لا يسلم الناس من أهوال يوم القيامة إلا من طال فيها فكره في الدنيا، فإن الله لا يجمع بين خوفين على عبد ، فمن خاف هذه الأهوال في الدنيا أمنها في الآخرة.

من الأسباب الجالبة لتذكر النبأ العظيم والاستعداد للآخرة

يكفي لتذكر النبأ العظيم وإنشاء همّ الآخرة في النفوس أن نتعرف على الثمار السابقة [من ثمرات اليقين بالآخرة .. الإخلاص والزهد والرجاء]؛ ففيها الدافع القوي لمن وفقه الله عز وجل إلى الانتباه الدائم لرحلة الخلود الطويلة والتمهيد للمستقبل الأبدي السرمدي ، ومع ذلك فيحسن ذكر بعض الأسباب المعينة على تدارك زمن المهلة والانتباه من رقدة الغفلة ، فإذا انضم إلى ذلك صدق العزيمة وعلو الهمة نفعت بإذن الله عز وجل ، نسأله سبحانه أن ينفعنا بها . ومن هذه الأسباب ما يلي:

1 ـ معرفة الله عز وجل وتوحيده والبصيرة في الدين

كلما كان العبد أعلم بالله سبحانه وبأسمائه وصفاته وبأحكامه وشريعته وبالطرق الموصلة إلى رضاه، كلما كان أحرص على ما يقرب إلى الله سبحانه، وكلما كان أكثر استعداداً للآخرة، وكلما كان أعرف بما يرضي الله عز وجل فيفعله، وما يصده عن الله والدار الآخرة فيتجنبه ويحذره، وهذا من أعظم فوائد العلم الشرعي والبصيرة في الدين ، هذا إذا صاحب هذا العلم قوة في العمل والإرادة وعزيمة على ترجمة العلم إلى عمل.

وفي هذا الأمر يقول الإمام ابن القيم ـ رحمه الله تعالى ـ(باختصار): (السائر إلى الله والدار الآخرة، بل كل سائر إلى مقصد، لا يتم سيره، ولا يصل إلى مقصوده إلا بقوتين: قوة علمية ، وقوة عملية. فبالقوة العلمية يبصر منازل الطريق ومواضع السلوك، فيقصدها سائراً فيها ، ويجتنب أسباب الهلاك ومواضع العطب وطرق المهالك المنحرفة عن الطريق الموصل، فقوته العلمية كنور عظيم بيده يمشي في ليلة عظيمة مظلمة شديدة الظلمة ، فهو يبصر بذلك النور ما يقع الماشي في الظلمة في مثله من الوهاد والمتالف، ويعثر به من الأحجار والشوك وغيره ، ويبصر بذلك النور أيضاً أعلام الطريق وأدلتها المنصوبة عليها؛ فلا يضل عنها ، فيكشف له النور عن الأمرين: أعلام الطريق، ومعاطبها وبالقوة العملية يسير حقيقة، بل السير هو حقيقة القوة العملية ؛ فإن السير هو عمل المسافر .

وكذلك السائر إلى ربه إذا أبصر الطريق وأعلامها وأبصر المعاثر والوهاد والطرق الناكبة عنها ، فقد حصل له شطر السعادة والفلاح ، وبقي عليه الشطر الآخر ، وهو أن يضع عصاه على عاتقه ، ويشمر مسافراً في الطريق ، قاطعاً منازلها منزلة بعد منزلة ، فكلما قطع مرحلة استعد لقطع الأخرى ، واستشعر القرب من المنزل ، فهانت عليه مشقة السفر. وكلما سكنت نفسه من كلال السير ، ومواصلة الشد والرحيل، وعدها قرب التلاقي وبرد العيش عند الوصول؛ فيحدث لها ذلك نشاطاً وفرحاً وهمة ، فهو يقول: يا نفس أبشري ، فقد قرب المنزل ، ودنا التلاقي، فلا تنقطعي في الطريق دون الوصول ، فيحال بينك وبين منازل الأحبة ، فإن صبرت وواصلت المسير وصلت حميدة مسرورة جذلة، وتلقتك الأحبة بأنواع التحف والكرامات ، وليس بينك وبين ذلك إلا صبر ساعة ، فإن الدنيا كلها كساعة من ساعات الآخرة، وعمرك درجة من درج تلك الساعة ، فالله الله لا تنقطعي في المفازة؛ فهو والله الهلاك والعطب لو كنت تعلمين.

