حين نقول إنّ المشكلة مع “حزبله” في الأساس ليست في كونه شيعيّا، بل فيما فعله في سوريا خلال أكثر من عقد، وأنّ الذي فعله ليس مجرّد “قتال” و”بغي”، بل مناطه الصحيح أنه مظاهرة للكفار (النصيرية العلمانية والروس) وتآمرٌ معهم على المسلمين، وتولٍّ بغير راية الإسلام، يسالم بسلمهم ويحارب بحربهم، وتمكين لعدوّ المسلمين من بلادهم بعد تهجيرهم، ليستقرّ الكفر والعلمانية والإباحية في بلادهم..
تقييد الولاء المكفّر بشرط فاسد
حين نقول هذا الكلام تخرج من جديد شبهة إرجائية مفادها أنّ هذا كلّه ليس من الولاء المكفّر الذي ذكره كتاب الله، بل لا يرتدّ فاعل ذلك كلّه (!) إلا بشرط محبّة دين الكفّار وإرادة علوّه على دين الإسلام. أي يجعلون الأمر مشروطًا بكونه “على الدين” وليس “على الدنيا”، فإذا فعل كلّ ذلك لدنيا يصيبها كان مسلمًا ظالمًا باغيًا ولم يخرج من ملّة الإسلام، ويكون له من الولاء بحكم كونه مسلمًا، ومن هنا تفرّع الفساد في الحكم على سيّد الحزب الهالك وجماعته.
ومن باب واجب البيان أكتب هذا المقال الذي قد يكون طويلًا بعض الشيء، ولكني أجد أنّ من أهم الواجبات في هذه الأوقات تصحيح المفاهيم التي شُوّهتْ وخصوصا في التوحيد، وهي كما ترون مفاهيم لها ارتباط مباشر ووثيق بما نحن عليه من قوة أو ضعف، ومن معرفة أعداء الأمة من أصدقائها.
“الولاء على الدين” كفر حتى لو لم يقع الولاء
فأقول وبالله التوفيق:
– تأمّل قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} (المائدة: 51). فلو كان المسلم قد والاهم حبّا لدينهم واعتقادًا لصحّته لكانت ردّته لأجل يهوديّته أو نصرانيّته لا لموالاته لهم، ولذلك قال تعالى { وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ }، أي وهو في حال الانتساب للإسلام. بل من يقرأ أسباب النزول في التفاسير سيجد أنّ جميع الروايات المختلفة لم تذكر أنّ المقصود ولاؤهم حبّا لدينهم، وفي ذلك يقول الإمام الطبري في تفسيره ملخّصًا في بيان جميل مهمّ:
“والصواب من القول في ذلك عندنا أن يقال: إنّ الله تعالى ذكره نهَىَ المؤمنين جميعا أن يتخذوا اليهود والنصارى أنصارًا وحلفاءَ على أهل الإيمان بالله ورسوله وغيرَهم، وأخبر أنه من اتخذهم نصيرًا وحليفًا ووليًّا من دون الله ورسوله والمؤمنين، فإنه منهم في التحزُّب على الله وعلى رسوله والمؤمنين، وأن الله ورسوله منه بريئان. وقد يجوز أن تكون الآية نزلت في شأن عبادة بن الصامت وعبد الله بن أبي ابن سلول وحلفائهما من اليهود، ويجوز أن تكون نزلت في أبي لبابة بسبب فعله في بني قريظة، ويجوز أن تكون نزلت في شأن الرَّجلين اللذين ذكر السدي أن أحدَهما همَّ باللحاق بدهلك اليهودي، والآخر بنصرانيّ بالشام، ولم يصحّ بواحدٍ من هذه الأقوال الثلاثة خبرٌ تثبت بمثله حجّة فيسلّم لصحته القولُ بأنه كما قيل.
فإذْ كان ذلك كذلك، فالصواب أن يحكم لظاهر التنزيل بالعموم على ما عمَّ، ويجوز ما قاله أهل التأويل فيه من القول الذي لا علم عندنا بخلافه. غير أنه لا شك أنّ الآية نزلت في منافق كان يوالي يهودًا أو نصارى خوفًا على نفسه من دوائر الدهر، لأنّ الآية التي بعد هذه تدلّ على ذلك، وذلك قوله: {فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ} الآية”.
لاحظ قول الطبري مستنبطا من الآية التي تليها “خوفًا على نفسه من دوائر الدهر”، وانظر كم يشبه ذلك موقفَ الحزب حين تدخّل لصالح الكفرة المجرمين خوفا من أن تدور عليه الدوائر وينقطع المدد عن طريق النظام الذي يرعاه، لا محبّة بدين النصيرية أو الروس الأرثودوكس، فانضوى تحت راية الكفار وناصرهم على المسلمين.
مناطات الولاء المكفر لا تتقيد بموافقة الكفار في الدين
– ولو تدبّرتَ الآيات التي تذكر كفر المنافقين وكفر الناكلين عن الهجرة من مكة فليس شيءٌ منها بسبب موافقة المشركين أو أهل الكتاب في الدين، بل هي لأسباب دنيوية كخشية الدوائر كما تقدّم، أو طلب المنفعة عند الفريق الذي ينتصر ويظهر كما في قوله تعالى: {الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلا} (النساء: 141). وبداية السياق: {بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا * الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا} (النساء: 138-139).
