حين تضيع البوصلة، يصبح طريق النهضة تيهًا، وتتحول المعارك إلى دوائر مغلقة لا تفضي إلى عزٍّ ولا كرامة. فهل آن للأمة أن تعود إلى أصل دائها لتسترد دواءها؟
ثمة شيء ما كُسر في مسار هذه الأمة… شيء لم يُصلح بعد، رغم كل الشعارات والمراجعات والمشروعات.
كأنها تسير، لكن في غير طريقها؛ تبني، لكن على رمالٍ تتحرك؛ وتنهض، لكن على قاعدةٍ مائلة لا تستقيم.
ما الذي غاب عنها؟ وما الذي لو عاد لتبدّل وجهها وتغيّر مصيرها؟
جذور الاستبداد.. من أين تنشأ الطغيان في أمة تؤمن بالله؟
إنّ المشكلة ليست في تغيير القوالب، ليست في ذات الطغيان والاستبداد، بل في العوامل المنشئة له.
والعوامل المنشئة للطغيان والاستبداد في أمّة تؤمن بالله تعالى وتحبّه وتحبّ رسوله صلّى الله عليه وسلّم مرتبطة كلّها بعدم اتّباع هذا الرسول، أي بعدم اتّباع الشريعة.
الذنوب الجماعية وتوابعها من ذلٍ وهوان
ليست القضية من جنس ما يقوله بعض المشايخ منذ دهر بأنّ ذنوبنا الفردية هي التي جلبت علينا ذلك. لا أقلّل من أثر الذنوب، ولكنّها في الأساس ذنوب جماعية أثرُها واقعي سببي واضح في ما نحن فيه من ضعف وذلّ وهوان.
الهويات الوثنية
منها مثلًا تلك النصوص المتكاثرة في الكتاب والسنّة التي تحدّد هوية هذه الأمة وولاءها وحتمية اجتماعها، ولكنها مع ذلك متمسّكة بالهويات الهشّة الوثنية التي اخترعها لها أعداؤها، ما زالت تُلقي تحية العلَم وتتقدّم إليه بما يشبه الشعائر التعبّدية وتتعصّب للقُطر السياسي ومن يحمل جنسيّته! وقد أدى هذا واقعيّا إلى انفصالها وضعفها وتمزّقها، لم تعد تشعر أنها أمة واحدة وإنْ تغنّت بذلك في المحافل والشعارات، ولكنها “أمم” تتعاطف مع بعضها بعضا، بلا خطة ولا رؤية ولا مصير مشترك.
تعطيل الشريعة
ومنها تلك النصوص المتكاثرة التي تحذّر من تبديل الشريعة وتنذر بالذل والهوان لمن بدّلها أو استكبر عن طاعة الله كما حدث للأمم الماضية التي أكثر القرآن من ذكر أخبارها تحذيرًا لنا من الوقوع في مضلّاتها. لكنّ شطرًا كبيرا من هذه الأمة في خِلوٍ عن هذا الهمّ، وكثير من “نخبها” و”مشايخها” يتساءل ببلاهة: وأين عُطّلت الشريعة؟! وحين عُطلت الشريعة في مساحات ضخمة من المجال العام، وأقمنا شرائع الجاهلية مكانها؛ ازددنا ضعفا وهوانًا بما تفشّى لدينا من أمراض التفكك والتسيّب وحبّ الدنيا والفسق والفجور والفقر وطغيان أصحاب الأموال وغيرها.. فازددنا ضعفًا وهوانًا.
تبعية الكافرين
ومنها مثلا تلك النصوص المتكاثرة حول حرمة ولاء الكافرين، لكنّنا استسهلنا الدخول في تبعيّتهم وتبنّي قيمهم ورسومهم وأنظمتهم مع بعض الرتوش من تقاليدنا وقيمنا. فأحكمْنا التموضع في موقع الذيل، والذيلُ لا يدفع أذى ولا يردّ عابثًا أو منتهِكًا، بل بقينا مربوطين كالأنعام بمن يقودنا ويوجّه مقدّراتنا ويبتزّ زعماءنا.
ومنها ومنها ومنها.. وكلها أسباب دينية غيبية وهي في الوقت نفسه واقعية سببية.. فكيف تنهض هذه الأمة من هوانها وهي لم تعرف بعدُ ذاتها؟
السردية المفقودة
كيف تفرض سرديّتها وتنتصر لها وهي لم تحدّد هذه السردية ولم تحملها، بل حملت سرديّات صغيرة هي عرَض عن فقدان سرديّتها؟
وإنّما نهضت الأمة أول ما نهضت في عهد النبوة حين كانت لها سرديّتها المتماسكة، وحين أدركت أنّ هذه الرسالة في واقعها “نقلة بعيدة”.. بعيدة عمّا تموج به الأرض من جاهليّات.
وهذا كله لا ينفي السياسة ومراعاة الواقع والعمل بقدر الاستطاعة والتحالف مع من تتقاطع مصالحه مع مصالحنا والاستفادة من تجارب الأمم والانتفاع بمنجزات الحداثة المادية.. ولكنّ هذا كلّه شيء وغياب الرؤية والمشروع والتعصّب للقيم الجاهلية شيء آخر تمامًا.
الدرع التي تنقذ العين من المخرز
ستظلّ العين تقاوم المخرز بشجاعة، ولكنها ستظلّ تفشل.. إلى أن تنظر عن يمينها فتلتقط “الدرع” الذي تقاوم به المخرز، وتدرك أنها أضاعت ردحًا من الزمن في تيهٍ عن مهمّتها.
هذه الأمة عزيزة كريمة على الله، ولولا ما فيها من خير لخسفها منذ ضيّعت بوصلتها. ولكنّه – سبحانه ما أرحمه – يبتليها ويمهلها طويلا لتعود إلى دربها الجدَد وطريقها القويم.
المصدر
صفحة الأستاذ شريف محمد جابر، على منصة ميتا.