فمن الناس من يكون له القوة العلمية الكاشفة عن الطريق ومنازلها وأعلامها وعوارضها ومعاثرها ، وتكون هذه القوة أغلب القوتين عليه ، ويكون ضعيفاً في القوة العملية يبصر الحقائق ، ولا يعمل بموجبها ، ويرى المتالف والمخاوف والمعاطب ولا يتوقاها ، فهو فقيه ما لم يحضر العمل ، فإذا حضر العمل شارك الجهال في التخلف ، وفارقهم في العلم ، وهذا هو الغالب على أكثر النفوس المشتغلة بالعلم ، والمعصوم من عصمه الله، ولا قوة إلا بالله .

ومن الناس من تكون له القوة العملية الإرادية ، وتكون أغلب القوتين عليه ، وتقتضي هذه السير والسلوك والزهد في الدنيا والرغبة في الآخرة والجد والتشمير في العمل ، ويكون أعمى البصر عند ورود الشبهات في العقائد والانحرافات في الأعمال والأقوال والمقامات ، كما كان الأول ضعيف العقل عند ورود الشهوات ، فداء هذا من جهله ، وداء الأول فساد إرادته ، وضعف عقله. وهذا حال أكثر أرباب الفقر والتصوف السالكين على غير طريق العلم …

ومن كانت له هاتان القوتان استقام له سيره إلى الله ، ورُجي له النفوذ وقوي على رد القواطع والموانع بحول الله وقوته ، فإن القواطع كثيرة ، شأنها شديد لا يخلص من حبائلها إلا الواحد بعد الواحد، ولولا القواطع والآفات لكانت الطريق معمورة بالسالكين ، ولو شاء الله لأزالها وذهب بها، ولكن الله يفعل ما يريد ، والوقت كما قيل: سيف فإن قطعته وإلا قطعك. فإذا كان السير ضعيفاً والهمة ضعيفة والعلم بالطريق ضعيفاً والقواطع الخارجة والداخلة كثيرة شديدة فإنه جهد البلاء ودرك الشقاء

وشماتة الأعداء ، إلا أن يتداركه الله برحمة منه من حيث لا يحتسب ، فيأخذ بيده ويخلصه من أيدي القواطع. والله ولي التوفيق)1(1) طريق الهجرتين ص174 ـ 176 . اهـ.

2 ـ محاسبة النفس في تقصيرها والتفكر في حقيقة الدنيا وزوالها

قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) (الحشر:18).

وقال سبحانه: (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ) (آل عمران:30) .

وعن ثابت بن الحجاج قال: قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا، وزنوا أنفسكم قبل أن توزنوا، فإنه أهون عليكم في الحساب غداً أن تحاسبوا أنفسكم وزنوا أنفسكم اليوم ، وتزينوا للعرض الأكبر (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ))2(2) محاسبة النفس لابن أبي الدنيا ، ت : عبدالله الشرقاوي ص33 ، وقال المحقق : سند الأثر صحيح ..

إن من أقوى الأسباب المعينة ـ بإذن الله تعالى ـ على تدارك العمر وتذكر الآخرة والاستعداد لها محاسبة النفس ومجاهدتها ، وتدارك العمر القصير قبل حلول الأجل ، والنظر في سرعة زوال الدنيا وفنائها ، والتفكر في الآخرة وبقائها .

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى:

(من حين استقرت قدمه في هذه الدار ، فهو مسافر فيها إلى ربه ، ومدة سفره هي عمره الذي كتب له ، فالعمر هو مدة سفر الإنسان في هذه الدار إلى ربه ، ثم قد جعلت الأيام والليالي مراحل لسفره، فكل يوم وليلة مرحلة من المراحل ، فلا يزال يطويها مرحلة بعد مرحلة ، حتى ينتهي السفر.

فالكيس الفطن هو الذي يجعل كل مرحلة نصب عينيه ، فيهتم بقطعها سالماً غانماً ، فإذا قطعها جعل الأخرى نصب عينيه ، ولا يطول عليه الأمد فيقسو قلبه ، ويمتد أمله ، ويحصر بالتسويف والوعد والتأخير والمطل ، بل يعدّ عمره تلك المرحلة الواحدة فيجتهد في قطعها بخير ما بحضرته ، فإنه إذا تيقن قصرها وسرعة انقضائها هان عليه العمل ، فطوعت له نفسه الانقياد إلى التزود ، فإذا استقبل المرحلة الأخرى من عمره استقبلها كذلك، فلا يزال هذا دأبه حتى يطوي مراحل عمره كلها فيحمد سعيه ، ويبتهج بما أعده ليوم فاقته وحاجته ، فإذا طلع صبح الآخرة وانقشع ظلام الدنيا فحينئذ يحمد سراه وينجاب عنه كراه ، فما أحسن ما يستقبل يومه ، وقد لاح صباحه واستبان)3(3) طريق الهجرتين ص176 ..

