ما من عبادة إلا ولها هدفها وغايتها فلكل أمر ونهي حكمة، سواء علمنا تفصيل وجهها أم لم نعلمه. وفي الحج أمور يدرك العقل أهميتها ومكانتها، بين العبد وربه، وفي مجال وحدة الأمة.

مقدمة

الحج شحنة روحية كبيرة يتزود بها المسلم فتملأ جوانحه خشية وتقوى لله، وعزما على طاعته، وندما على معصيته، وتغذي فيه عاطفة الحب لله ولرسول الله صلى الله عليه وسلم، ولمن عزروه ونصروه واتبعوا النور الذي أنزل معه، وتوقظ فيه مشاعر الأخوة لأبناء دينه في كل مكان، وتوقد في صدره شعلة الحماسة لدينه، والغيرة على حرماته. (1يوسف القرضاوي “العبادة في الإسلام” ص: 287 – دار المعرفة)

وعلى هذا الأساس:

“فإن الحج مجموعة رموز صيغت بأعمال، فهو رمز على استسلام الإنسان لله إذا بلغه أمر الله بواسطة رسوله، أن ينفذ الأمر بصرف النظر عن المعنى العلمي لهذا الأمر؛ وما الطواف، والوقوف، والسعي، والحلق، والتقصير، وغيرها من أعمال الحج إلا رمز استسلام المسلم لأمر الله دون نقاش، وهو رمز على ارتباط هذه الأمة بأبيها إبراهيم عليه السلام، حيث نحيي شعائره، ونطوف بالبيت الذي بناه، وهو رمز على وحدة الأمة الإسلامية بصرف النظر عن الأجناس، والألوان، والأوطان، فوحدة المسلمين نابعة عن عقيدتهم ودينهم وشريعتهم. (2سعيد حوى: “الإسلام” ص: 191 – دار الكتب العلمية – بيروت)

الدلالات الحضارية لفريضة الحج

إن الحاج حينما يتأمل في بيت الله الحرام إنما يقوم باستذكار للتاريخ الإسلامي العريق، وباستحضار لحظة بناء البيت على كلمة التوحيد، ويستلهم بذلك معاني بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم من هذه البقعة المقدسة، وما لقي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضوان الله عليهم من ألوان العذاب من قبل كفار قريش.

وإذا كانت العبادات في الإسلام برامج عملية وتربوية لتكوين الإنسان المسلم، وإعداده على المستوى الفكري والنفسي والاجتماعي، فإن جهل الناس اليوم بمقاصد عبادة الحج جعل هذه الفريضة فارغة من تلك المعاني المقصودة من أجلها، فأصبح الحج مجرد تكرار لشعائر وأشكال منقطعة الصلة بالأهداف الإيمانية الكبرى لهذه الفريضة التي هي فريضة العمر.

ولا شك أن هناك جهودا منظمة، ومحاولات مستمرة، يقوم بها أعداء الإسلام لمحاصرة هذه الفريضة، والتنقيص من شأنها رغبة منهم في تهميش المعاني السامية، والأهداف الحضارية الكبرى التي يمكن للمسلمين أن يحققوها.

ولكن على الرغم من تخلف المسلمين عن إدراك الرؤية الفلسفية الحقيقية لفريضة الحج في الوقت الحاضر فإنها الركيزة الأساسية القادرة على ضمان الشعور الدائم بوحدة الأمة الإسلامية.

الحج ونهضة الأمة

ولو أن المسلمين قدّروا هذه الفريضة حق قدرها المطلوب لكانت إحدى أهم الوسائل المحركة لنهضة العالم الإسلامي، ولإعادة الفاعلية للشعائر التعبدية التي سترتقي بالمسلمين إلى مستوى المسؤولية، وإلى تحقيق النقلة الحضارية المنشودة.

ومن المعلوم أن الإسلام قد اعتبر الحج جهادا من أبواب الجهاد، ذلك أن نفرة سنوية تقوم بها فئة من المسلمين، تأتي من كل بلاد المسلمين لتلتقي صفا واحدا على أرض النبوة الطاهرة.

وهكذا، فإن فريضة الحج جهاد، وفقه، وآيات بينات، وشهادة منافع: ﴿وَأَذِّن فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَىٰ كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِّيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ﴾ [الحج:27– 28]

“والمنافع التي يشهدها الحجيج كثيرة، فالحج موسم ومؤتمر، الحج تجارة، وموسم عبادة، والحج مؤتمر اجتماع وتعارف، ومؤتمر تنسيق وتعاون، وهو الفريضة التي تلتقى فيها الدنيا والآخرة، كما تلتقي فيها ذكريات العقيدة البعيدة والقريبة”. (3سيد قطب “في ظلال القرآن” الجزء الرابع – صفحة: 2418 – دار الشروق)

وللتذكير فقط، فإن الحج رحلة بالنفس إلى الماضي للقيام بعملية المراجعة، والمحاسبة، والنقد الذاتي، وتلمس مواطن الضعف، والتقصير في حق الدعوة إلى الله، وفي حق واجبات الأخوة الإسلامية المطلوبة، وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم: «من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه». (4رواه البخاري ومسلم)

ثم إن فريضة الحج رحلة باتجاه قراءة التاريخ، والوقوف على أسرار السيرة النبوية من أجل العودة الصادقة إلى المنابع الأصلية لهذه العقيدة الإسلامية، التي استطاعت أن تقيم صرح الحضارة العربية الإسلامية.

“وهو مؤتمر للتعارف، والتشاور، وتنسيق الخطط، وتوحيد القوى، وتبادل المنافع، والسلع، والمعارف، والتجارب، وتنظيم ذلك العالم الإسلامي الواحد الكامل المتكامل مرة في كل عام، في ظل الله، بالقرب من بيت الله، وفي ظلال الطاعات البعيدة والقريبة، والذكريات الغائبة والحاضرة، في أنسب مكان وأنسب جو، وأنسب زمان”. (5“في ظلال القرآن”: ج 4 – ص: 2420)

خاتمة

إن كانت هذه بعضا من غايات الحج وحكمته وعظيم أثره؛ فليت شعري كيف تغيب هذه الأهداف العليا لفريضة الحج عن مدارك المسلمين؟!

وكيف يتعاملون مع هذه المدرسة التربوية بنفسية ضعيفة وبعقلية سطحية..؟!

ثمة واجب للمراجعة والتدبر لتفعيل دور الفرائض في حياتنا الروحية والخلقية، والاجتماعية. ومن ثم وحدة المسلمين.

…………………….

الهوامش:

  1. يوسف القرضاوي “العبادة في الإسلام” ص: 287 – دار المعرفة.
  2. سعيد حوى: “الإسلام” ص: 191 – دار الكتب العلمية – بيروت.
  3. سيد قطب “في ظلال القرآن” الجزء الرابع – صفحة: 2418 – دار الشروق.
  4. رواه البخاري ومسلم.
  5. “في ظلال القرآن”: ج 4 ـ ص: 2420.

المصدر:

  • محمد حراز، مجلة دعوة الحق، العدد 350.

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة