إنّ الحر حرية حقيقية كاملة، هو الذي لا قيود عليه البتّة، ولا شرط ولا حَدّ، ويجب أن يكون ذا اقتدار واستغناء تام عن أي أحد أو شيء خارج نفسه؛ لأن الحاجة إلى أي شيء خارج الذات سيتنافى مع طلاقة حريتها وتمام استغنائها.

الحرية بين الإطلاق والمحدودية

فإذا جئنا للإنسان نجد أنه لا يمكن بحال أن يكون حرًّا حرية مطلقة، على أي وجه تنظر منه، فلا هو قائم بنفسه، ولا مستغنٍ بها عن كل ما ومن حوله!

وأنّى يكون مستغنيًا وهو محتاج بالضرورة لأوّليات الحياة من غيره، كالضياء من الشمس، والماء من المطر، والزرع من الأرض، وهكذا؟

وإذن أنّى يكون الإنسان مستقلًا بنفسه وهو معتمد بالخِلقة على ما ومن حوله بدرجات في مختلف مصالح وشؤون معاشه؟ وكيف يكون حرًّا حرية تامة وحريته محدودة بحدود خِلقته، فلا يرى – مثلًا – أنواعًا من المرئيات ولا يسمع درجات من الأصوات، ومشدودة بقيود حاجاته كالجوع والعطش وقضاء الحاجة؟

العبودية بين المجاز والحقيقة

هل طالعتَ مرّة مادّة من الأدبيات الأجنبية التي تصور مختلف حقب العبودية؟

(جدير بالتنويه أن تصور الاستعباد والعبودية في الثقافات والممارسات الأجنبية لا يشابه من قريب ولا بعيد تصور الاسترقاق ومعاملاته في الإسلام) لعلّ أشهرها استعباد الزنوج في أزمان الاستعمار، يليها الاسترقاق الأبيض للأطفال والطبقات والأجناس الفقيرة للخدمة في المزارع والمصانع والمنازل، في أزمان الثورات الصناعية وسيادة نزعة الطبقية المجتمعية، تعرض تلك الأدبيات عامة لأنماط استعباد مستبدة وجائرة، تتمرد فيها المجموعة المُستعبَدَة أو بعض أفرادها على أسيادهم، منادين بحقوق الحرية والكرامة والعدالة… إلخ.

هل للعبد فعلًا حق اختيار أن يطيع أو يتمرد؟

والسؤال المطروح للتفكر في تلك النماذج: من الذي أعطى أولئك العبيد ذلك الحق في التمرد نهاية، أو الشعور بجَوْر الاستعباد الواقع عليهم بداية؟ هل يكون للعبد أن يشعر ذلك الشعور أو يريد تلك الإرادة؟ هل يكون له حقيقة إرادة حرة أو حرية إرادة؟ هل للعبد فعلًا حق اختيار أن يطيع أو يتمرد؟

الجواب هو أن العبد الحقيقي لا يمكن أن تكون له إرادة على الحقيقة، لو فقهنا معنى ودلالات العبودية، إذ بوصفه عبدًا لا يملك إلا أن يخضع وينقاد لسيّده، أما إذا قام في نفس عبدٍ ما شعور بخيار الحرية، وحقه في أن يطيع سيده أو يتمرد عليه، فإمّا:

  1. أنّه ليس عبدًا على الحقيقة

أي أنه مستعبد في ظروف طارئة عليه لم تكن أصلًا فيه، وغالب أولئك المُستعبَدين كانوا حقًّا مواطنين أحرارًا في بلادهم قبل استعمارهم واستقدامهم بالقوة للخدمة في بلاد الاستعمار، فبالتالي لم يستشعر من ذاق الحرية الأصلية فيهم، أو نُفِخَتْ فيه أنفاسها مِن حكايات مَن ذاقوها، بأنه عبد أصلًا، ولا أنّ عبوديته عبودية حقيقية فعلًا، بخلاف من نشأ في ظلّ الاستعباد والاستخدام أبًا عن جد، فاستقام في نفسه الشعور بأنّ ذلك مكانه الطبيعي في الوجود ودوره المتوقع في الحياة.

  1. أو أنّ سيّده ليس سيّدًا عليه على الحقيقة

أي لا يشعر ذلك العبد في نفسه أنّ لسيده سلطانًا مستحقًا عليه، كأن يشعر المستعبَد مثلًا بأن مجرد اللون الأبيض لا يعطي مُستعبِدَه الحق في أن يكون قاهرًا فوقه أو متسلطًا عليه.

نخلص من هذا إلى أنه لا يمكن أن تستقيم بحال نفسيّة عبودية حقيقية وحقة، يُسلّم فيها العبد لسيده تسليمًا حقيقيًا وحقًا، ويسود فيها السيد على العبد سيادة حقيقية وحقة، إلا أن تكون بين سيد مطلق وعبد مطلق، ومعنى مطلق: بلا شرط ولا قيد ولا حدّ، وذلك لسيادة السيد أو عبودية العبد.

– بلا شرط:

أي لا ترتبط سيادة السيد إلا بذاته، فأيّ سيد يستمد أحقية سيادته أو ملكيته من عامل خارج نفسه، يكون سيّدًا مشروطًا بذلك العامل، وكلّ الأسياد في الدنيا يحتاجون مَسودينَ ليكونوا عليهم سادة، في مختلف السياقات التي فيها نوع خدمة أو تراتب سلطة: الآباء والأبناء، المعلم والطلبة، الملك والرعية، القائد والأتباع… إلخ، بغير ذلك العامل الخارجي لا يستطيع السيد من أولئك أن يكون سيّدًا أو يمارس السيادة في سياقه.

