إن هذا الخطاب الذي يزعم التحديث، لا يعرف عن التحديث إلا تدجين الإسلام – احفظوها – وتحويله إلى ماذا؟ إلى دين ليست له شوكة، من دين له شوكة وراية إلى خادم مطيع لا يقلق الحال، ولا يحرج المطبع، ولا يربك حلفاء الصهيونية والتصهين الجديد.

الجهاد: المعنى الأصلي والتحديات المعاصرة

الجهاد.. هذا الاسم الذي يزلزل كل من يتربص بالإسلام. في هذا المقال سأذكر أسماء كثيرة – مشايخ، علماء شريعة، أكاديميين شرعيين، مفكرين، مؤلفين، فلاسفة -. لماذا؟ لكي تعرفوا كيف يستثمر هؤلاء، بوعي أو من غير وعي، في تفريغ الجهاد من معناه الحقيقي، حيث يطرحونه في حقل آخر غير الحقل الإسلامي الشرعي المتكامل بمنظومته العقائدية والأخلاقية والسلوكية.

الجهاد في الإسلام: الجذور والقيم الثابتة

كيف بدأ الجهاد؟ منذ أن نزل الإسلام وهو يرفع راية العدل ويأمر بمجاهدة الطغيان والكفر والبغي، ويغرس في النفوس الكرامة والعزة والإباء. وقد بقيت هذه القيم عبر القرون منارات تحتذي بها الأمة في ميادين السياسة والجهاد وصد العدوان. كانت الحياة تسير هكذا كقيمة عليا مستقرة.

التحول: عصور الاحتلال والتغريب

حتى جاءت عصور الاحتلال، تبعها التغريب، لحقها حقبة من علمنة قسرية قهرية، والتبعية السياسية والثقافية للغرب. فظهر معها جيل من “المميعين” الذين أرادوا هدم الإسلام من داخله، فحاولوا تفريغ هذا الدين من مضامينه وحقائقه الصلبة الثابتة، وتقديم نسخة أخرى مدجنة بلا ولاء وبراء، حتى تخدم مشروع أسيادهم من “الرعاة الإبراهيمية” وتمرر لهم التطبيع المغلف بالدين على طبق من ذهب.

السؤال المحوري: كيف تحول الخطاب؟

وفي هذا المقال يراودنا السؤال: كيف تحول خطاب الإسلام من سلاح في وجه الظلم إلى لغة نائمة ترضي أصحاب القرار؟ ومن هم هؤلاء الذين ارتضوا أن يكونوا أبواقًا لمشروع يفرغ العقيدة من جوهرها ومحتواها الحقيقي؟

فقه الجهاد والمقاومة: من العصبية المركزية إلى التحويل

منذ عقود، شكل فقه الجهاد والمقاومة عصبا مركزيا في الوعي الإسلامي كضامن لكرامة الأمة وعزتها. غير أن مرحلة ما بعد الاحتلال… ماذا حدث؟ حاولت هذه المرحلة تحييد الإسلام عن كل مفاصل الدولة المسلمة، لتأتي في مرحلة التطبيع مع العدو الصهيوني بمحاولة أشد خبثًا لتفريغ الإسلام نفسه وتبديل خطابه.

تحويل المفاهيم الأساسية

ليستبدل فقه الجهاد بفقه الطاعة، وتموت المفاصلة بمقصلة فقه الموالاة، ويسكن الغضب المشروع باللامبالاة. وقد برز هذا الخطاب داخل منظومة دينية ثقافية أعدت بجدارة لتشكل مفاهيم العدل والمقاومة على مسطرة “الإبراهيمية”، فظهر دعاة ومفتون يعلنون بوضوح أن أولويات الخطاب الديني الجديد هي: الاستقرار لا التغيير، الطاعة لا المقاومة، السكينة لا الغضب.

نماذج بارزة في خطاب التطبيع

  • الشيخ عبد الله بن بيه

وفي مقدمة هؤلاء يبرز اسم الشيخ عبد الله بن بيه، الذي يكثر الحديث عن “الحفاظ على النفس كأسمى مقاصد الشريعة” – ونحن معك، لكن ليس بالصيغة التي جاءت في هذا السياق “الإبراهيمي”. بينما نجده نفسه يلوذ بالصمت تجاه المجازر الصهيونية في غزة.

وقد بدا هذا التواطؤ الصامت جليًا في بيان صادر عن مجلس حكماء المسلمين خلال عدوان 2021، إذ تحدث بمصطلحات ناعمة عن الانتهاكات الصهيونية فوصفها بـ”التوتر في القدس والمواجهات العنيفة”، دون أن يذكر كلمة “احتلال” أو “مجزرة” أو “أرض”.

فضلاً عن ذلك، تجده مشاركًا نشطًا بفعاليات دولية إلى جوار شخصيات صهيونية بارزة، مثل الحاخام ديفيد شولوم روزن. من هو هذا الديفيد؟ هو المستشار الديني للجنة اليهودية الأمريكية، ورئيس الحاخامات في اللجنة الإسرائيلية للعلاقات بين الأديان. تصوروا!