ويوضح رحمه الله تعالى ما يعين على المحاسبة فيقول: (ويعينه على هذه المراقبة والمحاسبة معرفته أنه كلما اجتهد فيها اليوم استراح منها غداً ، إذا صار الحساب إلى غيره ، وكلما أهملها اليوم اشتد عليه الحساب غداً ، ويعينه عليها أيضاً معرفته أن ربح هذه التجارة سُكنى الفردوس ، والنظر إلى وجه الرب سبحانه. وخسارتها دخول النار والحجاب عن الرب تعالى ، فإذا تيقن هذا هان عليه الحساب اليوم ؛ فحق على الحازم المؤمن بالله واليوم الآخر ألا يغفل عن محاسبة نفسه والتضييق عليها في حركاتها وسكناتها وخطراتها وخطواتها ، فكل نفس من أنفاس العمر جوهرة نفيسة، لاحظ لها يمكن أن يشترى بها كنز من الكنوز ، لا يتناهى نعيمه أبد الآباد ، فإضاعة هذه الأنفاس ، أو اشتراء صاحبها بها ما يجلب هلاكه: خسران عظيم لا يسمح بمثله إلا أجهل الناس وأحمقهم وأقلهم عقلاً ، وإنما يظهر له حقيقة هذا الخسران يوم التغابن)4(4) إغاثة اللهفان (1 / 80 ، 81 ) .اهـ.

ويتحدث الغزالي رحمه الله تعالى عن إطالة التفكير في الدنيا وفنائها وأثر ذلك في الاستعداد للآخرة ، فيقول: (ولا يسلم الناس من أهوال يوم القيامة إلا من طال فيها فكره في الدنيا، فإن الله لا يجمع بين خوفين على عبد ، فمن خاف هذه الأهوال في الدنيا أمنها في الآخرة ، ولست أعني بالخوف رقة كرقة النساء تدمع عيناك ويرق قلبك حال السماع ثم تنساه على القرب، وتعود إلى لهوك ولعبك، فما هذا من الخوف في شيء، بل من خاف شيئاً هرب منه، ومن رجا شيئاً طلبه ، فلا ينجيك إلا خوف يمنعك عن معاصي الله تعالى ويحثك على طاعته ، وأبعد من رقة النساء خوف الحمقى إذا سمعوا الأهوال سبق إلى ألسنتهم الاستعاذة ، فقال أحدهم: استعنت بالله، اللهم سلِّم سلِّم، وهم مع ذلك مصرون على المعاصي التي هي سبب هلاكهم ، فالشيطان يضحك من استعاذتهم، كما يضحك على من يقصده سبع ضار في صحراء ووراءه حصن ، فإذا رأى أنياب السبع وصولته من بُعد قال بلسانه : أعوذ بهذا الحصن الحصين ، وأستعين بشدة بنيانه وإحكام أركانه ! فيقول ذلك بلسانه وهو قاعد في مكانه ، فأنَّى يغني عنه ذلك من السبع ؟! وكذلك أهوال الآخرة ليس لها حصن إلا قول: لا إله إلا الله صادقاً ، ومعنى صدقه ألا يكون له مقصود سوى الله تعالى ،ولا معبود غيره ، ومن اتخذ إلهه هواه فهو بعيد من الصدق في توحيده وأمره خطر في نفسه)5(5) إحياء علوم الدين ( 4 / 652 ) ..

ويبين الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى أثر النظر والتفكير في إيثار الآخرة على الدنيا ، فيقول: (لا تتم الرغبة في الآخرة إلا بالزهد في الدنيا ، ولا يستقيم الزهد في الدنيا إلا بعد نظرين صحيحين: النظر في الدنيا وسرعة زوالها وفنائها واضمحلالها ونقصها وخستها ، وألم المزاحمة عليها والحرص عليها ، وما في ذلك من الغصص والنغص والأنكاد ، وآخر ذلك الزوال والانقطاع مع ما يعقب من الحسرة والأسف ، فطالبها لا ينفك من همٍّ قبل حصولها ، وهمٍّ في حال الظفر بها، وغمٍّ وحزن بعد فواتها ، فهذا أحد النظرين .

