مقدمة

إن أحق الحق وأعدل العدل: توحيد الله عز وجل والاستسلام له والخضوع لأمره، ومن  رحمته سبحانه أن جعل ذالك مستقرا فى فطر عباده المكلفين، وكلما اجتالتهم الشياطين عن هذا الحق وخيم الظلم والشرك على الناس أرسل إليهم سبحانه الرسل وأنزل عليهم الكتب لإنقاذهم من الظلمات إلى النور حتى لا يشقوا ويندوا عن هذا الحق الأصيل، الذي قام عليه الكون كله، والذي به تحصل السعادة البشرية وصلاحها ونماؤها.

ولحكمة عظيمة أراد الله عز وجل أن يوجد الصراع بين الحق المتمثل في التوحيد وطاعة الله عز وجل وبين الباطل المتمثل في الشرك وما يفرزه من الظلم بشتى صوره . وحقت كلمة الله عز وجل في عباده وشهد تاريخ البشرية ذلك الصراع الطويل بين حزب الله المفلحين المقسطين وبين حزب الشيطان الظالمين الخاسرين، واقتضت حكمة الله عز وجل أن يستمر هذا الصراع إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها .

ومن رحمته سبحانه أن لا يترك الظلم والظالمين بلا مدافع بل يقيض الله عز وجل له من يدفعه حتى تكون العاقبة للمتقين  قال تعالى: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ۚ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ﴾ (الأنبياء:18).

وإن المتأمل في حال البشرية اليوم وما تعج به من الظلم بشتى صوره وما يقاسيه الناس من ظلم بعضهم لبعض، أو من ظلم أنفسهم بالشرك وما دونه من المعاصي  ليدرك -عند مقارنة ذلك بمسلسل الظلم في تاريخ البشرية- أن ما يعيشه الناس اليوم في أكثر بقاع الأرض ليعد من أشد الأزمنة التي مرت على البشرية ظلما وعدوانا، وهذا بدوره يؤكد على ضخامة الجهد والتضحيات التي يجب أن تبذل في مواجهة هذا الظلم العظيم وذلك في الصراع بين حزب الله الموحدين وبين حزب الشيطان الظالمين.

وإبرازا لأهمية هذا الموضوع أسوق بعض النقاط التي تبرز من خلالها الحاجة إلى طرحه ومعالجته وبالأخص في زماننا الحاضر:

الترهيب من الظلم ومصارع الظالمين

1- التحذير الشديد من الظلم وآثاره وعواقبه الوخيمة في الدنيا والآخرة، وهذا التحذير يجده المتدبر لكتاب الله عز وجل وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم حيث ورد ذكر الظلم والظالمين في مواضع كثيرة من القرآن، مرة في معرض ذمه والتشنيع على أهله، و مرة بذكر ما حل بالظالمين من النكال والعذاب في الدنيا وما ينتظرهم من عذاب الآخرة، ومرة بدعوة الظالمين الى التوبة وترك الظلم، ومرة بذكر أنواعه وصوره.

وقد حاولت حصر الآيات التي ورد فيها ذكر الظالمين وما تصرف عنه فوجدتها تقرب من مائتين وأربعين موضعا ولا غرابة في ذلك، فكل مخالفة تقع من العبد لأمر الله سبحانه فهي ظلم منه لنفسه، سواء ما كان منها بين العبد وربه، أو ما كان منها بينه وبين الخلق، وسواء كان هذا الظلم شركا أكبر أو كان دون ذلك .

تنحية الشريعة ظلم أيما ظلم

2- ما ظهر في هذا الزمان في أكثر بلاد المسلمين من نبذ للشريعة والتحاكم إلى القوانين الوضعية التي تقنن الظلم فتهدر قيمة الإنسان وتحطم القيم والأخلاق، وتجعل الناس مستعبدين لحفنة من شياطين الإنس الذين كرهوا ما أنزل الله تعالى فظلموا وبغوا في الأرض بغير الحق. وإن أخطر ما في هذا الظلم المقنن محاولة أربابه من شياطين الإنس إظهاره في صورة الإصلاح والحزم والحنكة وقوة السياسة، ويلبسون على الناس بهذه المزاعم فينخدع منهم من ينخدع وقليل هم الذين يفطنون لهذا التضليل، ويكشفون زيفه، ويبينون عوراه للناس.

وقد ذكر الله عز وجل لنا في كتابه الكريم هذا الصنف من الناس بقوله: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ﴾ (البقرة:11).

شيوع الظلم بين بعض الدعاة وطلاب العلم

3-  ومما يؤكد أهمية الكتابة في هذا الموضوع ما نراه في هذه الأزمنة من ظلم وعدوان بين المسلمين، ليس بين فساقهم ومجرميهم فحسب، بل تعدى ذلك الى بعض الدعاة وطلاب العلم، وأصبحنا نسمع من يجور في حق أخيه، ويتكلم بغير علم ولا عدل، وصرنا نرى مواقف جائرة يندى لها الجبين، تبخس فيها الحقوق، وتتهم فيها النيات، وتتبع فيها الشائعات، ويبحث فيها عن الزلات والسقطات. ويبلغ الجورغايته حين يتهم أهل الخير والغيرة بالبدع والضلالات.

