الإيمان بالقدر أحد أركان الإيمان الستة، ولا يقبل الله من عبدٍ صرفاً ولا عدلاً حتى يؤمن به وفق ما جاءت به النصوص، وللإيمان به معالم منها: الإدراك الجازم بأن الله عز وجل حكم عدل لا يظلم أحداً، والاعتقاد الجازم بأنه سبحانه قد علم كل شيء أزلاً، وأنه قد أحاط بكل شيء علماً، وبهذا يصل العبد إلى كمال الراحة والطمأنينة فيما قدره الله تعالى له، فلا يجزع من مصيبة، ولا يضرب نصوص الشرع بعضها ببعض.

المعالم الكبرى في مسألة الإيمان بالقضاء والقدر

إن هذه المسألة لابد من ضبطها بتلك المعالم حتى يستقيم فهم الإنسان لهذه القضية وإيمانه بهذا الركن على الوجه الصحيح؛ لأن كثيراً ممن انحرف في هذا الباب إنما انحرف لاختلال معلم من هذه المعالم التي سأذكرها، وهذه المعالم هي ما يلي:

اليقين بعدل الله تعالى

أولاً: اليقين التام بعدل الله تبارك وتعالى وأن الله تعالى لا يظلم أحدا، وهذه قضية كبرى يجب على العبد أن يؤمن بها إيماناً عميقا من غير شك ولا ريب، فالله سبحانه وتعالى حكم عدل لا يظلم الناس شيئاً، ويبنى هذا على عدد من الأسس:

أولاها: كمال صفات الله سبحانه وتعالى، فهو العزيز الحكيم، وهو الغفور الرحيم، وهو العليم القدير، وهو سبحانه وتعالى الحكم العدل، ومن ثم فالإيمان بهذه الأسماء والصفات يجعل قلب المؤمن يقر بأن الله كامل، ويقر بأن الله لا يمكن أن يظلم أحدا.

والأساس الثاني في قضية عدل الله أن الله سبحانه وتعالى لا يمكن أن يظلم أحداً من الناس، قال تعالى: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ) [الأنبياء:47]، ويقول الله تبارك وتعالى عن نفسه: (وَلا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) [الكهف:49]، قضية يقينية لابد أن تكون مستقرة في قلب الإنسان، أن الله لا يظلمك، بل إنه تعالى حرم على نفسه الظلم فقال تعالى -كما في الحديث القدسي الصحيح-: (يا عبادي! إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا)، والذي يحتج بالقدر ويعترض على ربه سبحانه وتعالى هو بلسان حاله أو بلسان مقاله متهم لربه سبحانه وتعالى بهذا؛ لأنه يعترض على ربه، فهو يزعم أن التقدير ظلم من الله تبارك وتعالى.

والثالث من قضايا هذا العدل أنه تعالى غني عن العالمين، فهو سبحانه وتعالى ليس بحاجة إلى عباده، ليس بحاجة إليهم حتى يظلمهم، ولو تأملنا أحوال العباد لوجدنا بعضهم يظلم بعضاً لأمور: إما لحب العلو في الأرض، أو لأجل أن يأخذ أموالهم، أو ليتسلط عليهم، أو لغير ذلك من الأسباب، أما ربنا سبحانه وتعالى فهو غني عن العالمين، لا تنفعه طاعة المطيعين ولا تضره معصية العاصين، ومن ثم قال الله تبارك وتعالى في الحديث القدسي الصحيح: (يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئا، يا عبادي! لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئا).

إذاً فربنا سبحانه وتعالى غير محتاج إلى أحد، ومن ثم فهو ليس بحاجة إلى أن يظلم أحداً من الخلق، وبهذه القضية وبهذا المعلم وهذا الميزان يستريح الإنسان؛ لأن قلبه في هذه الحالة يستقر على يقين تام أن الله تبارك وتعالى في عليائه بأسمائه وصفاته غني عن العالمين، فهو غير محتاج إليهم، وأنه سبحانه وتعالى لا يمكن أن يظلمك أبدا، فإذا وقعت في معصية فتب إلى الله، وإذا أصابتك مصيبة أو رأيت الناس قد اختلفوا في أرزاقهم أو أحوالهم فلا تعترض على الله أبدا، وإنما أيقن يقيناً تاماً أن الله حكم عدل لا يظلم أحدا.

