تكلم سيد قطب رحمه الله عن الشهادة قبل أن يؤديها لربه تعالى ثم لأمته..فللشهادة معانٍ وغايات، والشهادة تؤدي وظيفة في مسيرة هذا الدين وفي حياة هذه الأمة.. وفي الملأ الأعلى..
الشهادة جزء من حركة الحياة وجزء أصيل من تكوين هذا الكون
حدث في الملأ الأعلى أن قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة، وأنهم استفهموا عن كون أن يكون الخليفة يفسد ويسفك، فكان الجواب أن في علم الغيب من الغايات الحميدة ما لا يعلمونه الآن، وقد كانت الشهادة في سبيل الله بأن يقدم هذا الخليفة روحه ودمه لربه راضيًا، محارباً لمسخوطات ربه تعالى وحملاً لمنهجه وأمره، كانت هذه الشهادة بعض الإجابة العملية على سؤالهم، حتى إذا رأوها علموا بعض مرامي حكمة رب العالمين.
الشهادة توقيع عن عقيدة وموقف، توقيع بدم وروح وحياة..
الشهادة صدق عميق فلا تدع مجالاً لكذب النفس أو التوائها أو أن تعاهد فتغدر أو تفجر أو تتأخر أو تتقاعس أو تتلكأ أو تتردد..
الشهادة لحظة اختيار حاسم بين غيب وشهادة بين سماء وأرض بين خلود وفناء.
الشهادة صلة بمن له الوجود الأزلي والأبدي، ليخلد ذلك المخلوق الفاني بارتباطه بربه تعالى.
الشهيد ما أحسن أثره على الناس
الشهادة طيبة عميقة وغريبة، شخص يحمل قضية ودعوة فلا يكتفي بها لنفسه بل يريدها للخلق كلهم، ثم ينفر المدعوون الشاردون عن الحق وعما يصلحهم، فيقدم الشهيد دعوته إليهم، ثم يقدم عمره كله لإيصال ذلك الخير، فما أحسن أثره على الناس وما أسوأ أثر الناس عليه.
لم يذكر ربك تعالى أن أحدًا يدعو قومه في حياته وبعد مماته إلا الشهيد، فصاحب يس دعا لربه في حياته {يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ} [يس:20]، ثم بعد أن قتلوه ونال الشهادة لم يجد في قلبه حقدًا، بل وجد رغبة في إيصال الخير إليهم، لم يستطع هو إيصالها بنفسه لبعد الديار! لكن أوصلها ربك تعالى، فقال بعد الشهادة: {يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ} [يس:26-27].
ولما استشهد بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لهم نفس الشعور الكريم، روى البخاري قال: قَالَ أَنَسٌ: “أُنزِلَ فِي الَّذِينَ قُتِلُوا بِبِئْرِ مَعُونَةَ قُرْآنٌ قَرَأْنَاهُ، ثُمَّ نُسِخَ بَعْدُ: «بَلِّغُوا قَوْمَنَا أَنْ قَدْ لَقِينَا رَبَّنَا، فَرَضِيَ عَنَّا وَرَضِينَا عَنْهُ»”.
ثم نزل القرآن الناسخ الذي يُتلى إلى اليوم عندما وجدوا كرامة الله تعالى لم تضق صدورهم أن ينالها من لم يزل في الحياة بل استبشروا لهم وتمنوا لهم الخير {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ * فَرِحِينَ بِمَا آَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ * يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ} [آل عمران:169-171].
إنهم ينتظرون إخوانهم ويتمنون لهم الخير، طيبة عميقة تحتاج النفوس اليوم أن تتدرب عليها.
الشهادة أثر باق وانفعال متبادل وفعل مؤثر دائم.
الشهادة طاقة تتفجر كل حين.
الشهادة كلمة ثقيلة لا تستطيع الأفواه الكاذبة ولا الإعلام المضلل أن يمحوها.
