في لحظة من لحظات الضعف قد يخيل للإنسان أنه ليس بالإمكان أحسن مما كان، وفي مرحلة من مراحل الإحباط قد يتصور المحبطون أن هذا الوضع البئيس لا يمكن أن يتحسن.

وتلك الأيام نداولها بين الناس

وحين نغفل عن السنن الكونية نرى من المستحيل تغير الأشياء عن مواضعها، فالقوي يستمر على قوته، والضعيف يلازمه الضعف وهكذا .. ولكن صفحة الواقع المشهود في الماضي والحاضر تؤكد أنه لا ثبات على حال، فالأيام دول، والضعيف يقوى والقوي يضعف، والعزة تتحول إلى ذل، والكثرة إلى قلة وهكذا ..

أجل لقد قيل للمؤمنين (إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) [آل عمران: 140 – 141].

واليوم نحن أحوج ما نكون إلى فقه هذه الآيات ودلالاتها قال المفسرون في تأويل هذه الآيات: من الحكم أن هذه الدار يعطي الله منها المؤمن والكافر والبرَّ والفاجر، فيداول الله الأيام بين الناس، يومٌ لهذه الطائفة ويومٌ للطائفة الأخرى .. إن هذه الدنيا مصيرها الفناء لا البقاء .. أما الآخرة فإنها خالصة للذين آمنوا ..

تلمس الحكمة من إدالة الكافرين على المؤمنيين

ومن حكم الابتلاء تمييز المؤمن من المنافق، لأنه لو استمر النصر للمؤمنين في جميع الوقائع لدخل في الإسلام من لا يريده فإذا حصل في بعض الوقائع والمراحل بعض أنواع الابتلاء تبين المؤمن الحقيقي الذي يرغب في الإسلام في السراء والضراء واليسر والعسر والنصر والهزيمة، ممن ليس كذلك.

ومن الحكم في الإدالة على المؤمنين وهزيمتهم أن يتخذ الله من المؤمنين شهداء، إذ الشهادة عند الله من أرفع المنازل ولا سبيل لنيلها إلا بما يحصل من وجود أسبابها، فالله تعالى بعلمه وحكمته يهيء للمسلمين ما تكرهه نفوسهم ظاهرًا لكنه خير لهم عند ربهم ..

ومن حكم إدالة الكافرين على المؤمنين أن يمحص الله ذنوب المؤمنين بما ينالهم من هم وأذى قد يصل إلى القتل لتتحقق لهم الشهادة ويمحق الله الكافرين. فهذا النصر لهم ظاهرًا يخفي وراءه محقًا وهلاكًا لهم، فإنهم إذا انتصروا بغوا وتجبروا وزادوا طغيانًا وإفسادًا في الأرض، وهذا يعجل عقوبتهم، وانتهاء أمرهم.

العاقبة للمتقين…سنة الله الماضية

إن على المؤمنين ألا يهنوا ولا يحزنوا ولا يحبطوا ما داموا على الحق ثابتين حتى وإن قهرهم وغلبهم عدوهم، وألا ينظروا إلى الهزيمة على أنها حظهم ما داموا أحياء، بل عليهم أن يصبروا ويصابروا ويرابطوا ويفعلوا من الأسباب ما يعذرون به أنفسهم أما النصر فمن عند الله هو أعلم به وهو الذي يوقعه بحكمته متى شاء. (وما النصر إلا من عند الله).

وعليهم أن يتيقنوا بأن الحق منصور، وأن العاقبة للتقوى ..

لقد أوذي وفتن المؤمنون وفيهم الأنبياء، فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا ولا استكانوا حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كذبوا جاءهم نصر الله.