ظلمات بعضها فوق بعض

4- انفتاح الدنيا في هذا الزمان بشكل لم يسبق له نظير، مما نشأ عنه صور جديدة من الظلم لم يكن لها وجود من قبل، ذلك لأن هذا الانفتاح قد صاحبته أعمال وممارسات ونظم وأساليب معقدة ومتشابكة، فأصبح لكل عمل نظام يرتبه ويدبر شئونه.

ولما كانت أغلب هذه الأنظمة في أكثر البلدان من صنع البشر ولا يحكمها شرع الله عز وجل فلا جرم جاءت بالظلم والوبال والشقاء على أهلها ومن تعامل معها . ولا أدل على ذلك من كثرة المنازعات والخصومات والمظالم التي تغص بها محاكم المسلمين اليوم بكل تعقيداتها بينما لم تكن منازعات الناس فيما مضى من الزمن -الذي لم يشهد هذا الانفتاح ولم يشهد هذه التنحية لشرع الله عز وجل- ولا معشار معشار ما تشهده المحاكم اليوم في أكثر بلدان المسلمين.

5- توجيه النصح للظالمين بالكف عن الظلم لأنفسهم أو لغيرهم أو أن يحذروا يوم الفصل والقضاء بين يدي الله عز وجل، يوم يوضع الكتاب الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها، وأن يخشوا ما أعده الله عز وجل للظالمين من النكال والعذاب ﴿يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ ۖ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ﴾ (غافر:52). فما أتعس الظالمين وأشقاهم في دنياهم وأخراهم.

تعزية للمظلوم ووعيد للظالم

كما أن في هذه الكلمات توجيه العزاء والمواساة للمظلومين بأن لا ييأسوا وأن يخلصوا صبرهم لله عز وجل، فإن لهم يوما موعدا يوفون فيه أجورهم، وينصرون فيه، وينتقم الله لهم فيه ممن ظلمهم قال تعالى: ﴿وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ۚ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ﴾ (إبراهيم:42).

قال ميمون بن مهران رحمه الله تعالى عن هذه الآية: فيها تعزية للمظلوم ووعيد للظالم11- حلية الأولياء 4/83..

دعوة للتوبة

6- قلة الإنصاف في هذا الزمان وتلبس الكثير منا ببعض المظالم والعدوان، والتي قد تبلغ من الخفاء بحيث لا يشعر بها فاعلها، وهذا يكثر بين الرجل وولده أو والده أو زوجه أو موظفيه. وقد يشعر بها لكنه يسعى جاهدا لتبرير ظلمه بدعوى الحزم والضبط ومتطلبات الإداره الجيدة.

وكم رأينا صورا من الظلم كثيرة يكون المتلبس بها غير شاعر بوجودها لدقتها وحساسيتها، أو أن  يقر بوجودها لكنه لا يقر بكونها ظلما بل يدافع عن ممارسته لها بمبررات شتى إما عن جهل وشبهة أو عن علم وشهوة.

وكون الشخص الواقع في الظلم معترفا به ويسعى جاهدا للتخلص منه أهون بكثير من ذلك الذي يدفعه هواه الي تبرير ظلمه، وأن ما يقوم به هو الحق والصواب، وبالتالي يستمرئ ظلمه ويتمادى فيه.

الظلم منكر عظيم وسبب للمصائب

7- ابتعاد كثير من الناس عن التفسير الإسلامي للأحداث والمصائب والغفلة الشديدة عن فهم السنن الربانية في هلاك القرى وعذابها وأن ما يصيب البلاد والعباد من الكوارث والجدب والقحط والخوف والجوع وغيرها من المصائب إنما هو بسبب ظلم الناس وكفرهم بأنعم الله عز وجل وآلائه.

لقد غفل كثير من الناس عن هذه المسلمات، ولا أدل على ذلك من أن مثل هذه الكوارث لم يتعظ بها الأكثرون، ولم ترجعهم الى الله عز وجل بالتوبة والإنابة، وإنما الواقع تأثر الكثير منهم بما تبثه وسائل الإعلام المختلفة من إحالة أسباب الكوارث إلى الطبيعة واختلاف دورة الفلك وغيرها من الأسباب المادية فحسب، والتي تبعد الناس عن ربهم عز وجل وسننه سبحانه في التغيير. قال الله عز وجل: ﴿فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (الأنعام:43)، ويقول عز وجل: ﴿وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ * فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَرْكُضُونَ * لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَىٰ مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ * قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَمَا زَالَت تِّلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّىٰ جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ﴾ (الأنبياء:11-15).

خاتمة

خذوا العِبرة من أحداث هذه الأيام؛ خذوا العِبرة من سقوط عروش المتكبِّرين، خذوا العِبرة من مصارع الظالمين، ونهايات المتجبِّرين، واحذروا الظلم بكل أنواعه فإنه قد أودى بأصحابه، وهبط بهم من علياء، وكم من عزيز ذلّ بظلمِه! وكم من جبار قصم بظلمه!

الهوامش

1- حلية الأولياء 4/83.

اقرأ أيضا

الظلم يوم القيامة .. دواوين ثلاثة

الظلم .. آثاره وعواقبه في الدنيا

أسباب معينة على توقِّي الظلم

 

التعليقات غير متاحة