إن الأمة الإسلامية تملك أسسا مشتركة تستطيَع بها أن تجمع شتاتها وتوحد كلمتها.. فهي أمة واحدة.. ذات دين واحد.. وكتاب واحد.. ورسول واحد.. وهذه هي الأصول والأسس التي تشترك فيها الأمة الإسلامية.

أسس ومقومات الوحدة للأمم

فإذا ما أدركت جيدا والتزمت بمقتضياتها فإن ذلك يجعل منها أمة واحدة تلتقي على:

أولا: وحدة الغاية.

ثانيا: وحدة العقيدة.

ثالثا: وحدة القيادة.

رابعا: وحدة التشريع.

وبهذا تصبح الشعوب الإسلامية “أمة واحدة” تذوب فيها جميع الأجناس والتجمعات شعارها: (وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً) فتحقق للأمة الإسلامية عزتها وقوتها المنشودة.

وفيما يلي نبين بإيجاز تلك الأسس:

أولا: وحدة الغاية

إن لهذا الإنسان الذي يعيش على ظهر هذه الأرض: “غاية” يؤديها أثناء وجوده إذا عرفها وتمثلها في حياته سعد في دنياه وآخرته وإذا جهلها أو أعرض عنها فانه يشقى في الدنيا والآخرة.

هذه الغاية حددها الله عز وجل بنفسه وبينها في كتبه.. فمن أجلها خلق الإنسان..

ألا وهي: “عبادة الله عز وجل ” كما قال سبحانه وتعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنْسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: آية 56].

والمسلمون ولله الحمد يدركون هذه الغاية ويعرفونها ولكنهم فرطوا في القيام بها والعمل بمقتضاها مما كان له أسوأ الأثر في حياتهم.

فلابد من العودة الصادقة إلى تحقيق هذه الغاية والالتزام بمقتضياتها ليحقق المسلمون لأنفسهم السعادة في الدنيا والآخرة.

السعادة في الدنيا باجتماع الكلمة ووحدة الأمة وطمأنينة النفس واستقامة الحياة.. وهي آمال يحلم بها جميع شعوب العالم ولكنهم لم يهتدوا إلى أسبابها ووسائلها.

ولكن تعدد الغايات وتنوعها يفتت الأمة ويشتت كلمتها ويجعل كل فئة من الأمة لها غاية تخالف غاية الفئة الأخرى تسعى لتحقيقها والوصول إليها.

فغاية اقتصادية.. وغاية سياسية.. وغاية شهوانية.. وهكذا غايات متعددة تنتهي بهم إلى فئات متصارعة وسبل متفرقة.

قال عز وجل: (وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [الأنعام: آية 153].

ثانيا: وحدة العقيدة

إن التفرق الذي ابتليت به الأمة في عقيدتها لا يمكن أن يكون معه اجتماع للأمة ولا تعاون ولذلك فإنه لابد أولا من علاجِ لذلك التفرق برد الملحدين إلى الله عز وجل وتصحيح عقائد المنحرفين لتتوحد القلوب وتتآلف النفوس. فأما الذين ابتلوا بمرض الإلحاد فقد كان ذلك في غيبة من الوعي الإسلامي وفي وقت الانبهار بالحضارة الغربية التي تمردت على الدين بل حملت لواء الحرب ضده.

والآن وقد بدأ المسلمون يدركون حقيقة الحضارة الغربية وما تحمله من سلبيات وثمرات فاسدة.. بدأ الوعي يدب في صفوفهم ويدركون قيمة هذا الدين وأنه لا سعادة للإنسان في هذه الحياة بدون أن يلتزم بعقيدته وتوجيهاته.

يقول الأستاذ محمد محمود الصواف: “وفي يقيني أن الزمن الذي كان يسمى فيه الإسلام “رجعية” و”تزمتا” قد مضى وانقضى حيث تعرى خصوم الإسلام وانكشفوا وظهر زيف دعواتهم الباطلة من قومية واشتراكية وحزبية قاتلة وغيرها من فتن هذا العصر المضللة ورأى الناس خيبتها وخسرانها وتضييعها للأوطان وتدميرها وعبثها بحقوق الإنسان، ورأوا عن كثب ويلاتها على العرب الذين ابتلوا بها، بل ويلاتها على الجنس البَشرى في جميع أنحاء الأرض ومن دعاتها من رأى ذلك بأم عينه ولكنه معاند مكابر لا يعترف بإخفاقه ولا يريد الخضوع أمام غيره.

ولم يعد الإسلام “رجعية” كما كانوا يسمونه وتسميه إذاعاتهم بأصواتها المنكرة المبحوحة.. بل عاد الإِسلام والناس يتلمسونه في الميدان ويسألون عنه في كل مكان ونادى به اليوم من لم يكن يعرفه بالأمس ولم يعرف عنه النداء باسمه من قبل. وامتلأت المساجد بالوافدين الجدد وآب الكثيرون إلى الله سبحانه يسألونه العز والنصر والفرج القريب لهذه الأمة المنكوبة برجالها وشبابها وقادتها في هذا الجيل المخفق الخاسر الذي هو جيل الهزيمة المنكرة.. فإذا كثر سواد الصالحين وزاد عدد المؤمنين فبشر الأمة بالنصر المبين”1(1) معركة الإسلام ص 26ـ 27..

فالوعي الديني استيقظ في الأمة وهو في حاجة إلى من يوجهه وجهة صحيحة ليكون أساسا واحدا لجمع كلمة الأمة ويقضي على المذاهب المنحرفة والعقائد الضالة المتسللة إلى مجتمعات المسلمين.