النظر الثاني: في الآخرة وإقبالها ومجيئها ولا بُدَّ ،ودوامها وبقائها ، وشرف ما فيها من الخيرات والمسرات والتفاوت الذي بينه وبين ما هاهنا ، فهي كما قال سبحانه: (وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى) (الأعلى:17).

فهي خيرات كاملة دائمة، وهذه خيالات ناقصة منقطعة مضمحلة. فإذا تم له هذان النظران آثر ما يقتضي العقلُ إيثاره ، وزهد فيما يقتضي الزهد فيه)6(6) الفوائد ص177 ..

نماذج من محاسبة السلف لأنفسهم، وأخرى من حثهم على محاسبة النفس وما تنطوي عليه من تقصير وتفريط.

أ ـ عن إسحاق بن إبراهيم أنه سمع سفيان بن عيينة يقول: (قال إبراهيم التيمي: مثلت نفسي في الجنة آكل من ثمرها وأشرب من أنهارها ، وأعانق أبكارها ، ثم مثّلت نفسي في النار آكل من زقومها ، وأشرب من صديدها ، وأعالج سلاسلها وأغلالها ، فقلت لنفسي: أي نفسي ، أي شيء تريدين؟ قالت : أريد أن أرد إلى الدنيا فأعمل صالحاً ، قال: قلت : فأنت في الأمنية فاعملي)7(7) محاسبة النفس لابن الدنيا . ت :عبدالله الشرقاوي ، وقال المحقق عن الأثر : رجاله ثقات ص39 . .

ب ـ وقال ميمون بن مهران: (لا يكون العبد تقياً حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه ؛ ولهذا قيل : النفس كالشريك الخوّان ، إن لم تحاسبه ذهب بمالك)8(8) إغاثة اللهفان ( 1 / 79 ) . .

جـ ـ وقال الحسن: (المؤمن قوّام على نفسه ، يحاسب نفسه لله ، وإنما خف الحساب يوم القيامة على قوم حاسبوا أنفسهم في الدنيا ، وإنما شق الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة .

إن المؤمن يفاجئه الشيء ويعجبه ، فيقول: والله إني لأشتهيك ، وإنك لمن حاجتي ، ولكن والله ما من صلة إليك ، هيهات هيهات . حيل بيني وبينك ، ويفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه ، فيقول: ما أردت إلى هذا ؟ مالي ولهذا ؟ والله لا أعود إلى هذا أبداً .

إن المؤمنين قوم أوقفهم القرآن ، وحال بينهم وبين هلكتهم، إن المؤمن أسير في الدنيا يسعى في فكاك رقبته ، لا يأمن شيئاً حتى يلقى الله ؛ يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه ، وفي بصره ، وفي لسانه ، وفي جوارحه ، مأخوذ عليه في ذلك كله)9(9) مصنف ابن أبي شيبة ( 13 / 503 ) ..

د ـ وقال مالك بن دينار: (رحم الله عبداً قال لنفسه: ألست صاحبة كذا ؟ ألست صاحبة كذا ؟ ثم زمها ، ثم خطمها ، ثم ألزمها كتاب الله عز وجل، فكان لها قائداً)10(10) إغاثة اللهفان ( 1 / 79 ) . .

هـ ـ وهذه صورة من صور المحاسبة في حوار مع النفس الأمارة بالسوء يصورها الشيخ السعدي رحمه الله تعالى، فيقول على لسان الإيمان: (ويحك يا نفس! إذا أردت أن تعصي الله فلا تستعيني بنعمه على معاصيه، فإن المعصية لا تتأتى إلا من القوة والعافية ، ومَن الذي أعطاها ؟ ولا تتحرك إلا من توالي الشبع ، ومَن الذي يسر الأقوات وآتاها ؟ ولا تكون في العادة إلا بخلوة من الخلق، ومَن الذي أسبل عليك حلمه وستره ؟ ولا تقع إلا بنظره إليك ، فإياك أن تستخفي باطلاعه وعلمه .

