إن العلمانية لا تقبل حاكمية الشريعة في المجال الجماعي، أي لا تقبل أن تكون التشريعات في الدولة مبنية على منظومة الشريعة وما حُمّل عليها بطرق الاجتهاد الشرعي، ولا تقبل أن يكون القضاة علماء مجتهدين يحكمون بالشريعة والفقه. لكنّ المسلمين مكلّفين بإقامة شرائع الإسلام التي جاءت في الكتاب والسنّة، وكثير منها معطَّل، فماذا يفعلون؟
إعادة تدوير للجبر والقبول بالواقع
لا يمكن إقامة الدين كما أراده الله مع الإقرار بعلمانية الدولة، هذه الحقيقة البديهية يحاول اليوم بعض من ينتسبون إلى الإسلام ويكتبون في مجال الفكر الإسلامي أن يشوّشوا عليها، بأفكار علمانية بالية يعيدون تدويرها بصياغات جديدة لتبدو مقبولة إسلاميّا، أو تحت حجة عدم إمكان إقامة الشريعة في واقع الدولة القومية الحديثة. وهكذا توضع عشرات الأحكام الشرعية القطعية التي كُلّفت بها الجماعة المسلمة في الأدراج لمجرّد أنّ الواقع الذي فرضه علينا الاستعمار الغربي يخالفها. وهذه إعادة تدوير للجبر والقبول بالواقع أيّا كان ولكنْ بصيغة أكاديمية!
العلمانية لا تقبل حاكمية الشريعة
لكنّ الحقيقة أنه لا جديد تحت الشمس، فالعلمانية لا تقبل حاكمية الشريعة في المجال الجماعي، أي لا تقبل أن تكون التشريعات في الدولة مبنية على منظومة الشريعة وما حُمّل عليها بطرق الاجتهاد الشرعي، ولا تقبل أن يكون القضاة علماء مجتهدين يحكمون بالشريعة والفقه. إنها لا تقبل ببساطة أن يتدخّل الدين في نظام الحكم. تقبله اعتقادا في ضمائر الأفراد وطقوسًا شعائرية والتزاما ببعض الأحكام على المستوى الفردي إن كانت سخية معنا! أما أن تكون له الكلمة العليا، فلا، وألف لا!
لكنّ المسلمين مكلّفين بإقامة شرائع الإسلام التي جاءت في الكتاب والسنّة، وكثير منها معطَّل، فماذا يفعلون؟
هل ينتظرون الأوضاع المثالية التي تسمح لهم بذلك؟ أم يناضلون بكل ما يستطيعون للتمكّن من إقامتها ويقيمون ما يستطيعون منها لأنّها أمر الله عزّ وجلّ ولا يجوز تأخيرها ما دامت مستطاعة؟
لكنّ الشريعة لم تسقط
عبر التاريخ الإسلامي لم تكن أوضاع المسلمين مثالية يومًا من الأيام، أُهدرت بعض أسس نظام الحكم في الإسلام كالشورى والجماعة التي تقوّم السلطة، وأُخذ التوريث عن الهرقلية والكسروية، واختُزلت الجماعة المكلّفة بتقويم الأوضاع العامة، والتي كانت حاضرة في عهد الخلفاء الراشدين، بالسلطة الضيّقة للإمام وحاشيته، مع جهود فردية لبعض العلماء دون مشاركة حقيقية في نظام الحكم. لكنّ الشريعة لم تسقط، بل ظل معظمها يقام بأدوات الدولة والمجتمع على السواء، تراجعت حينا وتقدّمت حينا، لكن العبرة أن الأوضاع المخالفة للشريعة في بنية الحكم لم تكن سببا في النكوص عما يُستطاع إقامته من دين الله.
منظومة مغايرة تشريعًا وولاءً
وكذلك الأمر – مع الفارق الكبير – في أوضاعنا المعاصرة، فواقع الدولة القطرية القومية لا يجعلنا نلغي فكرة إقامة أحكام ديننا من الحسبان، نعم هي مضادّة لفكرة الإسلام عن الحكم ولتطبيقه عبر التاريخ بشكل كبير، ولكنّ المضادّ فيها ليس كونها دولة حديثة، بل هو تحديدا: الانتساب إلى القانون الوضعي الذي يشرّعه البشر بأهوائهم بمعزل عن هداية الوحي، والاجتماع على المواطنة باعتبارها الرابطة الأعلى، أو “القومية القُطرية”، فهي “دولة المواطن” لا “دولة المسلمين”.
فهل نقف مكتوفي الأيدي لأنها مصمّمة بمنظومة مغايرة تشريعًا وولاءً؟
واجب الوقت: تعزيز الرابطة الإسلامية وحاكمية الشريعة
الواقع أنّ بإمكاننا فعل الكثير، فالقاعدة الشرعية أنّ “الميسور لا يسقط بالمعسور” وأنّ “ما لا يُدرك كلّه لا يُترك جلّه”، وقال الله تعالى قبل ذلك: {فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ}، وهذا الأمر عابر للعصور والأوضاع، فحتى لو كنت مشلول الجسد ستظل فريضة الصلاة واجبة عليك وإن كنت عاجزًا عن إقامة معظم شروطها وأركانها! ولذلك علينا أن نسعى في بلداننا إلى إقامة ما نستطيعه من دين الله، حتى لو لم تتحقّق “الشروط” المثالية لإقامته، ولم تتوفر كلّ “الأركان” لتطبيقه، لأنّ الواقع بطبيعته لن يكون يومًا ما مثاليّا.
