هل كان السنوار رجلًا مجنونًا بحق؟..وهل أخطأ في شن طوفان الأقصى؟..وهل نندم الآن على السابع من أكتوبر بعد 45 ألف شهيد، و130 ألف جريح ومفقود؟..
من أين نبدأ؟..
من السعودية.. ليست تلك التي نعرفها .. بل السعودية الإفريقية .. وما هي؟.. أحكي لك .. نهاية القرن التاسع عشر أرسل ملك بلجيكا ليوبولد الثاني مستكشفًا بريطانيًا، ويُدعى السير هنري مورتون ستانلي إلى أدغال إفريقيا..المطلوب؟..اكتشاف أرض جديدة يتخذها ملك بلجيكا له ضيعّة..تنقّل ستانلي لسنوات إلى أن وطأت قدمه أرضًا بكرًا..أنهار وغابات.. مناجم ومعادن.. هي الفردوس هي الأرض المنشودة.. قام بتحديد الأرض وذهب في اليوم التالي للملك ليوبولد وأهداها له.. كانت مساحة تلك الجنّة الإفريقية تبلغ 88 ضعف حجم بلجيكا نفسها.. أطلق الملك ليوبولد على مستعمرته اسمًا جديدًا..الكونغو.
ليوبلود يتخذ الكونغو ملكًا شخصيًا
ثم بدأت واحدة من أحط الحقب في تاريخ البشرية.. كان ملك بلجيكا معروفًا ببذاءته، احتار الناس في شخصه، معطاء وينفق بسخاء على محيطه، لكنه يعود ليشتري بأمواله كرامتهم، يخلعونها كأحذيتهم على باب قصره، وإن واتتهم الجرأة على انتقاده، أذاقهم الأمرين.. هكذا كان يتعامل مع الحاشية القريبة والأمراء..ما بالك بالأفارقة؟.. اتخذ ليوبلود الكونغو ملكًا شخصيًا ولم يقبل بالتنازل عنها لدولته بلجيكا.. بدأت صناعة السيارات والمركبات في بدايات القرن العشرين في الرواج نسبيًا.. والمطلوب..مطاط لصناعة الكاوتش.. وكانت الكونغو المصدر الرئيس لزراعته وتوريده.. كم كان المزارع الكونغولي يتقاضى نظير الزراعة؟..لا شيء حرفيًا..يعمل كالعبد سخرةً دون مقابل.
الاستعمار البلجيكي الأقبح في التاريخ
انتفض العمال..رفضوا الذهاب للمزارع..فأطلق الملك البلجيكي حملةّ لتأديبهم.. بدأ الرعب.. يأتون بالمزارع.. يقطعون يدًا ورجلًا من خلاف، ثم يصلبونه على الشجر.. في اليوم الأول.. صُلب 100 ألف كونجولي.. تأمل فيما يدور اليوم وستعرف ما الذي يتكلفه أسر وقطع وصلب 100 ألف إنسان.. يستلزم جنودًا ووحشية.. وكلاهما توافر للملك ليوبولد.. يتذمّر الكثيرون من الاستعمار الفرنسي.. حقيقة.. استعمار قبيح.. لكن الأقبح في التاريخ كان الاستعمار البلجيكي.. كان الفرنسيون يؤمنون بضرورة سحق السكان الأصليين وتعليمهم الفرنسية لغة وعادات وتقاليد، حتى يصيروا فرنسيين في كل شيء عدا لون بشرتهم.
أما البلجيك فرفضوا تمامًا التقارب الثقافي.. يتعلم السكان الفرنسية ربما، الفلامنكية ربما.. من أجل سهولة التواصل فحسب.. لكن من غير المسموح لهم السير في نفس شوارع البيض، أو الذهاب لمدارسهم أو ركوب بغالهم..أو حتى التعليم في مدارسهم..التعليم كفكرة أصلًا مرفوضة للأفارقة..حتى يسهل التحكم بهم..
ضحايا الاستعمار البلجيكي.. حصاد مر!