أما تعلمين يا نفس أن من جاهد نفسه عن المعاصي وألزمها الخير، فقد سعى في سعادتها وقد أفلح من زكاها ، وأن من أطاع نفسه على ما تريد من الشر ، فقد تسبب لهلاكها ودساها ؟!

ويحك يا نفس !كم بيني وبينك في المعاملة، أنت تريدين هلاكي ، وأنا أسعى لك بالنجاة، وأنت تحيلين عليَّ بكل طريق يوقع في المضار والشرور، وأنا أجتهد لك في كل أمر مآله الخير والراحة والسرور ، فهلمي يا نفس إلى صلح شريف يحتفظ كلٌّ منا على ما لَهُ من المرادات والمقاصد ، ونتفق على أمر يحصل به للطرفين أصناف المصالح والفوائد .

دعيني يا نفس أمضي بإيماني متقدماً إلى الخيرات، متجراً فيه لتحصيل المكاسب والبركات ، دعيني أتوسل بإيماني إلى من أعطاه أن يتمه بتمام الهداية ، وكمال الرحمة ، وأكمل ما نقص منه ، لعل الله أن يتم علي وعليك النعمة ، ولئن تركتيني وشأني لم تعترضي عليَّ بوجه من الوجوه ؛ لأعطينك كلَّ ما تطلبينه من المباحات ، وكل ما تؤمله النفوس وترجوه ، ولئن تركتيني وشأني لأوصلنك إلى خيرات ولذات طالما تمناها المتمنون ، وطالما مات بحسرتها قبل إدراكها الباطلون.

يا نفس، أما تحبين أن تُنقلي من هذا الوصف الدنيء إلى أوصاف النفوس المطمئنة التي اطمأنت إلى ربها ، وإلى ذكره ، واطمأنت إلى عطائه ومنعه ، واطمأنت في جميع تدبيره ، واطمأنت إلى توحيده والإيمان به حتى سلاها عن كل المحبوبات، واطمأنت إلى وعده حتى كانت هي الحاملة للعبد على الطاعات المزعجة له عن المعاصي والمخالفات ، فلا يزال المؤمن مع نفسه في محاسبة ومنافرة حتى تنقاد لداعي الإيمان ، وتكون ممن يقال لها عند الانتقال من هذه الدار: (يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي وَادْخُلِي جَنَّتِي) (الفجر:27 ـ30)11(11) الفتاوى السعدية ص59 ..

و ـ وأختم موضوع المحاسبة وأثره في اليقظة وتدارك العمر بمحاسبة ابن الجوزي ـ رحمه الله تعالى ـ لنفسه ، فيقول: (تفكرت في نفسي يوماً تفكر محقق ، فحاسبتها قبل أن تحاسب، ووزنتها قبل أن توزن ، فرأيت اللطف الرباني ، من بدء الطفولة وإلى الآن ، أرى لطفاً بعد لطف ، وستراً على قبيح، وعفواً عما يوجب عقوبة، وما أرى لذلك شكراً إلا باللسان .

ولقد تفكرت في خطايا لو عوقبت ببعضها لهلكت سريعاً ، ولو كشف للناس بعضها لاستحييت ، ولا يعتقد معتقد عند سماع هذا أنها من كبائر الذنوب ، حتى يظن فيَّ ما يظن في الفساق ، بل هي ذنوب قبيحة في حق مثلي ، وقعت بتأويلات فاسدة ، فصرت إذا دعوت أقول: اللهم بحمدك وسترك عليَّ اغفر لي ، ثم طالبت نفسي بالشكر على ذلك فما وجدته كما ينبغي ، ثم أنا أتقاضى منه مراداتي ولا أتقاضى نفسي بصبر على مكروه، ولا بشكر على نعمة ، فأخذت أنوح على تقصيري في شكر المنعم ، وكوني أتلذذ بإيراد العلم من غير تحقيق عمل به.

