كنت أحب أن أكتب عن انتصارات غزة التي أبهرتنا، وأن الهدنة في غزة نصر عظيم، فغزة لها علينا حق كبير ودَين في رقابنا إلى يوم الدين، لكنني رأيت أن السودان -وما زال في محنته- أحق بالكتابة عنه وبتذكير الناس به، فالسودان وغزة وسوريا ومسلمو الصين وغيرهم أمة واحدة لا فرق بين عربي ولا عجمي، وكلهم مسلمون لهم الحق علينا، نفرح لفرحهم ونتألم لألمهم، فنحن كلنا جسد واحد.
طبيعة المعركة في السودان
قد يظن البعض أن الحرب في السودان حرب داخلية، أو نزاع على السلطة بين جنرالين من جنرالات الجيش، أو بغضٌ لحاكم السودان ومحاولةٌ للانقلاب عليه، كنا نتمنى أن تكون حتى كذلك! لكن الأمر غير ذلك بالمرة.
إن الأمر في السودان خروج مسلح مدعوم من جهات مشبوهة، وهو خروج على السودان وعلى الدولة لا على الحاكم، خروج على الشعب ذاته، انتقام من أهل السودان، عامان والكل يشهد أن (ميليشيات الدعم السريع) ليس هدفها المال وفقط، أو السلطة وفقط، لكن هدفها الذي يعلمه القاصي والداني، هو تفريغ السودان من شعبه، لأن شعبه لا يعجب السادة، وبعد تفريغها يحلون مكانهم سكانًا جُدد لتغيير الدولة بتمامها، وما تفعله (المليشيا) من قتل وتشريد وإذلال للشعب السوداني ليس إلا لإجبارهم على ترك بلادهم والهجرة لأي مكان آخر، واسألوا في ذلك أهل دارفور وأهل الجزيرة ومن قبلهم أهل الخرطوم.
أرباح الإمارات من وراء دعم ميليشيات الدعم السريع
إن هذه (المليشيا) المدعومة من دولة الإمارات المارقة، والتي تنفذ الأجندة الصهيونية بامتياز وبإخلاص أكثر من الصهاينة أنفسهم، والتي أبرمت الاتفاقيات على تسليم السودان: موانئها ومطاراتها وجبال ذهبها وخيراتها للإمارات، مقابل دعم الإمارات لهم في الحرب. لذا قامت الإمارات بإلجام كل من كان يظن أنه سيقف مع الجيش السوداني بالسلاح أو غيره، فألجمت مصر وغيرها بما تستطيعه من أدوات الإلجام. أقول إن هذه (المليشيا) لا تعرف للوطنية سبيلًا، فضلًا عن كونها تعرف شيئًا عن الإسلام، هذه (المليشيا) التي لا تعرف الإنسانية ولا الرحمة ولا الآدمية، ما هي إلا حفنة من المرتزقة جاؤوا لتنفيذ ما يؤمرون به لمصلحة أعداء الأمة، ولقد كان زعيمهم يُعَدُ لذلك منذ سنوات عدة، إنه مخطط عالمي يدار اليوم على السودان.
لكن ما سبب الحرب على السودان بهذه الطريقة؟
الإجابة سهلة وواضحة ومرئية لكل ذي عينين، فلا نرجع لأيام سايكس بيكو وما مرادها من تمزيق العالم الإسلامي لأجل سهولة السيطرة عليه ونهب ثرواته، ولكن تعالوا بنا للمخططات الحالية لتقسيم السودان المقسم أصلًا إلى دويلات أصغر وأضعف مما هي عليه، وما انفصال الجنوب منا ببعيد، ومنذ تولي البشير السلطة في السودان، ورأى الغرب أن هذا حكمًا إسلاميًا لا يمكن السماح به ولا بمثله، ومن ساعتها وفرضت على السودان قيود شديدة وحوصرت اقتصاديًا، ووضعت لها الخطط للقضاء عليها.
وظلت حكومة البشير تحافظ على بعض الثوابت رغم ما كان من حصار عليها، فكان الإسلام في السودان حاضرًا وفي عافية، والدعاة يتحركون بكل أريحية وحرية، وكانت السودان ملجأً لكل مظلوم ومضطهد في بلده، فاستقبلت جموع السوريين الفارين من ظلم الأسد، وكذلك المصريين الفارين من الانقلاب العسكري، وغيرهم من البلاد الأفريقية وغيرها، كما كانت السودان منارة علمية إسلامية عالمية من خلال جامعاتها وخاصة جامعة إفريقيا العالمية التي أصبحت صرحًا تعليمياً يقصده طلاب العلم من كل دول العالم، تلك الجامعة التي كانت أول أهداف المنقلبين على حكم البشير، فعزلوا أفضل أساتذتها، وقيدوا كل الأعمال بها.
