إن الله تعالى تعبَّد الناسَ بتدبُّر القرآن، كما تعبَّدَهم بالتِّلاوة، فالمقصود الأعظم من إنزال القرآن، هو التَّدبُّر والتَّفكر في آياته، والعمل به؛ لا مجرَّد التِّلاوة مع الإعراض عنه.

بعض الأمور التي تعين على تدبر القرآن وتفهمه

أولا: معايشة معاني الآيات والملابسات التي صاحبت نزولها

وقد كان للصحابة أوفر الحظ والنصيب من هذه المعايشة؛ ولذلك كانوا أعظم الناس تدبرا للقرآن؛ لما شاهدوه من القرائن والأحوال التي اختصوا بها، فحصل لهم الفهم التام والعلم الصحيح1(1) انظر: «مقدمة في أصول التفسير» (ص 95)..

وبقدر ما يعيش المسلم تلك الأجواء والظروف والملابسات التي تنرل فيها القرآن يحصل له من التأثر والتدبر ما لا يحصل للخلي من ذلك.

وفي ذلك يقول سيد قطب رحمه الله تعالى: «ولا يفهم النصوص القرآنية حق الفهم إلا من يواجه مثل هذه الظروف التي واجهتها أول مرة؛ هنا تتفتح النصوص عن رصيدها المذخور، وتتفتح القلوب لإدراك مضامينها الكاملة، وهنا تتحول تلك النصوص من كلمات وسطور إلى قوى وطاقات، وتنتفض الأحداث والوقائع المصورة فيها؛ تنتفض خلائق حية موحية، دافعة، دافقة، تعمل في واقع الحياة، وتدفع بها إلى حركة حقيقية في عالم الواقع وعالم الضمير…

وإن الإنسان ليقرأ النص القرآني مئات المرات، ثم يقف الموقف أو يواجه الحادث؛ فإذا النص القرآني جديد يوحي إليه بما لم يوح من قبل قط، ويجيب على السؤال الحائر، ويفتي في المشكلة المعقدة، ويكشف الطريق الخافي، ويرسم الاتجاه القاصد، ويفيء بالقلب إلى اليقين الجازم في الأمر الذي يواجهه، وإلى الاطمئنان العميق، وليس ذلك لغير القرآن في قديم ولا حديث»2(2) «في ظلال القرآن» (5/ 2836 ).. وإذا لم يمكن العيش مع معاني القرآن، وما عاناه المسلمون مدة نزول القرآن، وما فيها من جهاد ودعوة، وبذل وتضحية، وصبر ومصابرة، فلا أقل أن يتصور حال الدعوة عند نزول الآيات وما لابسها من أحداث. ومما يعين على هذا التصور: الإحاطة بأسباب نزول الآيات، ولاسيما ما صح منها.

يقول الشاطبي رحمه الله تعالى: «معرفة أسباب النزول لازمة لمن أراد علم القرآن، والدليل على ذلك أمران:

أحدهما: أن علم المعاني والبيان الذي يعرف به إعجاز نظم القرآن – فضلا عن معرفة مقاصد کلام العرب – إنما مداره على معرفة مقتضيات الأحوال: حال الخطاب من جهة نفس الخطاب أو المخاطِب أو المخاطَب أو الجميع؛ إذ الكلام الواحد يختلف فهمه بحسب حالين، وبحسب مخاطبين، وبحسب غير ذلك؛ کالاستفهام لفظه واحد ويدخله معان أخر من تقرير وتوبيخ وغير ذلك، وكالأمر يدخله معنى الإباحة والتهديد، والتعجيز، وأشباهها، ولا يدل على معناها المراد إلا الأمور الخارجة؛ وعمدتها مقتضيات الأحوال، وليس كل حال تنقل، ولا كل قرينة تقترن بنفس الكلام المنقول، وإذا فات نقل بعض القرائن الدالة فات فهم الكلام جملة، أو فهم شيء منه، ومعرفة الأسباب رافعة لكل مشكل في هذا النمط؛ فهي من المهمات في فهم الكتاب ولابد، ومعنى معرفة السبب هو معنی معرفة مقتضى الحال.

