتشفي والانتقام وغير ذلك، فماذا كان رد عمرو؟! فقال عمرو بن العاص بذكائه وعقله: [إذن تقع في الشغل إذن تقع في الشغل!] .

نعم.

إن الذي يتفرغ لينال من الناس ويشتم الناس لا يكون فارغاً أبداً، إنما تشغله نفسه وحقده بالناس، فيضيع عمره فيما لا ينفع، ولا شك أن قول عمرو هو الصواب (وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً) [البقرة:269] كم نحب أن نسمع مثل هذه الكلمات لمن وقع بينه وبين أحد خصومة أو من هدده وتوعده، (إذن تقع في الشغل) ؛ لأن القلب الذي امتلأ بالحسد والانتقام من الناس، وتتبع زلاتهم والتشفي منهم، قلب مشغول دائماً، أما القلب السليم الذي امتلأ بسلامة الصدر وحب الناس وجمع القلوب فهو لا يفكر إلا فيما ينفعه: كطلب علم أو عمل خير ونحوهما، أما أعراض الناس فهو بريء منها؛ لأنه عاهد الله أن يترك مثل ذلك.

الصورة السابعة: تواضع جمّ

أيضاً موقف قصير ولكنه كبير بمعانيه.

في سيرة سالم بن عبد الله بن عمر رضي الله عنهم: [أن رجلاً زاحمه في منى فالتفت الرجل إلى سالم -وسالم هذا علامة التابعين رضي الله عنه، فقال الرجل لـ سالم: إنني لأظنك رجل سوء! فبماذا أجاب سالم رضي الله عنه؟! قال كلمتين: قال: ما عرفني إلا أنت!] .

هكذا كان إزراؤهم بأنفسهم رضوان الله عليهم؛ مع سعة علمهم وكثرة عبادتهم وجهادهم، وكثرة خوفهم وبكائهم من الله جل وعلا إلا أنهم يحتقرون ذواتهم رضي الله تعالى عنهم، أين العجب والغرور الذي يصيب أنفسنا؟ إذا فعل الإنسان منا فعلاً أو عبادة أو قام بعمل خير أعجبته نفسه وأصبح عند نفسه زاهد الزهاد.

الصورة الثامنة: ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله

ذكر الذهبي في السير في ترجمة البخاري محمد بن إسماعيل، صاحب الصحيح رضي الله عنه، قال: -أي الذهبي -: وكان كثير من أصحابه يقولون له -أي البخاري -: إن بعض الناس يقع فيك! قال: (إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفاً) [النساء:76] ، ويتلو أيضاً قوله تعالى: (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ) [فاطر:43] .

فقال عبد المجيد بن إبراهيم للبخاري: كيف لا تدعو الله على هؤلاء الذين يظلمونك ويتناولونك ويبهتونك؟! فقال البخاري: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اصبروا حتى تلقوني على الحوض) ، وقال أيضاً: وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من دعا على ظالمه فقد انتصر) .

الصورة التاسعة: هضم النفس وحقوقها

ذكر الذهبي في السير قال: عن أبي يعقوب المدني أنه قال: كان بين حسن بن حسن وبين علي بن الحسين -يعني زين العابدين – بعض الأمر، فجاء حسن بن حسن إلى علي بن الحسين زين العابدين وهو جالس مع أصحابه في المسجد، فما ترك حسن شيئاً إلا قاله له -يعني ما ترك سباً ولا شتماً إلا قاله لـ زين العابدين وهو جالس مع أصحابه-، قال -أي أبي يعقوب المدني -: وعلي ساكت، فانصرف حسن فلما كان من الليل أتاه في منزله – زين العابدين ذهب إلى حسن بن حسن – فقرع عليه بابه فقال له: يا أخي! إن كنت صادقاً فيما قلت لي فغفر الله لي، وإن كنت كاذباً فغفر الله لك، السلام عليكم!

قال: فإذا بـ الحسن يتبعه ويلزمه من الخلف ويبكي بكاءً شديداً، حتى رثى زين العابدين لحاله، فقال الحسن لـ زين العابدين: لا جرم لا عدت في أمر تكرهه، فقال زين العابدين: وأنت في حل مما قلت لي.ا.هـ.

وانظر أيضاً لإنصاف الذهبي رحمه الله تعالى لـ ابن حزم عندما ترجم له في السير، قال الذهبي عن ابن حزم: قد أخذ المنطق -أبعده الله من علم- عن محمد بن الحسن المذحجي وأمعن فيه، فزلزله في أشياء، ولي أنا ميل إلى أبي محمد لمحبته في الحديث الصحيح ومعرفته به، وإن كنت لا أوافقه في كثير مما يقوله في الرجال، والعلل، والمسائل البشعة، في الأصول والفروع، وأقطع بخطئه في غير ما مسألة، ولكن لا أكفره ولا أضلله وأرجو له العفو والمسامحة وللمسلمين، وأخضع لفرط ذكائه وسعة علومه. اهـ.

الصورة العاشرة: كلام الناقد الورع نصح لدين الله

قال أبو الربيع محمد بن الفضل البلخي: سمعت أبا بكر محمد بن مهرويه سمعت علي بن الحسين بن الجنيد سمعت يحيى بن معين يقول: إنا لنطعن على أقوام لعلهم قد حطوا رحالهم في الجنة من أكثر من مائتي سنة! قال ابن مهرويه: فدخلت على عبد الرحمن بن أبي حاتم وهو يقرأ على الناس كتاب الجرح والتعديل، فحدثته بهذا فبكى وارتعدت يداه حتى سقط الكتاب من يده، وجعل يبكي ويستعيدني الحكاية.

يقول الذهبي معلقاً على هذا الموقف: أصابه على طريق الوجل وخوف العاقبة، وإلا فكلام الناقد الورع في الضعفاء من النصح لدين الله والذب عن السنة. اهـ.

الهوامش

(1) أخرجه ابن ماجة في سننه في كتاب الزهد باب: الورع والتقى، وذكره الألباني في الصحيحة وصحيح الجامع.

(2) قال ابن كثير: رواه النسائي في اليوم والليلة عن سويد بن نصر عن ابن المبارك عن معمر به، وهذا إسناد صحيح على شرط الصحيحين، لكن رواه عقيل وغيره عن الزهري عن رجل عن أنس، فالله أعلم.

(3) أخرجه أبو داود في الأدب، وقال الألباني في الإرواء عن هذا الحديث: والمحفوظ عن قتادة، وإسناده صحيح إلى قتادة. ثم ذكره في صحيح أبي داود، وقال: صحيح مقطوع.

(4) قال الهيثمي: رواه البزار وفيه كثير بن عبد الله وهو ضعيف.

المصدر

المكتبة الشاملة: محاضرة للشيخ إبراهيم الدويش.

اقرأ أيضا

من أسباب حياة القلوب

الاستشفـاء بالقرآن .. لأمراض الفرد والأمة

أمراض القلوب .. أسباب وتجربة للمداواة

 

التعليقات غير متاحة