وهذه القضية وهذا المعلم من المعالم المهمة التي يجب على كل واحد منا أن يذكر بها نفسه وأن يربي عليها من حوله؛ لأن القلب إذا استقر على ذلك استراح، ومن ثم كان السلف الصالح رحمهم الله تعالى يقررون هذه القضية مع أنها مقررة في الكتاب والسنة، لكن كانوا يقررونها ويعلمونها من حولهم.

روى أبو داود وابن ماجه وابن أبي عاصم والإمام أحمد رحمهم الله تعالى بإسناد حسن عن ابن الديلمي قال: أتيت أبي بن كعب فقلت له: وقع في نفسي شيء من القدر فحدثني لعل الله جل ثناؤه أن يذهبه من قلبي.

فقال: -أي: قال له أبي بن كعب -: (لو أن الله جل ثناؤه عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، ولو رحمهم كانت رحمته خيراً لهم من أعمالهم، ولو أنفقت مثل أحد ذهباً في سبيل الله ما تقبله الله منك حتى تؤمن بالقدر وتعلم أنما أصابك لم يكن ليخطئك وما أخطأك لم يكن ليصيبك، ولو مت على غير هذا لدخلت النار).

فتأمل هذا التعليم، لو أن الله عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم، قضية إيمانية؛ لأن الله غير محتاج إلى الخلق: (إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ) [العنكبوت:6].

لهذا فإن الإنسان إذا استقر عنده هذا لا يكون في قلبه شيء، بل يؤمن بالقدر ولا يصبح في قلبه أي اعتراض على ما قدره الله سبحانه وتعالى وكتبه، وليس هذا منهج أبي بن كعب فقط، بل إن ابن الديلمي ذهب إلى مجموعة من الصحابة فقالوا له مثل ذلك، ذهب إلى عبد الله بن مسعود فقال له مثل ما قال أبي، وذهب إلى زيد بن ثابت فقال له مثل ذلك، وذهب إلى حذيفة بن اليمان فقال له مثل ذلك، فدل هذا على أن هذه الحقيقة مستقرة في نفوس أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد روى مسلم عن أبي الأسود الدؤلي رحمه الله تعالى قال: قال لي عمران بن حصين -وعمران بن حصين هو الصحابي الجليل المعروف-: أرأيت ما يعمل الناس ويكدحون أشيء قضي عليهم من قدر قد سبق أو مما يستقبلون مما أتاهم به نبيهم وثبتت عليهم به الحجة؟ يقول أبي الأسود: قلت لا.

بل شيء قضي عليهم.

قال: فهل يكون ذلك ظلماً؟ قال: ففزعت من ذلك فزعاً شديداً وقلت: ليس شيءٌ إلا وهو خلق الله وملكه (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) [الأنبياء:23].

فانظر إلى تسليم هذا التابعي (لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ) [الأنبياء:23] بعد أن فزع من هذا الكلام، يقول: فقال لي عمران بن حصين: يرحمك الله! إني -والله- ما سألتك إلا لأحزر عقلك.

أي: لأختبر عقلك.

رجلاً من مزينة أتى إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (أرأيت ما يعمل ويكدح الناس فيه اليوم أشيء قضي عليهم ومضى عليهم من قدر قد سبق، أو فيما يستقدمون مما أتاهم به نبيهم وثبتت عليهم به الحجة؟ قال: لا.

بل شيء قضي عليهم ومضى عليهم.

قال: ففيم العمل إذاً؟ قال: من كان خلقه الله لواحدة من المنزلتين فسييسره، وتصديق ذلك في كتاب الله عز وجل: (وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) [الشمس:7 – 8]).

إذاً هل هذا ظلم؟ لا.

وهل يترك الإنسان العمل؟ لا.