تخيّل حينما نالت الكونغو استقلالها في 30 يونيو 1960.. كم كان عدد ضحايا الاستعمار البلجيكي؟..10 ملايين كونغولي.. كم كان عدد خريجي الجامعة في دولة تبلغ مساحتها 2.3 مليون كم؟.. ضع رقمًا..100 ألف؟..50 ألف؟..10 آلاف؟..لا..16 شخصًا فقط..نعم 16.. هذا ما فعله البلحيك بالكونغو.. وهذا ما لم يقبله أول رئيس وزراء مدني منتخب في تاريخ الكونغو وإفريقيا.. وهو السيد ‘‘باتريس لومومبا‘‘.
أول رئيس وزراء مدني ومحاولة الاستقلال
وقف يوم الاستقلال في برلمان بلاده..أمامه ملك بجليكا ‘‘بودوين‘‘ وحشد من الرجال البيض الذين ظنّوا أنهم جاءوا لينعموا عليه بحريّة بلاده، بينما يكتفي هو بتقبيل الأيادي البيضاء شكرًا وامتنانًا.. لم يحدث.. وقف لومومبا أمام ملك بلجيكا يشيد بالشاب الكونغولي الذي سرق سيف ملك بلجيكا أثناء تجواله بالسيارة في قلب العاصمة الكونغولية كينشاسا.. وقف يُعدّد جرائم الاستعمار ويُحمّل البلجيك جرائم السرقة والنهب والموت الذي أذاقوه لشعبه.. وقف فقط بكرامة يقول ‘‘لا‘‘.. للتحالفات الغربية.. ويتعهد بالخروج عنها والسير نحو تحقيق مصلحة بلاده وفقط.. ورآها مع الاتحاد السوفياتي.. هل غفروا له محاولة الاستقلال؟.. سامحوه على اختيار طريق التنمية لبلاده بعيدًا عن الغرب؟..كانت جريمة مروّعة.
اختطاف وقتل لومومبا
عام 1961.. دعم البلجيك ورجال الاستخبارات الأميركية جنرالًا قزمًا يُدعى ‘‘سيسي سيكو موبوتو‘‘، قام بالتعاون مع أحد جنرالاته واسمه ‘‘تشومبي‘‘ بالسيطرة على أهم منطقة غنيّة بالمعادن في الكونغو وهي ‘‘إقليم كاتانجا‘‘..فصلوا جزء من البلد عقابًا للحرّ ‘لومومبا‘‘..اعترض الرجل.. هذه بلادي وأدافع عنها.. بدأ يستدعي الجيش.. ما تبقّى منه بالأدق.. فكان العقاب الوحشي.. دخل الجنرال المنشق تشومبي للقصر الرئاسي.. اختطف لومومبا أمام أعين الجميع، ما تزال صورة لومومبا مأسورًا متاحة على جوجل، مؤلمة لكل شريف وحّر.. المهم.. إلى مكان سري اقتادوه، وهناك استجوبوه.. وصدر الحكم.. طلقة في الرأس.. ثم تقطيع جسده، وإذابته في الحامض.. حتى لا يتبّقى منه أثر.. وهو ما كان .. في الـ 17 من يناير 1961 اختفى لومومبا للأبد.. لكن عام 2000 سيخرج علينا جندي بلجيكي اسمه ‘‘جيرار زفيته‘‘..وهو يحمل في علبة زجاجية جزءً من دماغ وأسنان لومومبا.. ويتفاخر علنًا بأنه من أذاب جثته.
الجنرال ‘‘سيسي سيكو موبوتو‘‘ وكيلا للمستعمر الغربي
هل تعلم مقدار الثروة الطبيعية والمعدنية الموجودة في باطن أرض الكونغو؟.. ما يُعادل 24 تريليون $.. منجنيز ونحاس وذهب وماس وكوبالت وقصدير وحديد.. كل شيء هناك.. بكثرة فاحشة..