الوجه الثاني: وهو أن الجهل بأسباب التنزيل موقع في الشبه والإشكالات، ومورِد للنصوص الظاهرة مورد الإجمال حتى يقع الاختلاف»3(3) «الموافقات» (4/ 806)..

ويقول الميداني في سياق بيانه لأهمية معرفة بيئة نزول النص البشرية والزمانية والمكانية: «على متدبر کتاب الله أن يضع في اعتباره لدى تدبر نص منه ملاحظة الأمور التالية:

الأول: تصور العصر الإسلامي الأول وواقع حال الذين كانت تنزل عليهم الآيات القرآنية لتعليمهم وتوجيههم وتربيتهم، ويدخل في هذا تصور بيئتهم العامة، ومفاهيمهم التي كانت سائدة بينهم بوجه عام.

الثاني: تصور الحالة النفسية والفكرية والاجتماعية التي كانوا عليها حين نزول الآيات الموضوعة للدراسة؛ وذلك بشكل خاص.

الثالث: تصور الظرفين الزمان والمكاني … فكثيرا ما يقع الباحث عن معنى نص في الخطأ؛ لأنه فهم النص وهو يضع في اعتباره واقع حال المجتمع الذي يعيش فيه، والبيئة المحيطة به، لا واقع حال البيئة والمجتمع الذي نزل فيه النص… وتصور الظرفين الزمان والمكاني اللذين أنزلت فيهما الآيات يقدم للمتدبر نفعا جليلا، ويهديه إلى مفاهيم أكثر دقة، وأقرب إلى المراد؛ وذلك لأن من الأساليب البيانية ما يلائم ظرفا من الظروف الزمانية أو المكانية …»4(4) «التدبر الأمثل لكتاب الله» (ص 53-54) باختصار ..

ثانيا: فهم المعاني ودلالات الألفاظ والوقوف عند الآيات وإحضار القلب عندها

وهذا أمر لابد منه لتدبر کتاب الله ، ومن رحمة الله تعالى وفضله أن جعل كلامه میسرا للفهم والإدراك، قال تعالى: (وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ) [القمر:17]، ولكن يبقى بعض الآيات تحتاج من المتدبر إلى فهم معانيها والرجوع إلى كتب التفسير وإلى أهل العلم ليتجلی المعنى المراد منها، وليس العلم بمعنى الآيات مقصودا لذاته، وإنما هو وسيلة لتدبر کلام الله  وإحضار القلب والفكر، والتأثر باطنا وظاهرا بمعاني کلام الله ؛ قال تعالى: (إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق:37]5(5) انظر إلى كلام الإمام ابن القيم رحمه الله تعالی عند هذه الآية ..

ويلزم على هذا إحضار القلب عند سماع القرآن أو تلاوته حضور من يخاطبه القرآن، وتصور عظمة من تكلم بهذا القرآن، وعظمة مخلوقاته في الآفاق وفي النفس الدالة على عظمته سبحانه وجلاله وعلى أسمائه سبحانه وصفاته.

يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: «إذا أردت الانتفاع بالقرآن، فاجمع قلبك عند تلاوته وسماعه، وألق سمعك، واحضر حضور من يخاطبه به من تكلم به سبحانه، منه إليه؛ فإنه خطاب منه لك على لسان رسوله . قال تعالى: (إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ) [ق:۳۷]؛ وذلك أن تمام التأثير لما كان موقوفا على مؤثر مقتض، و محل قابل، وشرط لحصول الأثر، وانتفاء المانع الذي يمنع منه؛ تضمنت الآية بيان ذلك كله بأوجز لفظ وأبينه وأدله على المراد.

فقوله تعالى: (إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ) إشارة إلى ما تقدم من أول السورة إلى هاهنا، وهذا هو المؤثر، وقوله: (لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ) فهذا هو المحل القابل؛ والمراد به القلب الحي الذي يعقل عن الله، كما قال تعالى: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ * لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ) [يس: 69، 70]؛ أي: حي القلب، وقوله تعالى: (أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ) أي: وجه السمع، وأصغى حاسة سمعه إلى ما يقال له، وهذا شرط التأثر بالكلام، وقوله تعالى: (وَهُوَ شَهِيدٌ) ؛ أي: شاهد القلب والفهم، ليس بغافل ولا ساه، وهو إشارة إلى المانع من حصول التأثير وهو سهو القلب وغيابه عن تعقل ما يقال له والنظر فيه وتأمله. فإذا حصل المؤثر -وهو القرآن – والمحل القابل -وهو القلب الحي- ووجد الشرط -وهو الإصغاء – وانتفى المانع – وهو اشتغال القلب وذهوله عن معنى الخطاب وانصرافه عنه إلى شيء آخر – حصل الأثر، وهو الانتفاع والتذكر»6(6) «الفوائد» (ص 3)..

ويقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: «ومما ينبغي أن يعلم أن فضل القراءة والذكر والدعاء والصلاة وغير ذلك قد يختلف باختلاف حال الرجال؛ فالقراءة بتدبر أفضل من القراءة بلا تدبر، والصلاة بخشوع وحضور قلب أفضل من الصلاة بدون ذلك.

وفي الأثر: «إن الرجلين ليكون مقامهما في الصف واحدا، وبين صلاتيهما كما بين السماء والأرض»7(7) قال الحداد في تخريج «إحياء علوم الدين» (369): قال ابن السبكي (6/ 294): لم أجد له إسنادا..

وكان بعض الشيوخ يرقي ب (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) وكان لها بركة عظيمة، فيرقي بها غيره فلا يحصل ذلك فيقول: «ليس (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) من كل أحد تنفع كل أحد.

وإذا عرف ذلك فقد يكون تسبيح بعض الناس أفضل من قراءة غيره، ويكون قراءة بعض السور من بعض الناس أفضل من قراءة غيره ل (قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ) وغيرها، والإنسان الواحد يختلف أيضا حاله؛ فقد يفعل العمل المفضول على وجه کامل فيكون به أفضل من سائر أعماله الفاضله»8(8) «مجموع الفتاوى» (17/ 139)..

ويقول أحمد بن قدامة رحمه الله تعالى: «وينبغي للتالي أن يستوضح من كل آية ما يليق بها، ويتفهم ذلك، فإذا تلا قوله تعالى: (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ) [الأنعام: 1]، فليعلم عظمته ويتلمح قدرته في كل ما يريد، وإذا تلا: (أَفَرَأَيْتُم مَّا تُمْنُونَ) [الواقعة:58]، فليتفكر في نطفة متشابهة الأجزاء كيف تنقسم إلى لحم وعظم،… وإذا تلا أحوال المعذبين فليستشعر الخوف من السطوة إن غفل عن امتثال الأمر… وينبغي لتالي القرآن أن يعلم أنه المقصود بخطاب القرآن ووعيده، وأن القصص لم يرد بها السمر بل العبر، فحينئذ يتلو تلاوة عبد كاتبه سيده بمقصود، وليتأمل الكتاب وليعمل بمقتضاه»9(9) «منهاج القاصدين» (ص 53-54) باختصار، ت/ شعيب وعبد القادر الأرناؤوط..

ثالثا: هجر المعاصي والذنوب والتقرب إلى الله بالطاعات

فإن مما يحول بين القلب وبين تدبر کلام الله عز وجل من كثرة الذنوب والمعاصي، حتى يقسو بها القلب، ويحرم صاحبه من لذة الطاعة والمناجاة لله سبحانه بذكره وكلامه؛ فكلما تخفف العبد من المعاصي وتقرب إلى الله بالطاعات بداية بالفرائض ثم النوافل كان حظه من تدبر کلام الله والتأثر به أكثر وأعظم.

يقول ابن القيم رحمه الله تعالى: «ومن عقوبات المعاصي أنها تعمي القلوب؛ فإن لم تعمه أضعفت بصيرته ولابد… قال الله تعالى: (وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَٰنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ) [الزخرف: 36] الآيات؛ فأخبر سبحانه أن من عشا عن ذكره وهو كتابه الذي أنزله على رسوله، فأعرض عنه، وعمي عنه، وعشت بصيرته عن فهمه وتدبره ومعرفة مراد الله منه قيض الله له شيطانا عقوبة له بإعراضه عن كتابه»10(10) «الجواب الكافي» (ص 127 – 130) باختصار..