التمحيص والتمييز قبل التمكين

ودونكم هذا المشهد لما بلغه خاتم المرسلين من الأذى حتى تذمر منه من ليس على دينه، وكره أن يشهد فصوله من لم يكن حينها من أصحابه .. ومع ذلك كان الأذى يحمل في طياته الفرج، والشدة تتمحص عن نصر مبين يقول جبير بن مطعم- قبل أن يسلم-: كنت أكره أذى قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم فلما ظننا أنهم سيقتلونه لحقت بدير من الديارات، فذهب أهل الدير إلى رأسهم فأخبروه، فاجتمعت به، فقصصت عليه أمري، فقال: تخاف أن يقتلوه؟ قلت: نعم، قال: وتعرف شبهه لو رأيته مصورًا؟ قلت: نعم، قال: فأراه صورة مغطاة كأنها هو، وقال: والله لا يقتلوه ولنقتلن من يريد قتله، وإنه لنبي، فمكثت عندهم حينًا، وعدت إلى مكة وقد ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة، فتنكر لي أهل مكة، وقالوا: هلم أموال الصبية التي عندك استودعها أبوك، فقلت ما كنت لأفعل حتى تفرقوا بين رأسي وجسدي، ولكن دعوني أذهب فأدفعها إليهم، فقالوا: إن عليك عهد الله وميثاق أن لا تأكل من طعامه، فقدمت المدينة، وقد بلغ رسول الله الخبر، فدخلت عليه فقال لي فيما يقول: إني لأراك جائعًا هلموا طعامًا، فقلت لا آكل خبزك، فإن رأيت أن آكل أكلت، وحدثته، قال: فأوف بعهدك1(1) (معجم الطبراني 1609، عن سير أعلام النبلاء 3/ 96، 97)..

فإن قيل إن هذه الرواية فيها ضعف لضعف راويها ابن لهيعة فإن الروايات الصحيحة في إيذاء المشركين للنبي والمؤمنين أكثر من أن تحصر. وأصح من ذلك وأبلغ قوله تعالى: (وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) [الأنفال: 30].

وفي النهاية انتصر الحق ومُكن للمستضعفين، وتهاوت عروش الظلم وانتصر المسلمون ودخل الناس في دين الله أفواجًا.

انتصار العقيدة انتصار لأصحابها

واليوم ورغم الظلم والظلمات وعلى أنقاض المآسي ومن أشلاء المظلومين .. تتبدى في الأفق صورة أخرى تكاد تحول الموازين، وتلمح إلى دوْلِ الأيام .. ففي الكيان الصهيوني المحتل اختلال وفرقة تحل بهم.

وإذا كانت هذه المفاجآت النوازل والمتغيرات على مستوى اليهود، فتشهد بلاد النصارى كوارث طبيعية واختناقات واختلافات يظهر لنا بعضها وربما خفي عنا أضعافها ورغم التضييق على الإسلام والمسلمين إلا أن الإسلام ورغم التنصير والحماس لهدم الإسلام إلا أن السحر ينقلب على الساحر .. ويعود المنصِّر مسلمًا داعيًا للإسلام ولئن كانت أخبار الداخلين في الإسلام من الكثرة بحيث لا يمكن حصرهم، ومن أراد البيان فليتصل بمكاتب توعية الجاليات، ليعلم كم يسلم يوميًا ..