والأكثر من ذلك هو موقف السودان القوي والثابت من القضية الفلسطينية ومن القدس الشريف، فهي التي شكلت على أرضها لجنة القدس وكانت تجمع التبرعات للقدس بأكثر مما تجمعه لمصالحها الداخلية، وكانت ممرًا مهما لأهل فلسطين، واتهمت بتوصيل السلاح والعتاد للمقاومة الفلسطينية، وبتدريب الفلسطينيين على أرضها، وضُرِبَت لأجل ذلك بعضُ مصانعها، وكانت رغم ذلك تفتح ذراعيها لـ(حماس) وفصائل المقاومة ليفتحوا مكاتبهم ويباشروا أعمالهم من على أرض السودان، وكان البشير نفسه صارمًا في هذه القضية ويرفض التنازل فيها ولو قليلًا، ورفض التطبيع بكل أشكاله، وكان يرفض مجرد اللقاء أو مصافحة أي صهيوني.
وأما ما يزيد حقد الغرب على السودان هو فطرة أهلها السليمة والتي لا تعرف إلا الحب والعاطفة نحو الإسلام، فالكل في السودان يعتز بدينه وإسلامه، ولذا تأثير التغريب فيها قليل، وأصحاب الحداثة هناك غرباء، فأهل السودان يهرعون للصلاة مع كل نداء حتى لو كانوا في أسواقهم، فحري بهم أن يلبوا النداء يومًا ما لو نادى منادي الجهاد.
كل هذا جعل السودان في دائرة اهتمام الغرب الصليبي الصهيوني الكافر، ومن هنا نقول إن السودان يدفع اليوم ضريبة نصرته لقضية فلسطين وضريبة تمسكه بدينه وعقيدته.
غزة وتصدر المشهد
ورغم أن الحرب في السودان سبقت طوفان الأقصى بنحو ستة أشهر، إلا أن طوفان الأقصى لكونه معركة مباشرة مع الصهيونية فقد خطف كل الأضواء، فتصدرت حرب غزة المشهد كله، ليظل السودان في نكبته خلف الجدران لا يتحدث عنه أحد إلا باستحياء، في حين أن المجازر التي تفعلها (المليشيا) لا تقل جرمًا عما يفعله الصهاينة في غزة، فهم يقتلون بكل وحشية ويهدمون المنازل ويشردون البشر عن مواطنهم، بل ويهينون العباد وهذا أشد من الموت خاصة عندما يهينون كبار الناس وكبار العائلات أمام الصغار وعامة الناس.
وأما ما يفعلونه زيادة عن جرم الصهاينة فهو اغتصاب النساء، ولم يظهر من هذا إلا القليل لكنهم يفجرون في اغتصاب النساء، وحسبك أن تسمع عن حالات اغتصبوا فيها الفتاة أمام أبيها فمات قهرًا وهو عاجز عن الرد عن شرف ابنته! وحسبنا الله ونعم الوكيل.
السودان والموقع الاستراتيجي
كان من نصيب السودان أن يقع موقعًا استراتيجيًا وسط الوطن العربي، وموقعًا استراتيجيًا عالميًا؛ فهي رابطة اتصال مهمة بين إفريقيا وآسيا بإطلالتها على البحر الأحمر، وموقعًا استراتيجيًا مهمًا في قارة إفريقيا نفسها، فهي بوابة إفريقيا، وكل الأفارقة يجلونها ويزورونها ويتعلمون فيها ويأخذون الدين منها، وموقعًا استراتيجيًا من ناحية مساحتها الشاسعة الواسعة، وموقعًا استراتيجيًا اقتصاديًا لوفرة خيراتها وثرواتها وجبال الذهب فيها وزراعاتها الممتدة شرقًا وغربًا شمالًا وجنوبًا ونفطها ومائها.. مما حباها الله تعالى، وموقعًا استراتيجيًا وعمقًا لدولة كبيرة مثل مصر فمصر والسودان كانتا دولة واحدة وما زالتا شعبًا واحدًا يسكن دولتين من صنع سايكس بيكو، فمصر والسودان صنوان لا يفترقان، ومن ماء واحد يسقيان، وفي الأُكل يتكاملان ولا يتفاضلان، فموقعها الاستراتيجي هذا عرضها للخطر وجعل الأعداء يسعون جاهدين لتفكيكها والسيطرة عليها، خوفًا وخشية منها.
المؤامرة على السودان
المؤامرة على السودان قديمة حديثة، فهي من ضمن العالم الإسلامي المُتآمر عليه منذ عقود، وزاد التآمر بوصول الإسلاميين للحكم، فبدأ الحصار على السودان، واستغل العملاء فرصة ضعف الحالة الاقتصادية وغلاء الأسعار فأججوا ثورة ضد نظام البشير، صادف ذلك فسادٌ في حكومة البشير وضعفًا فيها أدى ذلك لانهيارها، وجاءت (قحت) بخيلها وخيلائها ولا هم لها إلا محاربة الدين والإسلام في كل صوره، فازدادت البلاد فقرًا وانهيارًا وضياعًا، فما هي إلا ثلاثة أعوام حتى تفككت السودان وأوشكت على الانهيار، ثم تعاون هؤلاء العملاء الذين جاؤوا من أروقة الغرب مباشرة بنية تدمير البلاد، تعاونوا مع ما يسمى بـ(الدعم السريع) والذي كان قادته يغازلون الصهاينة والغرب ليقفوا معهم للقضاء على ما تبقى من السودان وذلك عن طريق الكفيل الإماراتي المشبوه.
