يَمُرُّ علينا الشهر الثاني والعشرون؛ وما زال شعبنا يتعرض لأبشع أنواع المذابح والتجويع والموت الجماعي؛ ومقاومتُنا وشعبُنا رغم عِظَمِ البلاء ما زالا في أوج صبرهما وثباتهما وإصرارهما وتحديهما وعزيمتهما؛ وأدائهما الرائع على أرض المعركة، لا يثنيهما عن مسارهما شدة بطش الطغيان ولا نذالة الخذلان..
البلاء: سنة ماضية
لقد اقتضت سنة الله تعالى الذي خلق خلقه للابتلاء؛ ليرى جل في علاه [وهو يعلم] مَنْ مِنْ عباده أَيُّهُم أحسن عملاً؛ قال الله تعالى: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا﴾ [هود: ٦].
وليميّز الشكور الصبور من الكفور، قال تعالى: ﴿إِنَّا خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً﴾ [الإنسان: ٢- ٣].
بل وتزداد هذه الابتلاءات شدةً وضراوةً؛ كل حسب مقدار إيمانه ودينه؛ فعن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال: قلتُ يا رسولَ اللهِ أيُّ النَّاسِ أشدُّ بلاءً؟ قالَ ﷺ: “الأنبياء ثمَّ الأَمثلُ فالأَمثلُ؛ يُبتلَى الرَّجلُ علَى حسَبِ دينِهِ، فإن كانَ في دينِهِ صلبًا اشتدَّ بلاؤُهُ، وإن كانَ في دينِهِ رقَّةٌ ابتليَ علَى قدرِ دينِهِ، فما يبرحُ البلاءُ بالعبدِ حتَّى يترُكَهُ يمشي علَى الأرضِ وما علَيهِ خطيئةٌ”(1).
هذه شهادة من الله ورسوله ﷺ
لأهل غزة ورجالَها بصبرهم وثباتهم وصمودهم وتحديهم؛ أنهم إن شاء الله داخلون في قوله عز وجل ﴿هُمُ المؤمِنوُنَ حَقاً﴾ [الأنفال: ٤]؛ بما تحملوا من أعباء وملمات وكروب وجوع؛ وما أدراك ما الجوع! والصواب: التجويع.. الذي يفتك بالأجساد المنهكة والمتعبة والنازحة ويهلكها، وما أنفقوا من دمائهم في سبيل الله، وهم ما زالوا على صبرهم وثباتهم؛ وبما أنزل الله عليهم من سكينة في قلوبهم؛ وبما مَنَّ عليهم من ذِكْرٍ ويقين يُطَمْئِنُ قلوبَهم؛ حتى يَلْقَوْا رَبَّهُم بألسنة تلهج بالدعاء؛ يتحصنون به لمواجهة أخس وأنذل و﴿أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوةً للذينَ آمَنوا﴾ [المائدة: ٨٢].
ولسان حالهم يقول: ﴿رَبَّنا أَفرغْ عَلَينا صَبراً وثَبتْ أقدامنا وانصرنا على القومِ الكافرينَ﴾ [البقرة:٢٥٠].
يخوضون أشرس معارك التاريخ وأشدها ضراوة؛ ليكشف الله بهم الناسَ.. كل الناس، ﴿لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ…﴾ [الأنفال: ٣٧].
بشريات صبر الأبرار رغم عظم الأخطار
رضينا أم أبينا؛ كرهنا أم امتعضنا؛ فإن الطوفان حقق الكثير من الأهداف العظيمة:
أولاً: تهاوى على أيدي الأبرار نمر الورقِ المصطنع بهالته الضخمة، التي رسمتها وصنعتها مصالح الغرب وإعلامه الخبيث الحاقد على الإسلام والمسلمين.
ثانياً: سقوط نظرية الردع الصهيونية التي لازمت عدونا لأول مرة على يد المجاهدين الأبرار وإلى الأبد.
ثالثاً: وهذا بلا شك أوقف قطار التطبيع العربي المخزي، والذي تسارع في السنوات الأخيرة دون أي مواربة أو خجل.
رابعاً: وعلى إثره أُفشلتْ صفقة القرن بكل أبعادها وأهدافها؛ وخاصة مشروع الهيمنة الصهيو أمريكي في المنطقة العربية.
خامساً: ظهور حقيقة العرب وفساد إعلامهم وخَوَر أعلامهم الذين تزينوا بغير ما أمر الله تعالى.
سادساً: كشف الله حقيقة النفوس الخبيثة التي سكنتها المذلة؛ ووَلَّدَتْ جُبْناً وتَخَاذُلاً؛ لذلك رأينا النبي ﷺ يتوعد العرب بقوله: “لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَيْلٌ لِلْعَرَبِ مِن شَرٍّ قَدِ اقْتَرَبَ، فُتِحَ اليومَ مِن رَدْمِ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مِثْلُ هذِه”. وَعَقَدَ سُفْيَانُ بيَدِهِ عَشَرَةً. قُلتُ: يا رَسولَ اللهِ، أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قالَ:” نَعَمْ، إذَا كَثُرَ الخَبَثُ”(2).