قصة …. ودلالة

إلا أنني هنا أقف مذكرًا بقصة القس النصراني الذي أسلم، وتحدث الناس عن قصته وتناولت وسائل الإعلام خبره، وكيف كان وكيف انتهى به المسار فقالت وقال: تخرجت من الفاتيكان (معقل التنصير في العالم) وبدأت أنتقل من بلد إلى بلد لتنصير المسلمين، وكانت أكثر زياراتنا لمصر فإنها مصدر من مصادر قوة المسلمين، ثم جلست يومًا مع مجموعة من القساوسة والمنصرين، فقلت لهم: لقد طفنا أكثر بلاد الأرض، ولم يبق إلا جزيرة محمد صلى الله عليه وسلم لم تصل إليها دعوة المسيح- بزعمهم- ولا بد من اقتحامها، فهي معقل الإسلام العنيد، فخططت ودبرت للوصول فنجحت في ذلك، فلما وصلت بدأت أبحث عمن يعطيني نسخة مترجمة للقرآن لأكتشف أسرار الإسلام وأتعرف على أخطاء القرآن فتكون هي طريقي لتنصير المسلمين ومحادثتهم .. حتى حصلت على النسخة المطلوبة بصعوبة، فأخذتها، وأغلقت الأبواب وجلست ولا أحد يراني إلا الله، بدأت أقرأ وفي نيتي تتبع واستخراج الأخطاء، فإذا بسورة الفاتحة تحيرني وتأخذني إلى عالم آخر ثم أول مقطع من سورة البقرة يتحداني ويخبرني أن هذا الكتاب خال من الأخطاء، مما زاد في حرصي على القراءة والتدبر، وبدأت أقفال الكفر تنحل وتتفتح وبدأ ظلام الشرك ينجلي ..

وبدأ القرآن يجاوبني عن كل الأسئلة والاستفسارات، وبدأت أقول لنفسي من هذا الذي يتحداني؟ ومن هذا الذي عنده كل هذه القدرة وكل هذه الصلاحيات حتى يتكلم في ملكوت الأرض والسموات، فجاءني الجواب من أعماق قلبي: أنه الله جل جلاله الذي قال في القرآن: (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا) [الفرقان:1-2]2(2) (مجلة البيان ذو القعدة 1426 هـ من أجل كلمة الله/ عبد الله القفاري)..

النصر حليف المؤمنين وإن طال الزمان

إن الإسلام دين الله منتصر طال الزمان أم قصر وكلمته ظاهرة ولو كره المشركون، والبقاء للحق، والعاقبة للتقوى، وجند الله هم الغالبون، ذلكم وعد غير مكذوب ..

ولكن للنصر أسباب، وللتمكين شروط .. فمتى أقام المسلمون الصلاة وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ومكن لهم، ومتى ما غيروا ما بأنفسهم غير الله ما بهم.

إن مراحل الضعف مرت بالأمة من قبل ومن بعد ولكن الضعف إذا كان محفزًا للنهوض كان هذا الضعف وباءً عارضًا تسترد الأمة منه عافيتها بعد حين.

ومرت الأمة بظروف من الفرقة والتناحر .. ولكن الفرقة إذا كانت درسًا بليغًا وهاديًا إلى الاجتماع والتآلف كانت هذه الفرقة نزغة من نزغات الشيطان لا تلبث أن تكون صفاء ومودة، واجتماعًا وتوحدًا على الحق ..

وهكذا تستفيد الأمة من دروس الضعف ومن أيام البلاء كما تستفيد من دروس القوة وتتعامل مع السراء.

النصر لا يأتي إلا بجهد ومشاق

إذًا الأمة الراشدة تبتلى لتتعافى، وتحاصر لتتفجر طاقاتها عن مبادرات نافعة، وتمتحن وتصهر ليتميز الخبيث فيها من الطيب ألا وإن من علائم ذل الأمة وهو إنها أن تتزين ظاهرًا وباطنها خراب وتلبس جلود الضأن وهي تتحرك بنفسية الذئاب .. أولئك قوم مقتهم الله، وأولئك قوم يفتنون ..

جاء في كتاب الزهد للسجستاني وبالإسناد عن ابن المبارك عن بكار عن ابن منبه قال:

قال الله تبارك وتعالى فيما عير به الأحبار- أحبار بني إسرائيل- تفقهون لغير العبادة، وتعملون لغير العمل، وتلتمسون الدنيا بعمل الآخرة وتنقون القذاة من شرابكم وتبتلعون أمثال الجبال من الحرام، وتثقلون الدين على الناس أمثال الجبال ولا تعينونهم برفع الخناصر، وتلبسون جلود الضأن وتخفون أنفس الذئاب، وتبيضون ثيابكم فتنقصون بذلك مال اليتيم والأرملة، قال تعالى «فبعزتي حلفت لأخبرنكم بفتنة يضل فيها عقل ذي العقل وحكمة الحكيم»3(3) (الزهد لأبي داود السجستاني/ 31 بإسناد جيد كما قال المحقق)..