إلى من عهد البلجيك والأميركيون تلك الاحتياطات المهولة من أجل إداراتها؟..للجنرال القزم ‘‘سيسي سيكو موبوتو‘‘.. وماذا فعل؟.. سرق كل شيء.. حوّل البلاد لخرابة.. كان مهتمًا فقط بمزاجه الشخصي.. أضاع مليارات الدولارات في إنشاء عاصمة جديدة اسمها ‘‘جبادوليت‘‘.. كنائس وقصور عملاقة يجلس فيها بمفرده مع حاشيته ووزرائه لإرضاء جشعه.. حفل زفاف ابنته على رجل أعمال بلجيكي تكلّف نصف مليار $..
30 سنة من حكم القزم أتت على الأخضر واليابس.. إلى أن قام الجنرال لوران كابيلا بانقلاب عليه عام 1997.. ودخلت البلاد في حرب أهلية من 1997-2003 قُتل فيها..5.5 مليون شخص.. نعم الرقم صحيح.. خمسة ونصف مليون روح.
قصة مع المستعمر الفرنسي
يا رجل كفاك..لا يُعقل أن يكون الغرب هكذا.. ربما هي مرّة عابرة وفقط..لا.. دعني أقص عليك حكاية رجل آخر..لا بد أن أسردها حتى تكتمل الصورة..
القصة تبدأ من طفل كان لديه حلمًا واحدًا فقط.. ركوب الدراجة.. كان تلميذًا في مدرسة ابتدائية في مدينة تُدعى جاوا.. بلاده كانت خاضعة للاستعمار الفرنسي، وطبعًا كان مدير المدرسة أوروبيًا أبيضًا.. كيف يُحقق الطفل الإفريقي حلمه؟.. علم بأن أبناء المدير يمتلكون دراجة.. طلب منهم ركوبها.. لكنهم رفضوا ثم أرادوا ‘‘كسر نفسه‘‘.. فطلبوا منه أن يبني لهم قلعة رملية على مساحة 5 أمتار.. وإن فعل، فسوف يحصل على تجربة الدراجة.. فعل ما طلبوه، لكنهم رفضوا في النهاية وتضاحكوا علي سذاجته.. ماذا يفعل؟.. تسلّل لبيت المدير وحقّق حلمه وسرق الدراجة بنية ركوبها ثم إعادتها.. لكن المدير عرف.. طفل وأخطأ.. يسامحه؟..لا.. طرده من المدرسة واستدعى الشرطة الاستعمارية الفرنسية التي اعتقلت والد الطفل وأمه وإخوته وجلدوهم أمام القرية.. تخيّل طفلًا نشأ في تلك الظروف؟ ما الذي يُتوقع أن يحمله من مشاعر تجاه المستعمر الفرنسي؟
‘‘فولتا العليا‘‘ و7 انقلابات عسكرية
مرّت الأيام.. وكبر الطفل ‘‘توماس‘‘ والتحق بمدرسة ثانوية ومنها إلي أكاديمية لاميزانا العسكرية، وفي عام 1973 تخرّج منها في عمر ال 24 ونال رتبة ملازم أول.. ماذا كانت بلد الظابط توماس؟.. كانت تُدعي ‘‘فولتا العليا‘‘ وخضعت لعقود للاستعمار الفرنسي، لكنها لم تكن بنفس أهمية مستعمرات أخرى كبيرة مثل ساحل العاج.. فكان الفرنسيين لا يكتفوا فقط بسرقة المنجنيز من فولتا العليا.. بل يجبروا مواطنيها علي الذهاب للعمل بالسخرة في المزارع الإيفوارية.. فكانت جريمة استعمارية مزدوجة.. سرقة وتهجير.. ولما نالت فولتا العليا استقلالها عام 1960، لم تتركها باريس لشأنها بالطبع.. حكمتها من خلال مجموعة من العملاء العسكريين..7 انقلابات عسكرية شهدتها فولتا العليا بعد استقلالها.. لكن توماس لم يشارك في الصراع المحلي علي السلطة لخدمة فرنسا.