  • علي الجفري

أما علي الجفري فهذه قصة أخرى، فتمثل حالته النموذج الأمثل والأكمل لمشروع “إسلام طاعة” في ثوب صوفي مؤسسي، وذلك من خلال مؤسسة “طابة” التي باتت إحدى أدوات الخطاب الديني المدجن.

وبالمناسبة، هذه المؤسسة تفتح لها المجالات في الجامعات والدول العربية في الوقت الذي يضيق على غيرها من المؤسسات. كما أن بعض التقارير تشير إلى أن الجفري وبن بيه وغيرهم يتم تمويلهم ودعمهم من أنظمة مطبعة لتصدير صورة الإسلام “المعتدل” و”الإبراهيمي” على نطاق عالمي.

نقطة: أنت قد تقول الجفري ينكر أنه في المشروع الإبراهيمي ولا يوافق عليه. أنا ما لي شغل بواحد ينكر ولا يثبت، أنا أنظر للواقع، أنظر إلى ثمرة كلماتك، إلى استراتيجيتك، إلى الفكرة التي تتبناها وتسوقها عن الجهاد، عن السلام، عن الطاعة، عن طبيعة الإسلام. هذا الشغل، نحن لا نقف مع الأسماء، إنما نقف مع المسميات: ما الهدف؟ ما الهدف من هذا الشغل؟

الهدف الاستراتيجي: محاصرة الإسلام السياسي

كل ذلك بهدف محاصرة نفوذ الإسلام السياسي وإخراجه من الفضاء العام. وهكذا نلاحظ تفريغ الإسلام في خطاب هؤلاء وممارساتهم من أي بُعد جهادي. وهذا ما يمهد الانتقال إلى الوجه الآخر لهذا المشروع، وهو إعادة بناء صورة العدو في وعي المسلمين.

إعادة تشكيل صورة العدو

منذ اندلاع الصراع العربي الإسلامي مع الكيان الصهيوني، كان العدو واضحًا في الوعي الجمعي للأمة: عدو يحتل الأرض، يقتل الأبرياء، يمنع الناس من إقامة دينهم. لكن في العقود الأخيرة، تغيرت البوصلة بشكل مروع، فلم يعد الاحتلال الصهيوني هو العدو في هذا الخطاب الجديد، لا! العدو هم الذين يقاومون هذا الاحتلال، يقاومون هذا الاغتصاب، يقاومون هذا الانتهاك.

قلب المفاهيم

هذا الانقلاب في المفاهيم لم يكن وليد الصدفة، بل صُنع بعناية داخل مؤسسات دعوية وفكرية، وبأقلام وأصوات ووجوه بارزة صارت أداة لهذا التوجه.

نماذج أخرى في قلب المفاهيم

  • الشيخ أسامة الأزهري

خذ مثلاً الشيخ أسامة الأزهري الذي تبوأ منصبا رفيعا اليوم، الذي قال صراحة في حوار صحفي: “إن القضية الفلسطينية ليست إلا وسيلة بيد الإسلاميين للتأليب على الدولة”. هكذا يقزم ويصغر ويختزل هذه القضية المركزية في عقل الأمة، في وجدان الأمة، في عقيدة الأمة، في الواقع الذي يفصح عن نفسه في مدى التحدي العدواني حتى على بلده.

بل ذهب أبعد من ذلك فزعم أن بعض الإسلاميين المتعاطفين مع المقاومة يتقاطعون فكريًا مع الاحتلال! أنتم متخيلين؟ طيب، لماذا يتقاطعون مع الاحتلال؟ قال: لأن اتهاماتهم للدولة بحسب قوله تتطابق مع ما تروجه دولة الكيان الصهيوني.

وأمام قول كهذا، لا ندري فعلاً من الذي يتقاطع فكريًا مع الاحتلال؟

  • وسيم يوسف

وهي النغمة ذاتها التي نجدها عند وسيم يوسف الذي حمل المقاومة مسؤولية الإبادة الصهيونية! لماذا؟ لأنها دافعت عن نفسها بما أتيح لها من سلاح. بل أنكى من ذلك أنه برأ إسرائيل ضمنيًا من جرائمها، مؤكدًا أنها ليست العدو، وأن العدو الحقيقي هو من يحرض على الكراهية، ويعني بذلك طبعًا المقاومة والإسلاميين.

  • عدنان إبراهيم

أما عدنان إبراهيم فقد سلك مسارًا أكثر التفافًا كعادته، فالرجل قلما يهاجم الاحتلال مباشرة، لكنه في المقابل لا يفتر عن مهاجمة رموز الإسلام السياسي، معتبرًا أن تحريضهم على الجهاد والمقاومة هو ما جر الويلات على الأمة. فهذا النوع من المواقف التي تتجمل في صورة الحياد لا يفعل شيئًا إلا أنه يكرس سردية الاحتلال التي تلقي باللائمة على الضحية لا على الجلاد.