وإنما يعمل، وكل ميسر لما خلق له، فإذا عمل فكيف يعمل هذا الإنسان والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: (اعملوا فكل ميسر لما خلق له)، كيف يعمل الإنسان وهو يجهل قدر الله؟

والجواب

يعمل الإنسان على مقتضى شرع الله سبحانه وتعالى، فيعمل بالطاعات ويبتعد عن المعاصي، والله سبحانه وتعالى ييسر الجميع لما خلقوا له.

هذا هو المعلم الأول من معالم الإيمان بالقضاء والقدر، وأهميته تنبع من أن الإيمان به والتصديق يعين الإنسان على الرضا بالقضاء وعدم الاعتراض.

الإيمان بعلم الله تعالى السابق المحيط بكل شيء

المعلم الثاني: هو علم الله تبارك وتعالى الأزلي المحيط بكل شيء، وهذه قضية؛ لأن من كماله سبحانه وتعالى أنه العليم، وأنه متصف بصفة العلم أزلاً قبل أن يخلقنا وقبل أن يخلق السماوات وقبل أن يخلق العرش والكرسي وغير ذلك من المخلوقات؛ لأنه سبحانه وتعالى هو الأول الذي ليس قبله شيء، فمن صفات كماله تبارك وتعالى أنه قد أحاط بكل شيء علماً منذ الأزل.

وعلمه تبارك وتعالى كامل بما كان وما سيكون، بل إنه سبحانه وتعالى علم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون، وهذا الكمال لله سبحانه وتعالى خاصة، أما الخلق فمهما بلغوا فإنهم لا يعلمون إلا ما علمهم الله سبحانه وتعالى، وعلم الله سبحانه وتعالى المحيط بكل شيء وبما كان وما لم يكن لو كان كيف كان يكون يجعل الإنسان يسلم بالقدر الصادق؛ لأن الله علم ما الخلق عاملون.

ولهذا فإن الله تبارك وتعالى علم ما لم يكن لو كان كيف كان يكون، كما قال تعالى عن الكفار الذين يطلبون العودة إلى الدنيا إذا وقفوا بين يدي ربهم سبحانه وتعالى ورأوا حقائق الأمور، فرأوا انقسام الناس إلى أهل الجنة وأهل النار إذا رأوا هذه الحقيقة قالوا: يا ربنا! أعدنا إلى الدنيا، فلو أعدتنا إلى الدنيا بعدما عرفنا الحقائق ورأيناها بأم أعيننا لرجعنا وتبنا وعبدناك حق عبادتك.

فماذا قال الله سبحانه وتعالى وهو العليم بهم؟ قال: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ) [الأنعام:28]، فهذا ليس تقديراً، وإنما هو خبر وعلم حقيقي بأن هؤلاء لو أعيدوا إلى الدنيا مرة ثانية لعادوا لما نهوا عنه ولعادوا إلى الشرك والكفر بالله سبحانه وتعالى.

لأن الواحد منهم قد يتسلط عليه شيطانه فيما لو عاد إلى الدنيا، فيقول: انظروا! لقد قلنا لكم: إن البعث كذب، ها نحن قد عدنا إلى الدنيا مرة ثانية! ثم يعود إلى كفره وضلاله.

لكن قوله تعالى: (وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ) [الأنعام:28] حقيقة لا شك فيها.

إذاً علم الله سبحانه وتعال قد أحاط بكل شيء، فما تصنعه أنت -أيها الإنسان- وما تفعله وما يعمله الناس جميعاً وما يقع من أي شيء من شجرة تنبت أو بحر يموج أو سمكة تغوص أو حشرة تمشي أو غير ذلك كل هذا في علم الله تبارك وتعالى الأزلي (وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا) [الأنعام:59]، فأي ورقة في شجرة في أي مكان من الدنيا في جزيرة أو جبل أو شعب أو فضاء أو غير ذلك إذا سقطت هذه الورقة فإن الله سبحانه وتعالى يعلمها، فكيف لا يعلم بحالك أنت أيها المخلوق المكلف؟! إذاً علم الله الأزلي أحاط بكل شيء، وعلم الله الأزلي يقتضي بقية المراتب الأربع التي هي أسس الإيمان بالقضاء والقدر.