رابعا: خلو القلب من هم الدنيا وعدم التعلق بما فيها من مال أو رئاسة أو صورة والتعلق بالآخرة

فإن القلب إذا امتلأ من الدنيا والاهتمام بها، وضعف فيه هم الآخرة والاستعداد لها، لم يكن فيه محل لتدبر کلام الله عز وجل، فالتعلق بالآخرة وعدم الانشغال بالدنيا هو رأس كل خير.

وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى: «اعلم أن القلب إذا خلا من الاهتمام بالدنيا والتعلق بما فيها من مال أو رياسة أو صورة، وتعلق بالآخرة والاهتمام بها من تحصيل العدة، والتأهب للقدوم على الله عز وجل: فذلك أول فتوحه، وتباشير فجره، فعند ذلك يتحرك قلبه لمعرفة ما يرضى به ربه منه، فيفعله ويتقرب به إليه، وما يسخطه منه فيجتنبه، وهذا عنوان صدق إرادته؛ فإن كل من أيقن بلقاء الله، وأنه سائله عن كلمتين يسأل عنهما الأولون والآخرون- ماذا کنتم تعبدون؟ وماذا أجبتم المرسلين؟ لابد أن يتنبه لطلب معرفة معبوده، والطريق الموصلة إليه، فإذا تمكن في ذلك فتح له باب الأنس بالخلوة والوحدة والأماكن الخالية التي تهدأ فيها الأصوات والحركات، فلا شيء أشوق إليه من ذلك؛ فإنها تجمع عليه قوى قلبه وإرادته، وتسد عليه الأبواب التي تفرق همه وتشتت قلبه؛ فيأنس بها ويستوحش من الخلق.

ثم يفتح له باب حلاوة العبادة بحيث لا يكاد يشبع منها، ويجد فيها من اللذة والراحة أضعاف ما كان يجده في لذة اللهو واللعب، ونيل الشهوات؛ بحيث إنه إذا دخل في الصلاة ود ألا يخرج منها، ثم يفتح له باب حلاوة استماع كلام الله ؛ فلا يشبع منه، وإذا سمعه هدأ قلبه به كما يهدأ الصبي إذا أعطي ما هو شدید المحبة له، ثم يفتح له باب شهود عظمة الله المتكلم به وجلاله، وكمال نعوته وصفاته وحكمته، ومعاني خطابه، بحيث يستغرق قلبه في ذلك حتى يغيب فيه، ويحس بقلبه وقد دخل في عالم آخر غير ما الناس فيه.

ثم يفتح له باب الحياء من الله، وهو أول شواهد المعرفة، وهو نور يقع في القلب، يریه ذلك النور أنه واقف بين يدي ربه ، فيستحيي منه في خلواته، وجلواته، ويرزق عند ذلك دوام المراقبة للرقيب، ودوام التطلع إلى حضرة العلي الأعلى، حتى كأنه يراه ويشاهده فوق سمواته، مستويا على عرشه، ناظرا إلى خلقه، سامعا لأصواتهم، مشاهدا لبواطنهم، فإذا استولى عليه هذا الشاهد غطى عليه كثيرا من الهموم بالدنيا وما فيها؛ فهو في وجود والناس في وجود آخر؛ هو في وجود بين يدي ربه وولیه، ناظرا إليه بقلبه، والناس في حجاب عالم الشهادة في الدنيا، فهو يراهم وهم لا يرونه، ولا يرون منه إلا ما يناسب عالمهم ووجودهم.

ثم يفتح له باب الشعور بمشهد القيومية، فيرى سائر التقلبات الكونية وتصاريف الوجود بيده سبحانه وحده؛ فيشهده مالك الضر والنفع، والخلق والرزق، والإحياء والإماتة؛ فيتخذه وحده وكيلا، ويرضى به ربا ومدبرا و کافيا، وعند ذلك إذا وقع نظره على شيء من المخلوقات دله على خالقه وبارئه، وصفات کماله ونعوت جلاله، فلا يحجبه خلقه عنه سبحانه؛ بل يناديه كل من المخلوقات بلسان حاله: اسمع شهادتي لمن أحسن كل شيء خلقه؛ فأنا صنع الله الذي أتقن كل شيء»11(11) «مدارج السالكين» (3/ 379-380) ..