الخطاب اللاديني ضمن المشروع

في المقابل – أقصد مقابل الخطاب الديني في هذا السياق – هناك خطاب لا ديني يبرز عندنا اليوم: إبراهيم عيسى. وإبراهيم عيسى، كي نفهم موقفه من الجهاد والإسلام المدجن ما هو (ما يحتاج)، إبراهيم عيسى ما ترك شيئا في هذا الدين إلا وانتقده، سواء على صعيد الأحكام الشرعية أو على صعيد العقائد أو على صعيد الحديث أو على صعيد التاريخ أو على صعيد الرموز. الرجل متفرغ ويتكلم بتدفق وحماس ومفتوح للمجال ليل نهار بأشهر الوسائل الإعلامية.

إبراهيم عيسى: تشويه كل ما هو إسلامي

إبراهيم عيسى نطرحه كزعيم لتيار يشوه كل ما هو إسلامي أو مقاوم. فنجده منذ السابع من أكتوبر وهو يكرس حلقات برنامجه للهجوم على المقاومة، متهما إياها بأنها هي من دمرت غزة ثم اختبأت في الأنفاق! نفس السردية الصهيونية. أما عن العدو الصهيوني فلم ينل منه معشار ما لاقته المقاومة من اتهام وتشنيع.

يوسف زيدان: تهميش القدس

ولم يكن صاحبه يوسف زيدان بأحسن منه حالًا. فالرجل الذي أنكر قدسية المسجد الأقصى وحاول تهميش مكانة القدس لدى المسلمين، خرج خلال الإبادة الحالية ليحمل المقاومة مسؤوليتها بالكليّة، معتبرًا أن “طوفان الأقصى” رد فعل مريض بالتعنت، معتبرًا أن ما فعلته المقاومة كان “فعل مشحون بالكراهية”. انظروا إلى تلاعب المصطلحات: جهاد الدفع الذي هو أوجب الواجبات بات فعل كراهية!

النخب الفكرية: مراد وهبه

بل ووصل الأمر إلى “نخبة النخبة”، حتى الذين في الفلسفة والعلوم العقلية والمنطق، مثل مراد وهبه صاحب المعجم الفلسفي الذي منذ أن كنا في الجامعة يكون مرجعًا لنا، وهو الذي يصاحب عقلانيته بالرشد…. هذا الرجل يكتب مقالًا في ظل مذبحة غزة والإبادة الجماعية، يكتب مقالًا ينشره في يناير 2024 في الأهرام، يدعو فيه إلى محاربة الإرهاب والحركات الإسلامية المعاصرة. وتخيل لماذا؟ لأن الرجل يصرح بزياراته المتبادلة لإسرائيل، وقابل رابين! بالفيديو يقول هذا الكلام وفي مقالاته.

فمثل هؤلاء – بهذا المستوى – يسقطون في المشروع “الإبراهيمي” ضد الأمة، وهم حتى من النخبة الذين يطرحون الفلسفة والعقلانية والمنطق والخطاب التنويري.

الخلاصة: المشروع السياسي الواضح

مما سبق يتضح لنا أن شيوع خطاب التطبيع وشيطنة الجهاد والمقاومة لا يمكن أن يختصر في خانة الشبهات الدينية أو دعاوى التنوير، حتى لو زعم أصحاب ذلك وأقسموا عليه. فما فعل هؤلاء إلا أداة سياسية واضحة تستهدف العبث بعقيدة الشعوب الإسلامية وتفكيك كل المفاهيم التي تقلق الهيمنة الغربية.

تحويل الإسلام إلى دين طاعة

إن هذا الخطاب الذي يزعم التحديث، لا يعرف عن التحديث إلا تدجين الإسلام – احفظوها – وتحويله إلى ماذا؟ إلى دين ليست له شوكة، من دين له شوكة وراية إلى خادم مطيع لا يقلق الحال، ولا يحرج المطبع، ولا يربك حلفاء الصهيونية والتصهين الجديد.

المشروع المتكامل

فمنذ سنوات، والأنظمة التي دخلت حلف التطبيع تتبنى مشروعًا متكاملاً لإعادة صياغة الخطاب الديني وتفصيله على مقياس النظام الدولي الجديد. ولتحقيق هذا التحول، برزت هذه النخب وغيرها وتصدرت المشهد، لا لعمق علمها بل لولائها وتعاميها عن الخيانة والطغيان.

محاولة فاشلة

وما صعودهم هذا إلا محاولة ستبوء – بالخسران إن شاء الله – فلن يفلحوا في تفريغ دين تكفل الله سبحانه وتعالى بحفظه، ولا بهدم بنيان ما يزال الرجال يفنون أنفسهم لأجله، ولسان حالهم يقول:

أهوى الحياة كريمة.. لا قيد.. لا إرهاب.. لا استخفاف بالإنسان فإذا سقطت سقطت أحمل عزتي يغلي دم الأحرار في شرياني..

المصدر

محاضرة مفرغة للدكتور محمد العوضي، بتصرف يسير.

اقرأ أيضا

مشروع “الإبراهيمية”: توظيف الدين لخدمة الأجندات السياسية

الديانة العالمية الجديدة (الإبراهيمية)

التعليقات غير متاحة