الضابط توماس من وزارة الإعلام إلى رئاسة الوزراء
اكتفى بدوره كظابط وعلّم جنوده العلوم الاجتماعية، وأخذهم في رحلات للقرى لمساعدة المدنيين في الزراعة، وبدأت سيرته الجيدة تنتشر بين الجنود.. فورًا.. وضعته كل النخب العسكرية في اعتبارها كنجم جديد صاعد، وبالأخص رئيس البلاد ساي زيربو، الذي عرّض على توماس وزارة الإعلام سنة 1981 وقبلها فورًا، وكانت أول مرة في تاريخ البلاد أن يشاهد المواطنون وزيرًا يذهب لعمله بـ ‘‘الدراجة‘‘..كان عيب ‘‘الوزير توماس‘‘ قاتلًا.. صراحته.. لا يسكت على فساد ولا يخشى في الحق لومة لائم.. انتقد الرئيس في الإذاعة، وفورًا تمت إقالته، ونفيه لوظيفة إدارية بعيدة.. بعد سنة واحدة فقط سيزيح انقلاب عسكري جديد الرئيس ساي زيربو عن السلطة.. ويأتي رجل آخر هو ‘‘جان بابتيست‘‘، والذي أتى بتوماس كرئيس للوزراء.. أخيرًا ردّ إليه اعتباره.. مرة أخرى لا تنسى عيب ‘‘ رئيس الوزراء توماس‘‘..صراحته.
توماس رئيسًا لجمهورية فولتا العليا
بدأ رئيس الوزراء توماس في انتقاد فرنسا وسرقتها وتدخلها في بلاده.. لم تقبل فرنسا بذلك.. في 16 مايو 1983 أوفد الرئيس الفرنسي ميتران مبعوثه للشئون الإفريقية ‘‘جي بينيه‘‘ إلى عاصمة فولتا العليا.. وفي فجر اليوم التالي كانت الآليات العسكرية تُحاصر منزل توماس، ويتم عزله من منصبه كرئيس للوزراء ويتم أسره في منطقة شمالي البلاد.. سوء تقدير ستدفع فرنسا أثمانه.. نزل المتظاهرن للشوارع، وانتفض العسكريون المؤيدون لرئيس الوزراء، وقطع عمال الاتصالات خطوط الهاتف، وذهب طلاب المدارس والجامعات لمنزل توماس.. وحرّروه واقتادوه.. إلى أين؟.. لمقر رئاسة الجمهورية.. كان الرئيس الموالي لفرنسا قد فرّ.. وتم تنصيب توماس.. توماس رئيسًا لجمهورية فولتا العليا.
بدء النهضة والتنمية الاقتصادية في فولتا العليا
كانت أوضاع فولتا العليا بعد 23 سنة من الاستقلال وحكم أعوان فرنسا مزرية..98% من الشعب يُعاني الأمية، ومعدّل الالتحاق بالمدارس 16%، ومعدّل وفيات الأطفال 180 من كل 1000، ومتوسط العمر 40 سنة، ودخل الفرد سنويًا 100$.. فولتا العليا التي استلم توماس قيادتها كانت ثالث أفقر دولة علي وجه الأرض.. لكنه شمّر ساعده وبدأ العمل.. أطلق حملة لزراعة 10 مليون شجرة لمكافحة التصحر، وكان يُهدي أي زوجين جدد بوتوجاز مقابل زراعتهم شجرة أمام المنزل، وأنشأ 300 خزان مائي.. والنتيجة تضاعف خرافي للمنتجات الزراعية خلال 3 أعوام.. القطن من 79 ألف طن متري إلي 180 ألف، والفول من 82 ألف إلي 146 ألف، والسمسم من 5000 إلي 40 ألف.. وقال لشعبه.. نحن سوف نستهلك ما ننتج فقط.