– بلا حَدّ:

أي ليس ثَمّة حدٌّ معيّن تنتهي عنده صلاحية السيادة أو حالة العبودية، مثلًا، سيادة المعلم على الطلبة محدود بحدود الصف أو المدرسة أو سياق التعليم، فليس للمعلم أن “يطالب” طالبًا بالطاعة خارج ذلك النطاق، وذلك بخلاف الوالدين اللذين لهما سلطة أوسع مدى من نطاق التعليم، بسبب طبيعة سياق سيادتهما على أبنائهما.

– بلا قيد:

أي ليس ثمة قيد يقيّد طاقات القهر والاقتدار المرتبطة بالسيادة، أو طاقات الخضوع والتسليم المرتبطة بالعبودية، كأن يمنع قانون ما السيد من ممارسة سيادته على عبده بصورة معيّنة، أو لا يكون لدى السيد أصلًا القدرة على إنفاذ أمره في عبده، أو يخول قانونٌ ما العبدَ صلاحية شكاية سيده وحق الامتناع عن طاعته في مواقف… إلى آخر أشكال القيود.

والسؤال بعد كل هذا التوضيح:

من ذا الذي يمكن أن يكون ذلك السيد المطلق أو العبد المطلق؟

والجواب:

لا ريب أن السيد الوحيد المطلق في سيادته طلاقة تامة، هو الرب الخالق تبارك وتعالى؛ فلا سيد مطلق بذاته في ذاته بدون أي سند من أي نوع سوى الله تعالى، هو السيّد في ذاته بذاته العليّة، غير مرتبط بوجود موجود أو فنائه، إذ هو تعالى نفسه الموجِد والمفني.

وأما العبد مطلقًا في نفسه، أي لا ينفك عن كونه عبدًا بحال، فهو مخلوق الإنسان عامة (لا المؤمن فحسب).

وتأمل التعريف اللغوي لكلمة عبد في لسان العرب: “الْإِنْسَانُ، حُرًّا كَانَ أَوْ رَقِيقًا، يُذْهَبُ بِذَلِكَ إِلَى أَنَّهُ مَرْبُوبٌ لِبَارِيهِ، جَلَّ وَعَزَّ”، ومعنى مربوب مملوك مُستَحَق، وفي لسان العرب: “رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ: مَالِكُهُ وَمُسْتَحِقُّهُ، وَقِيلَ: صَاحِبُهُ، وَيُقَالُ: فُلَانٌ رَبُّ هَذَا الشَّيْءِ أَيْ: مِلْكُهُ لَهُ، وَكُلُّ مَنْ مَلَكَ شَيْئًا، فَهُوَ رَبُّهُ، يُقَالُ: هُوَ رَبُّ الدَّابَّةِ، وَرَبُّ الدَّارِ، وَفُلَانٌ رَبُّ الْبَيْتِ…”.

فالله تعالى سيد رب مطلق، والبشر جميعًا عبيد مربوبون لله مطلقًا.

حرية العبودية وعبودية الحرية

بناء على ما سبق، يتضح أن قدر الحرية الممنوح للإنسان، كما أنه لا يشمل تحرر الإنسان من قيود حاجاته وحدود مخلوقيته، لا يتضمن كذلك حرية اختيار العبودية، أي أن يكون الإنسان عبدًا أم لا.

إذ إنّ العبودية مركبة بالضرورة في تكوين هذا المخلوق ليكون عبدًا أصلًا، وإنما مُنِح ما مُنِح من طاقات ليَستدل بها على العبودية الصحيحة من بين العبوديات الباطلة، لا ليتحرر بها من كونه عبدًا، إذا شاء ألا يكون عبدًا!

وهذا مدلول شهادة (لا إله إلا الله) التي تعريفها الاصطلاحي: (لا معبود “بحق” إلا الله)، بما يعني أن ثَمَّة معبودات أخرى بالباطل سوى الله، كعبادة بَشَر أو حجَر أو وَثَن أو أهواء شخصية أو نظم وضعية.

وذكر الشاطبيّ في “الموافقات” أنّ: “الْمَقْصِدُ الشَّرْعِيُّ مِنْ وَضْعِ الشَّرِيعَةِ إِخْرَاجَ الْمُكَلَّفِ عَنْ دَاعِيَةِ هَوَاهُ، حَتَّى يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ اخْتِيَارًا، كَمَا هُوَ عَبْدٌ لِلَّهِ اضْطِرَارًا”.

فلا مجال للتخلص من العبوديات الباطلة إلا بالعبودية الحقة، ومن لم يشتغل بالحق لا ريب سيُشغَل بالباطل، لكن لا خيار ثالث بين هذين النَّجْدَيْن.

وفي ظل السعي المحموم للتخلص الوهميّ من حقيقة العبودية بنبذ الأديان والكفر بالله، يقع أصحاب تلك المساعي في عين ما استماتوا على الخلاص منه، فيعبدون الحرية المتمثلة في دواعي أهوائهم لفعل ما يشاؤون حين يشاؤون، ولا يتجاوزون في ذلك مشيئة الله تعالى وإن جحدوه، وإنما وبال ذلك عليهم، وفي تفسير الطبري لقوله تعالى: {وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ} [الكهف 29]: “هَذَا كُلُّهُ وَعِيدٌ لَيْسَ مُصَانَعَةً وَلَا مُرَاشَاةً وَلَا تَفْوِيضًا”.

المصدر

موقع بصائر، هدى عبد الرحمن النمر.

اقرأ أيضا

من هو الحر..؟ وما حقيقة الحرية..؟

ميزان الجاهلية للحرية والتقدم والتحضر

أصل الإسلام والتسليم .. لماذا الحديث عنه؟

وجوب التسليم لحكم الله ورسوله وتقديمه على الآراء

التعليقات غير متاحة