وقد كنت أرجو مقامات الكبار فذهب العمر وما حصل المقصود ، فوجدت أبا الوفاء بن عقيل قد ناح نحو ما نحت فأعجبتني نياحته فكتبتها هاهنا ، قال لنفسه : يا رعناء تقوِّمين الألفاظ ليقال: مناظر. وثمرة هذا أن يقال: يا مناظر كما يقال للمصارع الفاره: ضيعت أعز الأشياء وأنفسها عند العقلاء، وهي أيام العمر حتى شاع لك بين من يموت غداً اسم مناظر ، ثم ينسى الذاكر والمذكور إذا درست القلوب! هذا إن تأخر الأمر إلى موتك، بل ربما نشأ شاب أفره منك فموهوا له وصار الاسم له. والعقلاء عن الله تشاغلوا بما إذا انطووا نشرهم وهو العمل بالعلم ، والنظر الخالص لنفوسهم، أف لنفسي ، وقد سطرت عدة مجلدات في فنون العلوم وما عبق بها فضيلة ، إن نوظرت شمخت ، وإن نوصحت تعجرفت ، وإن لاحت الدنيا طارت إليها طيران الرخم ، وسقطت عليها سقوط الغراب على الجيف، فليتها أخذت أخذ المضطر من الميتة ، توفر في المخالطة عيوباً تبلى ، ولا تحتشم نظر الحق إليها. وإن انكسر لها غرض تضجرت ، فإن امتدت بالنعم اشتغلت عن المنعم.

أف والله مني ، اليوم على وجه الأرض وغداً تحتها ، والله إن نتن جسدي بعد ثلاث تحت التراب أقل من نتن خلائقي وأنا بين الأصحاب ، والله إنني قد بهرني حلم هذا الكريم عني ، كيف سترني وأنا أتهتك ، ويجمعني وأنا أتشتت ؟! وغداً يقال : مات الحبر العالم الصالح ، ولو عرفوني حق معرفتي بنفسي ما دفنوني ، والله لأنادين على نفسي نداء المتكشفين معائب الأعداء ، ولأنوحن نوح الثاكلين إذ لا نائح لي ينوح عليَّ لهذه المصائب المكتومة ، والخلال المغطاة التي قد سترها من خبرها ، وغطاها من علمها .

والله ما أجد لنفسي خلة أستحسن أن أقول متوسلاً بها: اللهم اغفر لي كذا بكذا ، والله ما التفت قط إلا وجدت منه سبحانه براً يكفيني ووقاية تحميني مع تسلط الأعداء ،ولا عرضت حاجة فمددت يدي إلا قضاها . هذا فعله معي وهو رب غني عني، وهذا فعلي وأنا عبد فقير إليه، ولا عذر لي، فأقول : ما دريت أو سهوت، والله لقد خلقني خلقاً صحيحاً سليماً ، ونور قلبي بالفطنة ، حتى أن الغائبات ـ والمكتومات تنكشف لفهمي.

فواحسرتاه على عمر انقضى فيما لا يطابق الرضا ، واحرماني لمقامات الرجال الفطناء ، ياحسرتى على ما فرطت في جنب الله ، وشماتة العدو بي، واخيبة من أحسن الظن بي إذا شهدت الجوارح عليَّ ، واخذلاني عند إقامة الحجة ، سخر والله مني الشيطان ، وأنا الفطن. اللهم توبة خالصة من هذه الأقذار ، ونهضة صادقة لتصفية ما بقي من الأكدار ، وقد جئتك بعد الخمسين ، وأنا من خَلِقِ المتاع ، وأبى العلم إلا أن يأخذ بيدي إلى معدن الكرم ، وليس لي وسيلة إلا التأسف والندم ، فوالله ما عصيتك جاهلاً بمقدار نعمك ، ولا ناسياً لما أسلفت من كرمك ، فاغفر لي سالف فعلي)12(12) صيد الخاطر ص464 . اهـ.

الهوامش

(1) طريق الهجرتين ص174 ـ 176 .

(2) محاسبة النفس لابن أبي الدنيا ، ت : عبدالله الشرقاوي ص33 ، وقال المحقق : سند الأثر صحيح .

(3) طريق الهجرتين ص176 .

(4) إغاثة اللهفان ( 1 / 80 ، 81 ) .

(5) إحياء علوم الدين ( 4 / 652 ) .

(6) الفوائد ص177 .

(7) محاسبة النفس لابن الدنيا . ت :عبدالله الشرقاوي ، وقال المحقق عن الأثر : رجاله ثقات ص39 .

(8) إغاثة اللهفان ( 1 / 79 ) .

(9) مصنف ابن أبي شيبة ( 13 / 503 ) .

(10) إغاثة اللهفان ( 1 / 79 ) .

(11) الفتاوى السعدية ص59 .

(12) صيد الخاطر ص464 .

اقرأ أيضا

بعض مشاهد النبأ العظيم (2-2)

من ثمرات اليقين بالآخرة .. سعادة الدارين

من ثمرات محاسبة النفس

 

 

التعليقات غير متاحة