فمراتب القدر أربع: الأولى: العلم.

الثانية: الكتابة.

أي أن الله سبحانه وتعالى كتب في اللوح المحفوظ ما هو كائن إلى يوم القيامة على مقتضى علمه.

الثالثة: المشيئة.

فما شاء الله كان وما لم يشأ لم يكن.

الرابعة: الخلق.

أن الله سبحانه وتعالى خالق كل شيء.

ومن هنا يتبين ضلال من أراد أن يخرج من قضية القدر مثل المعتزلة وغيرهم بقولهم: إن الإنسان له قدرة مستقلة وله إرادة مستقلة عن الله.

هكذا زعموا أنهم يحلون مشكلة القدر بأن يقولوا: إن الإنسان له إرادة مستقلة، فإذا أراد الله أمراً وأراد المخلوق أمراً فالذي يقع إرادة المخلوق؛ لأن المخلوق هو الذي يريد الطاعات والمعاصي.

ويقولون أيضاً: إن الله لا يخلق أفعال العباد، وإنما الذي يخلق أفعال العباد هم العباد أنفسهم.

فنقول لهم: ماذا تقولون في علم الله؟

فالإمام الشافعي رحمه الله تعالى قال كلمة مهمة جداً في هذا الباب، وهي قوله: ناظروا القدرية -يعني المعتزلة- بالعلم، فإن أنكروه كفروا وإن أقروا به خصموا.

هذه العبارة هي التي أردت أن أوضحها هنا في قضية أهمية علم الله سبحانه وتعالى والإيمان به كمعلم بارز من المعالم.

فإننا نقول للقدري المعتزلي الذي يقول: إن الإنسان حر وله إرادة مستقلة نقول له: ماذا تقول في علم الله الأزلي الكامل؟ هل تؤمن به أو لا؟ فماذا سيقول؟ إن أنكره وقال: لا أؤمن بعلم الله الأزلي كفر؛ لأن هذا مذهب الغلاة من القدرية الذين أنكروا العلم فكفرهم الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم وكفرهم أئمة السلف، فهم الذين يقولون: الأمر بالنسبة لله أنُفٌ، أي: لا يعلمه إلا بعد وجوده.

فالمعتزلي إن أنكر العلم كفر، وإن أقر به -وهو أصلاً يقر به؛ لأنَّه يؤمن بالعلم ويؤمن بالكتابة- إن أقر بالعلم خصم، فنقول له: أنت قلت: إن الإنسان له إرادة مستقلة عن إرادة الله، فله أن يفعل هذا أو يفعل هذا.

فنقول لك: علم الله بما سيفعله العبد واحد أو متعدد؟ فسيقول: علم الله واحد.

فهل سيخرج العبد عن علم الله؟ هل سيفعل العبد فعلاً يخالف علم الله؟ فسيقول: لا يفعل العبد فعلاً يخالفه ما في علم الله.

فنقول له: إذاً ما فائدة الحرية التي أعطيتها إياه إذا كان علم الله الأزلي السابق قد أحاط بكل شيء، وإذا كان العبد لم يخرج عما في علم الله سبحانه وتعالى.

لهذا فلا مخرج في قضية القضاء والقدر إلا بالإيمان به على منهج السلف الصالح وإثبات علم الله الأزلي المحيط بكل شيء، إذاً عندنا معلمان بارزان: أولهما: عدل الله وأن الله لا يظلم.

والثاني: علم الله المحيط بكل شيء، وأن كل ما يجري فإنما يجري على وفق علم الله الأزلي.

الإيمان بقيام حجة الله سبحانه وتعالى على عباده

المعلم الثالث: هو قيام حجة الله سبحانه وتعالى على عباده.