ما آلت إليه الأمور
وقد آلت الأمور إلى حد سيء لا يعلم مداه إلا الله تعالى، وشرد الكثيرون من أهل السودان وقتل منهم الآلاف ودفنوا دون ضجيج ودون أن نجد لهم باكيًا ينعيهم ولا راثيًا يكتب لهم قصيدةً من قصائد الرثاء، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
ووجد أهل السودان أنفسهم بين عشية وضحاها في صحراء قاحلة يموتون عطشًا وجوعًا بعد أن كانوا آمنين مطمئنين، وهنا فكر شبابها بل قُل: رجالها وأهل العزيمة فيها، وقالوا: لا حل سوى المقاومة لهذه الجحافل المرتزقة الغريبة عن السودان وأهله، والتي ما جاءت إلا لطمع في نفوسها لتنال من أهل البلاد الطيبة، فهرع الآلاف ممن يؤمنون بفريضة الجهاد، ويتغنون بحب الاستشهاد، هرعوا ينضمون للقوات المسلحة لا تجنيدًا بل دعمًا وإسنادًا، فشكلوا المجموعات وحملوا الرايات وانطلقوا مكبرين، لتنضم إليهم عشائر الكرامة والنخوة تؤيدهم وتمدهم، ومن هنا بدأت بشائر النصر تلوح في الأفق، وبدأ الغزاة المجرمون في الاندحار وهُزموا هزائم متتالية.
نعم، شنوا حرب انتقام على الأهالي العزل لما فشلوا أمام المجاهدين، بالتمام كما يفعل الصهاينة في غزة الأبية، لكن رغم جراح الأهالي الغائرة إلا أن الجميع راض ويدعو للمقاومين المجاهدين بالنصر المبين، وعساه يكتمل ويكون قريبًا بإذن الله رب العالمين.
وهنا بدأ أهل اللؤم الخبثاء من الصليبيين يتحدثون عن السودان وعن أهل السودان، وعن مجازر (المليشيا)، وذلك بغية السيطرة مرة أخرى على مجريات الأمور، وتصوير أنفسهم في اللقطات الأخيرة أنهم وقفوا مع السودان، وذلك بغية أن يُمْلُوا على السودان ما يريدون ويقدموا من يريدون، لأجل مصالحهم الدنيئة، ألا فليحذر السودانيون قبول أي حل خارجي يملى عليهم.
أين العالم الإسلامي من السودان؟
ما زال العالم الإسلامي يدهشنا ويحيرنا بمواقفه المخزية تجاه أهم القضايا التي تمس أمنه القومي من الدرجة الأولى، فمع عجزه المتناهي تجاه قضية فلسطين والمسجد الأقصى، نجده أيضًا عاجزًا عجزًا غريبًا مع قضية السودان، رغم بساطة الأمر من ناحية النصرة وسهولته في السودان عنه في فلسطين، ورغم المصالح العظيمة الضائعة والتي تترتب على ضياع السودان -لا قدر الله تعالى- خاصة على مصر التي تعلم أن السودان أمنها القومي، وعمقها الاستراتيجي، ولكن القوم مخمورون لا يدرون ما يحيط بهم، وكثرة المآسي أفقدتهم الحس والفهم والنظر في مصالحهم، فلقد ضاعت أمام أعينهم لبنان والعراق وسوريا واليمن وليبيا، وهم فقط يفتحون أفواههم ولا يتكلمون، وتراهم ينظرون وهم لا يبصرون، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وأما المخرج بعون الله تعالى فسيكون في وعي الشعوب بقضيتهم، وبالأخطار التي تحدق بهم، ولهم في غزة خير مثال، ألا فليدرك قومي أنه ما ضاع حق وراءه مطالب، وما ضاعت أرض عليها مقاوم، وما ضاعت بلاد بها شباب واعٍ مدرك يعرف حقه، وما ضاع دين أبدًا وبه رجال مؤمنون صادقون محبون للشهادة في سبيل الله تعالى.
ولاحت بشريات النصر
وها قد لاحت بشريات النصر على أرض السودان، وبدأت الانتصارات تترا، واندحرت قوات التمرد بدرجة كبيرة وتوالت هزائمها، وآخر ما رأيناه من ذلك دخول الجيش والمجاهدين لمدينة (مدني) ثاني أكبر المدن السودانية، وأوشكت المعركة على نهاياتها في الخرطوم وغيرها بإذن الله تعالى، وغدًا تلتحق السودان بسوريا وأفغانستان منتصرةً عزيزةً، يتسيد فيها أهلها الحقيقيون، وتعود لسابق أمنها وأمانها بإذن الله تعالى.
فاللهم عجل بنصرك المبين على أهل السودان وفلسطين، واجمع شمل أمة محمد ﷺ أجمعين!
المصدر
مجلة أنصار النبي ﷺ، د. حسين عبد العال.
اقرأ أيضا
الأصابع الصهيونية في القارة الأفريقية ودورها في السودان