 خامسا: سماع القرآن من قارئ حسن الصوت يخشى الله ويتقيه

ثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إن من أحسن الناس صوتا بالقرآن الذي إذا سمعته يقرأ رأيت أنه يخشى الله»12(12) رواه ابن ماجه برقم (1339)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (1101)..

وفي هذا تحريك للقلوب وعون على تدبر کتاب الله عز وجل، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم حريصا على سماع القرآن من غيره ومحبا له؛ فعن عبد الله بن مسعود أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اقرأ علي القرآن» قال: فقلت: يا رسول الله، أقرأ عليك وعليك أنزل! قال: «إني أشتهي أن أسمعه من غيري» فقرأت النساء حتى إذا بلغت (فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ شَهِيدًا) [النساء:41] رفعت رأسي أو غمزني رجل إلى جنبي فرفعت رأسي فرأيت دموعه تسيل13(13) البخاري (4582)، ومسلم (800) واللفظ لمسلم..

كما أن في اختيار الوقت لتلاوة القرآن أو سماعه معينا على التدبر ؛ كما جاء في قوله تعالى: (وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ۖ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا) [الإسراء: 78]. كما أن قراءة القرآن في الصلاة ولاسيما صلاة الليل من أنفع الوسائل لتدبر کلام الله عز وجل كما في قوله تعالى: (وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا * إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا *  إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا) [المزمل:4-6].

وقوله تعالى: (أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ۗ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ۗ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) [الزمر:9] .

سادسا: تصحيح النية

يجب تصحيح النية في قراءة القرآن، وابتغاء وجه الله ، ومحاسبة النفس على العمل بالقرآن، والدعوة إليه، والحكم به، والتحاكم إليه، والرضا بحكمه.

عن عثمان وابن مسعود وأبي ابن کعب: «أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: كان يقرئهم العشر فلا يجاوزونها إلى عشر أخرى حتى يتعلموا ما فيها من العمل؛ قالوا: فتعلمنا القرآن والعمل جميعا»14(14) «الجامع لأحكام القرآن» (1/ 39)..

وقال عبد الله بن مسعود: «إذا سمعت الله يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا) فأصغ لها سمعك فإنه خير تؤمر به أو شر تصرف عنه»15(15) «زاد المعاد» (1/ 340)..

وقال سفيان رحمه الله: «ليس في كتاب الله آية أشد علي من قوله تعالى: (قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَىٰ شَيْءٍ حَتَّىٰ تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنجِيلَ) [المائدة: 68]، وإقامتها: فهمها والعمل بها»16(16) کتاب «البدع والحوادث» (ص 101)..

وعن أبي الدرداء قال: «أخوف ما أخاف أن يقال لي يوم القيامة: یا عويمر، أعلمت أم جهلت؟ فإن قلت: علمت لا تبقى آية آمرة أو زاجرة إلا أخذت بفريضتها: الآمرة هل ائتمرت؟ والزاجرة هل ازدجرت؟ وأعوذ بالله من علم لا ينفع، ونفس لا تشبع، ودعاء لا يسمع»17(17) حلية الأولياء «1/213»..

ويفيض الآجري رحمه الله تعالى في توضيح خضوع القلب لكلام الله عز وجل، وكيف تكون الاستجابة لداعي الله؟ وكيف يحاسب القارئ نفسه؟ وكيف يسألها سؤال المشفق الخاضع الذليل؟ فيقول عن قارئ القرآن: «يتصفح القرآن ليؤدب به نفسه، همته: متى أستغني بالله عن غيره؟ متى أكون من المتقين؟ متى أكون من الخاشعين؟ متى أكون من الصابرين؟ متى أكون من الصادقين ؟ متى أكون من الخائفين؟ متى أكون من الراجين؟ متى أزهد في الدنيا؟ متى أرغب في الآخرة؟ متى أتوب من الذنوب؟ متى أعرف النعم المتواترة؟ متى أشكره عليها؟ متى أعقل عن الله الخطاب؟ متى أفقه ما أتلو؟ متى أغلب نفسي على ما تهوی؟ متى أجاهد في الله حق جهاده؟ متى أحفظ لساني؟ متى أغض طرفي؟ متى أحفظ فرجي؟ متى أستحي من الله حق الحياء؟ متى أشتغل بعيبي؟ متى أصلح ما فسد من أمري؟ متى أحاسب نفسي؟ متى أتزود ليوم معادي؟ متى أكون عن الله راضیا؟ متى أكون بالله واثقا؟ متى أكون بزجر القرآن متعظا؟ متى أكون بذكره عن ذكر غيره مشتغلا؟ متى أحب ما أحب؟ متى أبغض ما أبغض؟ متى أنصح لله؟ متى أخلص له عملي؟ متى أقصر أملي؟ متى أتأهل ليوم موتي وقد غيب عني أجلي؟ متى أعمر قبري؟ متى أفكر في الموت وشدته؟ متى أفكر في خلوتي مع ربي؟ متى أفكر في المنقلب ؟ متى أحذر مما حذرني منه ربي؟ متى…»18(18) «أخلاق حملة القرآن» (ص 40)..