فالإنسان لو تأمل حاله لوجد نفسه يفعل بإرادته وقدرته، ولوجد نفسه غير مكره، ولو أكره على أمر لم يحاسب عليه، وقيام حجة الله على عباده جاءت بأمور أربعة:

أولها: أن العبد قد أعطاه الله قدرة بها يفعل، ولذلك يفعل العبد أفعاله بقدرته، فهو الذي يذهب ويصلي ويصوم، وهو الذي -أيضاً- يفعل المعاصي بقدرته.

الثاني: أن له مشيئة (لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ) [التكوير:28]، وهذه المشيئة أعطاه الله إياها، وهي خاضعة لمشيئة الله سبحانه وتعالى، قال تعالى: (وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ) [التكوير:29]، لكن العبد له مشيئة بها يفعل، فلو فعل فعلاً بغير مشيئة فإنه لا يحاسب.

الثالث: أن الله سبحانه وتعالى لا يكلفه إلا بعد البلوغ ووجود العقل، أي أن التكليف مربوط بالعقل والبلوغ، فغير العاقل لا يكلف، وغير البالغ أيضاً لا يكلف، فانتبه لمعالم قيام الحجة.

الرابع من معالم قيام الحجة: أن الله سبحانه وتعالى بين لك الطريق، فأرسل إليك الرسل وأنزل عليهم الكتب، فبينوا لك الطريق بياناً واضحاً مثل الشمس، ومن ثم فإن رسل الله سبحانه وتعالى قامت بهم حجة الله تبارك وتعالى على عباده، فإذا تأملت هذا الإنسان وجدته عنده قدرة، وله إرادة، وهو بالغ عاقل، وقد بينت له الطريق والمحجة فقيل له: افعل هذا ولا تفعل هذا، إن فعلت ما أمرت به فلك الأجر، وإن عصيت وتركت أو فعلت ما نهيت عنه فعليك الوزر.

بيان واضح أقام الله به الحجة على عباده، ومن ثم فهذا الإنسان لو تأملت أحواله في هذه الحياة لوجدتها تنقسم إلى قسمين:

قسم يجري على الإنسان في هذه الحياة لا إرادة له فيه، فهذا لا يحاسب عليه، مثل كون الإنسان وجد وولد في يوم كذا من أبوين هما فلان وفلان، وعمره كذا، وطوله كذا، وشكله ولون بشرته كذا، فلا يحاسب الإنسان على هذه الأشياء فيؤتى به يوم القيامة فيقال له: لماذا أنت قصير؟ أو لماذا أنت طويل؟ كذلك أيضاً ما يجري على الإنسان بغير إرادة منه، فإذا مرض وما استطاع أن يذهب إلى المسجد، أو إذا أصابته مصيبة أو غير ذلك من الأمور هل يحاسب الإنسان عليها؟ لا؛ لأنها أمور جرت عليه بغير إرادة منه فلا يحاسب عليها.

فمن وقعت عليه مصيبة يؤمر بالصبر؛ لأنَّه يؤجر على ذلك، لكن لا يقال له: لماذا وقعت عليك المصيبة؟ فهذا هو القسم الأول من أقسام ما يجري عليك أنت أيها الإنسان، فهذا قسم لا تحاسب عليه؛ لأنه لا إرادة لك فيه، وإنما جرى عليك بغير إرادة.

القسم الثاني: هو ما يفعله العبد بإرادته، أي: ما يقدم عليه الإنسان بإرادته وقدرته فيفعله، فهو يتكلم بإرادته، ويمد يده بإرادته، ويمشي برجله بإرادته، ويفعل بجسمه بإرادته، فهذه الأشياء التي تقع بإرادته هي موطن التكليف والحساب.

إذاً فهنا يتبين أن الإنسان الذي يحتج بالقدر ثم يأتي ليقول: أنا مكره وأنا ملزم نقول له: لا.

يأتي وقد فعل المعصية فنقول له: هل فعلت المعصية بإكراه؟ هل أكرهك أحد عليها وأنت فعلتها؟ فيقول: قطعاً أنا الذي ذهبت إلى المعصية.