الشهادة استمطار لرحمة الله بالمؤمنين المستضعفين
الشهادة بقتل أولياء الله تعالى توجب غضب الرب وانتقامه فإن الله تعالى ذكر من ضمن حكمة المحن والشهادة {وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران:140-141]، قال ابن القيم أنهم بقتلهم أولياءه تعالى يستحقون غضبه فيمحقهم.
وقال عن المؤمن في سورة يس بعد دخوله الجنة وهناءته فيها؛ أنه وإن تنعم لكن غضب الله تعالى على قاتليه فقال تعالى بعده: {وَمَا أَنزَلْنَا عَلَىٰ قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ * إِن كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ} [يس:28-29] فكأن الشهادة استعجال لخطو السماء، واستعجال لفصل القضاء، واستمطار لرحمة الله بالمؤمنين المستضعفين، واستنزال لعقوبته تعالى على المعرضين المحادّين لهذا الدين.
الشهادة كلمة صاخبة جدًا في هدوء شديد، وهادئة بين الصخب؛ حيث صخب النفوس وصراعها على نصيبها من هذه الحياة وتنافسها، فيتقدم الشهيد في هدوء شديد، كأنه يقول: فيم تتقاتلون؟! فيقدم تلك الحياة زهيدة رخيصة عن رضى وطواعية، مشترياً الآخرة والجنة، فتصل رسالة شديدة القرع على النفوس عالية الصخب على القلوب، فتظل تتساءل، حتى ولو هربت من السؤال، لكنه يظل يطاردها لماذا تخلى عن شيء نتنافس نحن ونحلم ببعضه؟ هل ثمة ما هو أغلى قد ذهب إليه واختاره؟
الشهادة صفقة يشتري الآخرة بما فيها ويبيع تلك الدنيا، صفقة يشتري الغيب ويبيع الشهادة.
الشهادة قد تكون تتويجًا لعمر وجهد وعمل دؤوب، وقد تكون مكافأة لخبيئة خير في قلب طيب مخلص شفاف، أو لخبيئة خير يجازى أن يغسل صاحبها من ذنوبه بدمه.. لا تنسَ فالشهادة درجات.
الشهادة ليست نهاية فرد ولا نهاية قصة حياة بل هي طاقة جبارة وقوة إيجابية لتعديل مسار الحياة، وقرع صاخب للدلالة على الحق، وإزعاج داوٍ للباطل، وإسقاط عميق له، وإفقاد لشرعيته، وهزيمة لانتفاشته.
الشهادة انبلاج لصبح جديد، يرفع ستاره أطيب الخلق وخيرهم والفئة المصطفاة والمختارة، اتخذها الله شهداء لنفسه ولغيبه ولطريقه ومنهجه، يضعون بصمتهم فتحتفظ بها الحياة في حناياها والنفوس في ثناياها.
تبقى الشهادة ضمن قوله تعالى للملائكة: {إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ}.
الشهادة بالحياة نفسها
هذه الشهادة بالموت، وتبقى شهادة أخرى برحلة الحياة ذاتها واختيار الإنسان فيها لدين الله ومنهجه؛ يحيا من أجله لحظة بلحظة، ويعمل من أجله لحظة بلحظة، بل بكل قطرة من دمه؛ قطرةً قطرة، فيحيا شهيدا بحياته ذاتها، سواء توّجت حياته بقتل في سبيل الله أو بقي وفيا صادقا لآخر عمره حيث تسبّح أنفاسه، قال الحواريون: {رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ} [المائدة:83]، وهي نوع آخر من الشهادة أشار إليها الأستاذ الشهيد رحمه الله.
قال رحمه الله: تبقى كلماتنا عرائس من الشموع، فإذا رويناها بدمائنا دبت فيها الحياة”. بقيت كلماته وكلمات إخوانه من الشهداء حية صاخبة تزعج الباطل وتنير الطريق وتهز النفوس وتقرع الأسماع وتوصل الخير والحق إلى ما شاء الله.. عندما تتكلم الشهادة.