ويقول ابن القيم رحمه الله تعالى: «فإذا قرأه بتفكر حتى إذا مر بآية وهو محتاج إليها في شفاء قلبه، كررها ولو مائة مرة ولو ليلة؛ فقراءة آية بتفكر وتفهم خير من قراءة ختمة بغير تدبر وتفهم، وأنفع للقلب، وأدعى إلى حصول الإيمان، وذوق حلاوة القرآن»19(19) «مفتاح دار السعادة» (ص 402)..

إن الصحابة رضوان الله عليهم -: «لم يكونوا يقرءون القرآن بقصد الثقافة والاطلاع، ولا بقصد التذوق والمتاع؛ لم يكن أحدهم يتلقى القرآن ليستكثر به من زاد الثقافة لمجرد الثقافة، ولا ليضيف إلى حصيلته من القضايا العلمية والفقهية محصولا يملأ به جعبته، إنما كان يتلقى القرآن ليتلقى أمر الله في خاصة شأنه، وشأن الجماعة التي يعيش فيها، وشأن الحياة التي يحياها هو وجماعته؛ يتلقى الأمر ليعمل به فور سماعه، كما يتلقى الجندي في الميدان الأمر اليومي ليعمل به فور تلقيه… إن هذا القرآن لم يجئ ليکون کتاب متاع عقلي، ولا كتاب أدب وفن، ولا كتاب قصة وتاريخ وإن كان هذا كله من محتوياته – إنما جاء ليكون منهج حياة»20(20) «معالم في الطريق» (ص 14، 15)..

الهوامش

(1) انظر: «مقدمة في أصول التفسير» (ص 95).

(2) «في ظلال القرآن» (5/ 2836 ).

(3) «الموافقات» (4/ 806).

(4) «التدبر الأمثل لكتاب الله» (ص 53-54) باختصار .

(5) انظر إلى كلام الإمام ابن القيم رحمه الله تعالی عند هذه الآية .

(6) «الفوائد» (ص 3).

(7) قال الحداد في تخريج «إحياء علوم الدين» (369): قال ابن السبكي (6/ 294): لم أجد له إسنادا.

(8) «مجموع الفتاوى» (17/ 139).

(9) «منهاج القاصدين» (ص 53-54) باختصار، ت/ شعيب وعبد القادر الأرناؤوط.

(10) «الجواب الكافي» (ص 127 – 130) باختصار.

(11) «مدارج السالكين» (3/ 379-380) .

(12) رواه ابن ماجه برقم (1339)، وصححه الألباني في صحيح ابن ماجه (1101).

(13) البخاري (4582)، ومسلم (800) واللفظ لمسلم.

(14) «الجامع لأحكام القرآن» (1/ 39).

(15) «زاد المعاد» (1/ 340).

(16) کتاب «البدع والحوادث» (ص 101).

(17) حلية الأولياء «1/213».

(18) «أخلاق حملة القرآن» (ص 40).

(19) «مفتاح دار السعادة» (ص 402).

(20) «معالم في الطريق» (ص 14، 15).

اقرأ أيضا

التفكر في آيات الله المتلوة وتدبرها

عندما يتحدث القرآن عن الأحداث الكونية الجارية

التفكر في آيات الله في الأنفس

الاستشفـاء بالقرآن .. لأمراض الفرد والأمة

 

التعليقات غير متاحة