يقول الإمام ابن تيمية رحمه الله: “والنجاشي ما كان يمكنه أن يحكم بحكم القرآن، فإنّ قومه لا يقرونه على ذلك، وكثيرًا ما يتولى الرجل بين المسلمين والتتار قاضيًا، بل وإمامًا، وفي نفسه أمور من العدل يريد أن يعمل بها فلا يمكنه ذلك، بل هناك من يمنعه ذلك، ولا يُكلف الله نفسًا إلا وسعها. وعمر بن عبد العزيز عودي وأوذي على بعض ما أقامه من العدل، وقيل: إنه سمّ على ذلك. فـالنجاشي وأمثاله سعداء في الجنة وإن كانوا لم يلتزموا من شرائع الإسلام ما لا يقدرون على التزامه، بل كانوا يحكمون بالأحكام التي يمكنهم الحكم بها” (منهاج السنّة النبوية).
انظر إلى كلامه عن بلد نصراني كالحبشة آنذاك يحكم بشرائع أخرى، وإلى نظام تتري يحكم بالياسق الذي وضعه جنكيز خان، فكيف في بلد معظم أهله مسلمون مكلّفون بإقامة أحكام دينهم ولا تسقط عنهم هذه الأحكام لأنّ تصميم الدولة الذي صمّمه الاستعمار بُني على أصول فاسدة!
بل هم مكلّفون بتغيير ذلك، والواجب بثّ الوعي والتربية على تغيير الواقع الفاسد وتعزيز الرابطة الإسلامية وحاكمية الشريعة وبيان مفاسد الأيديولوجية القومية العلمانية، والعمل بقدر الإمكان على تغيير الأوضاع، بدلا من الاكتفاء بالعجز ووصم العاملين على التغيير بمعاندة الواقع في جبرية مقيتة، ثم تمنّي “دولة خلافة” جامعة أو مجتمع إسلامي مثالي قد ينزل إلينا من السماء دون أي خطوات مرحلية تسبق ذلك في التغيير!
المحتجون بعدم تطبيق الشريعة لأننا لا نملك نموذجًا أو رؤية للحكم
عندي يقين تامّ بأنّ من يريد الشريعة – بعد إدراك معنى الانقياد لشرع الله عزّ وجلّ وموقعه من صلب التوحيد – سيجد الطريق إلى إقامتها إنْ كان حاكمًا، أو البدء بإقامتها. وإذا كان داعية، فسيجد الطريق إلى الدعوة إليها وتنبيه الناس إلى قضيّتها.
فكرة عدم تطبيق الشريعة لأننا لا نملك نموذجًا أو رؤية للحكم، أو لأنّ الدولة القومية الحديثة تخالف نموذج الحكم الإسلامي، أو لأي حجّة أخرى؛ هي في نظري مسوّغات متهافتة بسبب الرهبة من الواقع الغربي المهيمن وربما لضعف اليقين الذي في قلوبنا إلى جانب ذلك.
ولقد مضى قبلنا قومٌ أميّون قبل أكثر من ألف وأربعمائة عام، فتحوا الشام ومصر وفارس في ومضة من التاريخ، فوجدوا أنظمة إدارية وسياسية ومالية ضخمة قائمة، فلم يهدروها جميعًا، بل أقاموا أحكام الشريعة التي يعرفونها كما يعرفون قلوبهم، وحقّقوا مبادئ الحكم الراشد التي قبسوها من الكتاب والسنّة النبوية، وعدّلوا على تلك الأنظمة البيزنطية والفارسية بعد أن استبقوا ما ناسبهم منها، وأضافوا إليها وطوّروها تدريجيّا من خلال الممارسة.
الدولة الحديثة وإقامة الشريعة
حين تتمكّن من الدولة الحديثة فهي لن تجبرك على موالاة أعداء الله واتخاذ البطانة منهم، ولن تجبرك على إعانة المشركين على المسلمين، ولن تمنعك من جعل منظومة التشريع قائمة على منهج أصول الفقه الإسلامي ويقوم عليها فقهاء، ولم تمنعك من حظر ما تستطيعه من الربا والغرر والاحتكار وسائر المحرّمات المالية، ولن تجبرك على تبديل أحكام الله في الحدود.. ولو عدّدنا أحكام الله عزّ وجلّ المعطّلة لوجدنا أنّ معظمها غير متعلّق بإيجاد نموذج مثالي متكامل ولا هو معطّل بسبب الدولة القومية الحديثة!
على أنّ علماء المسلمين ومفكّريهم اجتهدوا منذ النصف الأول من القرن الماضي وتركوا لنا ذخيرة ضخمة من الكتب والنظريات والاقتراحات، بين أنظمة حكم ودساتير ومبادئ راشدة وغير ذلك ممّا يتعلّق بالحكم الإسلامي الراشد.. فلم يؤدّ منها شيء إلى إقامة الشريعة في بلد من بلدانهم، واستطاع أقلّ الناس تنظيرًا إقامة طائفة واسعة جدّا من الشريعة – مع تقصير يسير – اعتمادًا على الفقه الحنفي التقليدي!
فالمسألة مسألة إرادة، وإذا وجدت الإرادة الجادّة وانتُزعتْ مهابة أعدائنا من صدورنا ولدتْ الرؤية والمشروع، أو تبنّى صاحب الإرادة شيئا مما يُطرح على الساحة أو ممّا طُبّق في بعض الدول مع تعديل يناسب الواقع الراهن، أو شرع في خطوات يسيرة جادّة نحو الشريعة إنْ كان الواقع الجاهلي ضاغطًا جدّا.
ولذلك، عود على بدء: من أراد الشريعة وجد طريقه إليها، أو بمعنى أدقّ: دلّه الله عليها: {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ} (العنكبوت: 69).
المصدر
صفحة الأستاذ شريف محمد جابر على منصة ميتا.
اقرأ أيضا
الذين يُنادون بالعلمانية الآن ..
أولوية الإصلاح في زمن الظلم والجبروت والعدوان