وكذلك الأمر الذين نزل فيهم قول الله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا} (النساء: 97). فولاء هؤلاء كان ولاءً ظاهرًا ولم يقترن معه موافقة مشركي مكة على دينهم، بل خالفوهم في الدين وأعلن بعضهم ذلك، لكنْ بقي ولاؤهم معهم إيثارًا للوطن والقبيلة. وهم قومٌ كانوا قد أسلموا في مكّة وآمنوا بالله تعالى ورسوله صلّى الله عليه وسلّم، لكنّهم فُتنوا وشهدوا مع المشركين حربَ المسلمين.
التآمرُ مع المشركين بقصد الإضرار بالمسلمين
– ومن ذلك قصّة المسجد الضرار التي جاءت في قوله تعالى: {وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ} (التوبة: 107)، فهؤلاء قوم قصدوا باتخاذ هذا المسجد الإضرار بالمسلمين، وقد أرادوا فيه التآمر مع أبي عامر الراهب الفاسق ليكيدوا فيه للمسلمين، فلم يكن مناط الكفر الذي تذكره الآيات بهذا الفعل تبدّل دينهم أو حبّهم لدين الشرك مع ادعائهم الإسلام، بل التآمرُ مع المشركين بقصد الإضرار بالمسلمين.
الولاء على الراية
– ومن سلبيات بعض الدعوات المعاصرة أنّها تشدّدت في المسائل الفردية – كالعلاقات الفردية مع الكفار – وتساهلت في المقابل بالولاء على الراية ومناصرة الكافرين على المسلمين كما حدث في حرب الخليج الأولى وغيرها، وهو المقصود في هذا البيان، وهو مناصرةٌ أو مظاهرةٌ أو إعانةٌ أو تآمرٌ بقصد الإضرار بالمسلمين، كما قال الصحابي ابن عمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، أبو سفيان بن الحارث، في قصيدته الاعتذارية عمّا بدر منه من حربٍ على رسول الله صلى الله عليه وسلّم:
لَعَمْرُكَ إنِّي يَوْمَ أَحْمِلُ رَايَةً … لِتَغْلِبَ خَيْلُ اللَّاتِ خَيْلَ مُحَمَّدِ
لَكَالْمُدْلِجِ الْحَيْرَانِ أَظْلَمَ لَيْلُهُ … فَهَذَا أَوَانِي حِينَ أُهْدَى وَأَهْتَدِي
وقد كانت راية الحزب وسيّده الهالك في سوريا طوال عقد وأكثر لتغلب دبابات الأسد وروسيا جند المسلمين هناك، فقد هرع من لحظات الثورة الأولى خوفًا من أن تسقط راية نظام الأسد فيتضرّر في دنياه، فانخرط تحت هذه الراية وقاتل من أجلها قاصدًا الإضرار بالمسلمين.
الجاسوس غير المحترف
– أما استدلالهم بقصّة الصحابي الجليل حاطب بن أبي بلتعة رضي الله عنه، حين أرسل محذّرا أهل مكّة من غزوة الفتح رغم تحذير الرسول صلى الله عليه وسلّم من إفشاء الأمر، فلم يكن ذلك ولاءً، بل عصيانًا لأمر الإمام، فقد كان لحاطب أهل وأقارب في مكة ويخشى بطش قريش فيهم، فأرسل إلى أهل مكة مخبرًا بقدوم الغزو، أراد بذلك أن تكون له يد عند أهل مكّة يردّ بها أذاهم عن أهله كما قال: “أن أتخذ عندهم يدا يحمون قرابتي”، ولا يضرّ مع ذلك بها المسلمين لقوة المسلمين آنذاك وثقته في نصر الله وتأييده لنبيّه صلى الله عليه وسلم. بل تضمّنت رسالته إليهم هذا المعنى، إذ جاء فيها: “أما بعد يا معشر قريش فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءكم بجيش كالليل، يسير كالسيل، فوالله لو جاءكم وحده لنصره الله وأنجز له وعده. فانظروا لأنفسكم والسلام”. فليس هذا فعل من والى المشركين وقصد الإضرار بالمسلمين، فلما تحقّق رسول الله صلى الله عليه وسلّم من قصده عفا عنه ولم يعاقبه عقوبة تعزيرية لكونه بدريّا، فقد وقع في محرَّم لعصيانه أمر الرسول صلى الله عليه وسلّم ولم يقع في ولاء مكفّر.
كما أنّ هذه الحادثة الفردية التي تندرج ضمن أحكام “الجاسوسية” لا تقارن بالقتال تحت راية الكافرين، والانحياز إلى معسكرهم سعيًا في هزيمة المسلمين وإفنائهم.
وأخيرا، ما أريد قوله إنّ الهدف من كتابة هذا المقال وما سبقه لا علاقة له بالاتهامات التي تكال اليوم بالمجان للناس، كالصهينة وأمثالها، بل لِما وجدته من استغلال الأحداث الحالية لإعادة تلميع حزب مجرم ساقط كاد للمسلمين في سوريا وقاتلهم تحت راية الكفر وهجّرهم من ديارهم تمكينًا لأعدائهم، وهذا والله من أخطر ما يحدث الآن من تشويه لوعي المسلمين، وينبغي التصدّي له مع الإعراض عن تهم الجهلة. ولو خرجتَ بفائدة فهم موقع الولاء في توحيدك والرغبة في زيادة العلم في هذا الباب لخرجت بفائدة عظيمة جدّا، وبالله التوفيق.
المصدر
صفحة الأستاذ شريف محمد جابر على منصة ميتا.
اقرأ أيضا
مظاهَرةُ المُشرِكين على المُسلِمين
حكم مظاهرة الكفار على المسلمين إذا كانت للدنيا