وكأن الخبث ديدن المتخاذلين، ورأس مالهم.
لماذا الخَبَثُ أهم صفات المتخاذلين؟
عندما تخلى بعض العرب المسلمين عن أمتهم بدويلاتهم الصغيرة وبكراهيتهم لطاعة الله وعُجْبِ نفوسهم بحضارة الغرب؛ خرج حُبُّ دينِ الله من قلوبهم بسبب إعجابهم بحضارة الغرب القائمة أساساً على الشرك والمعاصي؛ التي هي أصل عمل الكافرين؛ هذا العُجْب تحول إلى اغترار بحضارتهم الزائفة؛ وبما يزينُ لهم الشيطان وأنفسهم هذا الاغترار؛ مع أن الله نهانا عن ذلك بقوله: ﴿لَا یَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ فِی ٱلۡبِلَـٰدِ * مَتَـٰعࣱ قَلِیلࣱ ثُمَّ مَأۡوَىٰهُمۡ جَهَنَّمُۖ وَبِئۡسَ ٱلۡمِهَادُ﴾ [آل عمران: ١٩٦-١٩٧].
وبما أصابهم من حب الدنيا وكراهية الموت؛ وهذا مصداقاً لقوله ﷺ: “يُوشِكُ الأممُ أن تَداعَى عليكم، كما تَداعَى الأكَلةُ إلى قصْعتِها”، فقال قائلٌ: ومن قِلَّةٍ نحن يومئذٍ؟ قال: “بل أنتم يومئذٍ كثيرٌ، ولكنَّكم غُثاءٌ كغُثاءُ السَّيلِ، ولينزِعَنَّ اللهُ من صدورِ عدوِّكم المهابةَ منكم، وليقذِفَنَّ اللهُ في قلوبِكم الوهْنَ”، فقال قائلٌ: يا رسولَ اللهِ وما الوهْنُ؟ قال: “حبُّ الدُّنيا وكراهيةُ الموتِ”(3).
هذا الوهن الناتج عن حب الدنيا الذي وَلَّدَ لديهم الذلةً والهوان؛ رغم كثرتهم وما يملكون من ضخامة الأموال؛ فامتلأت قلوبهم بحب الدنيا فخارت نفوسهم وخَبُثَت قلوبهم، وخاصة عندما تخلوا عن ولائهم لدين الله وعدم انتمائهم له؛ فكان يوم السابع من أكتوبر ٢٠٢٣م؛ ليكشف أمر العدو وحقيقته الواهية ومن والاه؛ ويُظْهِرُ سوءاتهم جميعاً؛ بل ويفضح كل مدعي الإنسانية والديمقراطية والأخلاق وأصحاب اللحى المزيفة والعمائم المستأجرة!
فعُرِف القريب من ربه، من البعيد؛ والطيبُ من الخبيث، والشكور من الكفور، والْبَرَّ من الفاجر، والخلوقُ من الدعي، والمُنَاصرُ من المتخاذل، والمؤمنُ من المنافق؛ قال الله تعالى: ﴿لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىٰ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾ [الأنفال: ٣٧].
لقد بات الأمر واضحاً؛ ليس على مستوى غزة فحسب؛ بل على جميع المستويات والأصعدة العربية والإسلامية والعالمية.
سنة ماضية في الأمم
كان الناس في زمن موسى عليه السلام راضين بالمذلة والهوان؛ يقبلون قتل أبنائهم؛ واستحياء نسائهم؛ حتى جاءهم موسى عليه السلام ليخرجهم من الظلمات إلى النور؛ قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَىٰ بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُم بِأَيَّامِ اللَّهِ ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ﴾ [إبراهيم: ٥]؛ وقد استجاب أتباع موسى عليه السلام فآمنوا؛ لكنهم فوجئوا بِشَدَّةِ رَدِّ فعل فرعون الطاغي بإبادة خضرائهم، واستئصال شأفتهم؛ فقالوا لموسى عليه السلام: ﴿قَالُوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِيَنَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا…﴾ [الأعراف: ١٢٩].
لقد اعترف أتباع موسى عليه السلام بأنهم أوذوا من قبل أن يأتيهم عليه السلام؛ لكنهم كانوا ساكتين راضين، متحملين بذلة وهوان؛ وعندما أرادهم موسى لما أراد الله لهم من العزة والكرامة والحرية؛ استنكروا؛ فماذا قال لهم موسى عليه السلام: ﴿قَالَ عَسَىٰ رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ [الأعراف: ١٢٩]؛ رفضوا أن يستخلفهم ربهم بعبادته وطاعته؛ وبما رضوا لأنفسهم من ذلة وهوان؛ وهذا للأسف حال كثير من أبناء أمتنا اليوم؛ ﴿رَضُوا بِأَن يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ﴾ [التوبة: ٨٧].