هنا … وفي ظل هذه الظروف والفساد المستشري والضعف والفساد الظاهر والباطن يتذكر أهل القرآن قوله تعالى: (أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ) [التوبة: 126].

إن الأمة الراشدة هي التي تستفيد من دروس الهزيمة كما تستفيد من دروس النصر، وستظل الأمة تعاني ويلات الذل والهزيمة، حتى تفكر في المخارج الصحيحة للطوارئ .. وكلما اعتمدت الأمة على البشر الضعيف وكلها الله إلى ما توكلت عليه، وكلما توكلت على الله والتجأت إليه أجارها وعافاها وغير ما بها .. لا ينظر الله إلى الصور والأجساد ولكن ينظر إلى القلوب والضمائر ولا ينفع بياض الثوب إن كان القلب أسودًا .. كان أبو عبيدة رضي الله عنه يسير في الجيش ويقول: «ألا رب مبيض لثيابه قد دنس لدينه ألا رب مكرم لنفسه وهو لها مهين، ألا بادروا السيئات القديمات بالحسنات الحديثات، فلو أن أحدكم أساء ما بين السماء والأرض ثم عمل حسنة لعلت سيئاته حتى تقهرهن»4(4) (الزهد لأبي داود السجستاني/ 139 بإسناد رجاله ثقات)..

مراجعة واقعنا ونفوسنا

لقد اختلت الموازين الحقة في دنيا الناس، وأصبحت النظرة في غالبها نظرة مادية، وبات تقييم الناس على حسب ما عندهم من الدرهم والدينار لا على حسب ما لديهم من الإيمان والتقى ..

وتلك موازين تطيش لكنها لا تلبث أن تنتهي .. يروى أن ملكًا من بني إسرائيل ركب يومًا في موكب له فتشرف الناس فنظروا إليه حتى مر برجل يعمل شيئًا مكبًا عليه، فلم يرفع رأسه إليه، فوقف عليه فقال: كل الناس تشرف علي وتنظر إلي، من أنت؟ قال الرجل إني رأيت ملكًا قبلك كان على هذه القرية، مات هو ومسكين، فدفن الرجل إلى جنبه فلم أزل أتعاهدهما كل يوم أنظر إليهما حتى تفرقت أوصالهما، وكشفت الريح عن قبورهما ثم اختلط رأس هذا ورأس هذا، وعظام هذا وعظام هذا، فلم أعرف رأس من رأس الناس، فلذلك لم أنظر إليك5(5) (الزهد للسجستاني/ 30 وسنده ثقات)..

وإذا كانت الآخرة خيرًا وأبقى فأهلها هم من قال الله عنهم: (تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) [القصص: 83].

أما الطغاة والمفسدون في الأرض فأولئك قال الله عنهم: (لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلاَدِ * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ) [آل عمران: 196، 197].

الهوامش

(1) (معجم الطبراني 1609، عن سير أعلام النبلاء 3/ 96، 97).

(2) (مجلة البيان ذو القعدة 1426 هـ من أجل كلمة الله/ عبد الله القفاري).

(3) (الزهد لأبي داود السجستاني/ 31 بإسناد جيد كما قال المحقق).

(4) (الزهد لأبي داود السجستاني/ 139 بإسناد رجاله ثقات).

(5) (الزهد للسجستاني/ 30 وسنده ثقات).

المصدر

كتاب: “شعاع من المحراب” ، د. سليمان بن حمد العودة (12/149-156).

اقرأ أيضا

أسباب النصر وأصول التمكين (1-2)

أسباب النصر واصول التمكين (2-2)

سنن النصر .. حتى يغيروا ما بأنفسهم

سنن الإعداد والتدافع

من سنن النصر: “وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ”

التعليقات غير متاحة