إذاً لا تلومن إلا نفسك، ولا حجة لك على ربك سبحانه وتعالى في هذا، وهكذا بقية أمور الدين.

حكمة الله تعالى في القدر

المعلم الرابع من معالم الإيمان بالقضاء والقدر هو: هل لله في القدر حكمة وسر؟ نحن نقول: يجب التسليم بالقضاء والقدر، والنبي صلى الله عليه وسلم ورد عنه النهي عن الخوض في القضاء والقدر فقال: (إذا ذكر القدر فأمسكوا).

لكن هذا النهي لا ينصب على الإيمان بالقضاء والقدر ومعرفته بأنه ركن من أركان الإيمان مذكور في القرآن وفي السنة، فالإيمان به وتوضيحه على منهاج صحيح هذا أمر واجب؛ لأن القضاء والقدر أحد أركان الإيمان الستة، وإنما نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن الخوض في القدر على وجه الباطل، مثل أن يحتج به على المعاصي ولا حجة له، ومثل أن يتمادى في القدر ويقول: هذا مجبور، هذا مخير.

أو يعترض على القدر وعلى ما قدره الله سبحانه وتعالى، فالخوض في القدر على منهاج أهل الأهواء أو على طريقة الاعتراض على قدر الله سبحانه وتعالى هو الذي نهى عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، فهذه قضية.

القضية الثانية: هي أن الله سبحانه وتعالى له حكمة في خلق عباده وابتلائهم وامتحانهم.

لذلك فإن الله سبحانه وتعالى هو الذي أراد أن يوجد العباد على هذه الحالة، أن يكون منهم المؤمن والكافر، والمطيع والعاصي، وإلا فلو شاء الله سبحانه وتعالى لجعل الناس كلهم مهتدين، قال تعالى: (وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ) [الأنعام:35]، ولو شاء لجعل الناس مثل الملائكة لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون.

إذاً لماذا جعلهم هكذا؟ لله في ذلك حكمة قد ندرك بعضها وقد لا ندرك كثيراً منها، فهو سبحانه وتعالى له حكمة في أن يوجد هذا الصراع بين الخير والشر، وبين الحق والباطل، وبين الكفر والإيمان، حتى يبتلي عباده فيبتلي بعضهم ببعض.

ومعرفة حكمة الله سبحانه وتعالى في هذا تجعل الإنسان يؤمن بقدر الله الأزلي، ومن ثم فإن الإنسان لا يعترض على سر الله في القدر، فما هو سر الله في القدر؟ يقول الأئمة رحمهم الله تعالى: سر الله في القدر كونه أمات وأحيا، وأفقر وأغنى، وأذل وأعز.

أي: كونه سبحانه وتعالى أراد بحكمته أن يوجد الناس على هذه الحال، فكما أن الإنسان لا يعترض ويقول: لماذا فلان مات وعمره عشر سنوات بينما فلان مات وعمره تسعين سنة؟ وذلك لأن الموت والحياة لله، فكذلك كونه أفقر وأغنى، فهذا غني وهذا فقير، فهذا لله سبحانه وتعالى، وكذلك كونه سبحانه وتعالى أضل وهدى، وجعل الناس هكذا هذا لله سبحانه وتعالى فلا تعترض عليه، فلا يجوز لإنسان أن يقول: لماذا لم يجعل الله الناس كلهم أغنياء؟ ولماذا لم يجعلهم كلهم يعيشون ألف سنة مهتدين؟ فهذه أسئلة فيها اعتراض على أصل حكمة الله سبحانه وتعالى في المقدورات، ومن ثم فإن المؤمن هو الذي يسلم بقضاء الله سبحانه وتعالى وقدره.

المصدر

محاضرة بعنوان: “معالم الإيمان بالقضاء والقدر وأثره في حياة المسلم” للشيخ عبد الرحمن صالح المحمود رحمه الله.

اقرأ أيضا

عقيدة القضاء والقدر .. بين الغلو والجفاء

مفهوم القضاء والقدر

تصديق الأحكام القدرية للأحكام الشرعية

التعليقات غير متاحة