معركة لها أهلها ورجالها
إن احتلال أرض فلسطين وبيت المقدس لعشرات السنين؛ وقد تجاوز العدو كل الخطوط الحمر في اعتداءاته وإجرامه؛ لم يحرك للعربان والمسلمين ساكناً؛ ويُعَدُّ امتحاناً عظيماً ومهما لأمة محمد جميعاً، والذي فشل في تجاوزه الكثير الكثير؛ ولم ينجح فيه إلا ثلة قليلة مؤمنة؛ تلك التي أيقنت أن ليس للأقصى وبيت المقدس إلا أهله؛ الذين تَزَوَّدُوا بالتقوى؛ ليجوزوا هذا الامتحان الصعب والمؤلم والقاسي، امتثالاً لأمر الله تعالى: ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَىٰ ۚ وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [البقرة: ١٩٧]..
التزود الذي ألزمهم العكوف على ذكر الله، وتلاوة كتابه وحفظه ودراسته وتدبره؛ والعمل بسنة رسوله ﷺ وخاصة سُنة الذكر والدعاء؛ والتي تحصنوا بها وقادتهم إلى سلامة التوحيد، والإعداد الجيد، حسب المستطاع والإمكانات؛ لمقاتلة من احتل أرضنا واعتدى علينا؛ امتثالاً لأمر الله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُم مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ﴾ [البقرة: ١٩٠-١٩١]؛ فكان الإعداد بالرجال والكتائب والسرايا؛ من أهل الوضوء والفجر، زمراً وأفواجاً، فرادى وجماعات؛ مقبلون على الله بإيمانهم، متحصنون بذكر الله ودعائهم؛ يتسارعون بذلك إلى مغفرة الله ورضوانه؛ يرمون بالله عدوَ الله بشتى أنواع الرمي؛ امتثالا لأمر الله: ﴿وَمَا رَمَيتَ إذْ رَميتَ ولكنَّ اللهَ رَمَى﴾ [الأنفال: ١٧]؛ ولِتُطْوَي صفحة العدوان والطغيان؛ وتَتطهر الأرض التي باركها الله للعالمين بإذن الله تعالى.
صدق الإيمان وحسن الإعداد
هذا التسارع إلى الله تعالى لم تكن بدايته طوفان الأقصى؛ بل من قبل الطوفان بعشرات السنين؛ مع حِلق القرآن والذكر ودراسة الفقه والسيرة النبوية، وليالي الاعتكاف، والكتائب السرية بين القيام والذكر والدعاء؛ وليالي الرباط التي ما انقطعت ليلة؛ حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه؛ ووصولاً إلى صفوة الحفاظ، ومن عشرات الحفاظ لكتاب الله؛ إلى المئات؛ بل إلى آلاف الحفظة من الرجال والنساء الصادقين بزهدهم ونقائهم ودينهم وأخلاقهم؛ حتى تُوِّجَ جُهْدَهُم وجهادهم بيوم السابع من أكتوبر؛ قال الله تعالى: ﴿مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾ [الأحزاب: ٢٣].
رجال بذكر الله تسابقوا وبقول الله قالوا: ﴿ومَا رَميتَ إذْ رَميتَ وَلكنَّ اللهَ رَمَى﴾؛ أيهم يلصق اللغم في بطن دبابة أو ظهرها ليدمرها ويحقق الهدف؟
﴿ومَا رَميتَ إذْ رميتَ﴾ قبل أن يوجه (الأر. بي. جي.) وهو يدعو ويقول: اللهم سدد اللهم سدد!
وهو يعلم أن الله يرمي نحو الدبابة ليدمرها؛ دون أن ترمش له عين؛ وزميل آخر في الجهة المقابلة يجري مسرعاً، بـ﴿ومَا رميتَ إذْ رميتَ﴾ بكل جرأة يحمل عبوته ليفجر دبابة أخرى بالجانب الآخر ليعود أدراجه بكل الطمأنينة والسكينة!
وآخر يركض مسرعاً ناحية عربة جند يعتلي ظهرها بقوله: اللهم وفق! ثم يُلقي في قمرة قيادتها عبوة الشواظ ويحرقها؛ وينتقل إلى أخرى بكل الجرأة والإقدام بين الركام؛ ليوقف رتل الدبابات ويمنعها من التقدم والحركة؛ لأكثر من خمس ساعات، ويحقق الهدف؛ رغم طائرات العدو التجسسية التي تملأ المكان!
وللحديث بقية إن شاء الله..
المصدر
مجلة أنصار النبي ﷺ ، الشيخ حسن الخطيب، عضو رابطة علماء فلسطين.
اقرأ أيضا
لمن يسأل: أينَ الله؟ ولماذا لا ينتقمُ لغزَّة؟!
لماذا نحتاج أن ندافع عن غزة؟ وكيف نتخلص من العجز؟