وأما الانحرافات الأخرى التي طرأت على عقائد المسلمين سواء في التوحيد العملي أوفي التوحيد العلمي فإن ذلك يستدعي جهودا مخلصة وأقلاما صادقة تعالج تلك الانحرافات بحكمة وموعظة حسنة إذ أن أصحابها أو كثيرا منهم لم يتعمد الانحراف ولا يرضى به لو كشف له، لذلك فإن مخاطبتهم يجب أن تكون بأسلوب لين وبجدال حسن. فإذا قدر للأمة أن تجتمع في عقيدتها فإن ذلك سيفسح المجال للاجتماع والوحدة الإسلامية.

ثالثا: وحدة القيادة

للمسلمين قيادة واحدة على مدار الزمن واختلاف المكان وتعدد المذاهب.. وكل قيادة سواها إنما تستمد شرعيتها من متابعتها لهذه القيادة والالتزام بمنهجها والسير على طريقها.

هذه حقيقة يقوي وضوحها في أذهان المسلمين كلما صفت العقيدة وقوي الإيمان.

وهي حقيقة قررها الله عز وجل في كتابه وأكدها في مواطن كثيرة لئلا تغفل عنها الأمة الإسلامية.

قال الله عز وجل: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً) [النساء:59].

وقال عز وجل: (وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً) [النساء: 115].

وقال تعالى: (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا) [الحشر: 7].

وهكذا تكرر التأكيد على هذه الحقيقة في عشرات المواضع من القرآن الكريم.

فإذا ما اتضحت هذه الحقيقة وتقررت في أذهان المسلمين فإنه يمكن أن يتحد كلمتهم وتجتمع صفوفهم.

فالرسول صلى الله عليه وسلم هو: (القائد) والجميع أتباع له وأنصار، به يتأسون ولحكمه يخضعون وإلى سنته يتحاكمون.. هذا أصل لا يمكن أن تتوحد الأمة بدون إدراكه والالتزام به.. وهذا ما يقتضيه الإيمان بالله عز وجل وإلا فإن الإيمان يبقى دعوى بدون دليل.

وكل قيادة أخرى تحاول أن تلغي هذه القيادة أو تقلل من شأنها فإنها قيادة خارجة عن الإسلام محاربة له.. بل كل قيادة تتميز هي في ذات نفسها عن هذه القيادة أو تنحرف عن متابعتها فهي قيادة منحرفة.

رابعا: وحدة التشريع

من الأسباب الرئيسية لتمزق الأمة الإسلامية تعدد التشريعات وتنوعها تلك التشريعات التي لا صلة لها بها ولا علاقة لها بدينها، بل هي مضادة لدينها محاربة لعقيدتها.. فوقعت الفجوة باسم التشريعات والواقع.. وبين القيادات والشعوب.. بل بين القيادات أنفسها.. فانعكست تلك الخلافات على الأمة الإسلامية.

وما لم يوحد التشريع الذي يحكم الأمة فيكون تشريعا مستمدا من دينها القويم فإن كل محاولة لوحدة الأمة أو لجمع شتاتها فإنها محاولة فاشلة.

فإنه ليس هناك مكان لتشريعات أخرى في المجتمع الإسلامي وليس لأحد من البشر حق وضع تشريع يحكم الحياة في المجتمع الإسلامي، فالحقَ لله عز وجل وحده وليس لأحد من خلقه أن يتلقى تشريعاته من غيره سبحَانه.

قال الله عز وجل: (وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ) [الأحزاب: آية 36].

فالنفس البشرية ذات طبيعة معقدة ومعرفة ضوابط إصلاحها أو أسباب فسادها أمر لا يعلمه إلا الله عز وجل وقد اعترف علماء الغرب بذلك وأكدوا أن العلوم البشرية لم تستطع أن تبين حقيقة الإنسان.

وأشهر من أعلن هذه الحقيقة هو الطبيب الفرنسي: (الكسيسر كاريل) حيث يقول:

“فمن الواضح أن جميع ما حققه العلماء من تقدم فيما يتعلق بدراسة الإنسان ما زال غير كاف وأن معرفتنا بأنفسنا ما زالت بدائية في الغالب”2(2) الإنسان ذلك المجهول ص 19..

فإذا كانت معلومات الإنسان عن نفسه رغم ما يملكه من وسائل المعارف المذهلة التي لم يكن يحلم بوجودها الإنسَان في الزمن الماضي- إذا كانت رغم كل ذلك بدائية.. فهل يمكن أن يضع تشريعا يحكم حياته ويقوده إلى تحقيق إنسانيته؟!

ولهذا فإن العودة إلى شريعة الله عز وجل أمر ضروري.. ضروري لأنه أمر أوجبه الله عز وجل.

وضروري لأن الإنسان ليس له قدرة وضع التشريع المناسب.

وضروري لأن الأمة لا تجتمع وتشريعاتها مختلفة.. إذ للتشريع أثر في حياة الإنسان.. في مفاهيمه.. في تصوراته.. في موازينه.. فلابد من وحدة التشريع لتتحد مفاهيمه وتصوراته وموازينه.. ومن ثم تتحقق له وحدته المنشودة.

الهوامش

(1) معركة الإسلام ص 26ـ 27.

(2) الإنسان ذلك المجهول ص 19.

المصدر

كتاب: “الوحدة الإسلامية أسسها ووسائل تحقيقها”، أحمد بن سعد حمدان الغامدي، ص55-64.

اقرأ أيضا

واقع الأمة الإسلامية

إحياء الأمة وإقامة الحكم الإسلامي

حوارات مهمة .. حول أحوال الأمة (1) من نحن

 

التعليقات غير متاحة