محاولات ناجحة لنبذ التبعية للغرب
ثم أصدر قانونًا يمنع النخبة من استيراد أي منتجات غذائية غير التي يستهلكها العامة، بل حرم كل الوزراء من ركوب السيارات الفارهة، وبدلًا من ذلك يركبوا وسيلته المفضّلة ‘‘الدراجة‘‘، وعندما يسافروا للخارج لحضور مؤتمرات يركبوا الدرجة الاقتصادية، وكانت حجّته بأن الطائرة لو سقطت، فلن تفرّق بين الدرجة الأولي والاقتصادية..ذات مرة حضر لقاء مع الطلبة فشاهد بعضهم يرتدي منتجات الجينز الأميركية، فأطلق مبادرته لصناعة رداء محلي يُدعى فاجو يلتزم بارتدائه كل موظفي الحكومة من الغفير للوزير وهو نفسه.. ولما كان يتنامى لمسامعه بأن الموظفين يخلعوا الزي في العمل، كان يذهب لعمل زيارات مفاجأة، فتعلّم الموظفين ارتداء الزي باستمرار، وعُرف الرداء باسم ‘‘الرئيس في الطريق‘‘.. من الذي لم يعجبه الوضع؟.. طبعًا فرنسا.. قطعت كل مساعداتها لفولتا العليا بداية من 1983 ومعها البنك الدولي.
الرئيس توماس يرفض الخضوع والانبطاح
هل خضع توماس؟..لا..كان في زيارة إلي كوبا ومنها إلي الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك، لكن واشنطن رفضت السماح له بعبور أجوائها، فكان لزامًا أن يغير المسار إلي كندا ثم نيويورك، ولما وصل رفض البيت الأبيض استقباله، فذهب لزيارة الفقراء السود في هارلم، واحتفوا به، وقال في تصريح إعلامي ‘‘هارلم أفضل عندي من البيت الأبيض‘‘.. لكن لا شيء يُقارن بما فعله مع الرئيس الفرنسي ميتران.. المرة الأولي في القمة الفرنسية – الإفريقية عام 1985 وذكّر فرنسا بجرائمها الإستعمارية.. أما الثانية والأكبر كانت عندما زار ميتران فولتا العليا والتقاه توماس، ووبخه علي استقباله رئيس نظام الفصل العنصري الجنوب إفريقي ‘‘بيتر بوتا‘‘ فنهض ميتران أمام الكاميرات وربت علي كتف الرئيس الشاب، وقال له أنت تتحدث بصراحة أكثر من اللازم، ثم أردف – باستعلاء شديد – أن توماس مجرد شاب صغير لا يعرف مقادير السياسة الدولية.
الخطاب الأشهر والأكثر إيلامًا في تاريخ القارة‘
لكن الأمور ستصل لنقطة اللاعودة.. في قمة منظمة الوحدة الإفريقية في أديس أبابا في 29 يوليو 1987.. ألقى توماس خطابًا هو الأشهر والأكثر إيلامًا في تاريخ القارة..‘‘أنا هنا أمامكم، أرتدي ملابس من صنع أبناء بلادي، القطن من زراعة فلاحينا، والحياكة من أيدي سيداتنا.. لست هنا للقيام بعرض أزياء..لا.. أنا هنا لأخبركم بأننا قادرون على الإنتاج.. هل تعرفون معنى الإمبريالية؟ انظروا إلى أطباق الأكل أمامكم..الذرة مستوردة، القمح مستورد، هذا أفضل مثال.. الأوروبيون يرغبون في أن نعتمد عليهم حتى في طعامنا، ومن لا ينتح غذائه، ستكون إرادته مسلوبة.. لو أن هناك من يدين للآخر.. فالأوربيون مدينيون لنا.. للأفارقة.. دماء الجنود الأفارقة روت أوروبا في حربها ضد النازية الهتلرية، لكن رغم ذلك كان الأوروبيون ممتنين جدًا للأمريكين ومساعدات مارشال، أما جنود المستعمرات فلا قيمة لهم..
يُكمل توماس ليقول..
الأوربيون استعمرونا وسرقوا أرضنا ثم تحررنا فأرسلوا لنا مستعمرين جدد في هيئة خبراء تقنيين، أغرقوا أنظمة أفريقية بديون ثقيلة، فكانت الديون باب خلفي لعودة الاستعمار.. دعونا نتحد ولا ندفع تلك الديون.. القرآن والإنجيل يرفضان الاستغلال، ولو كانوا شرعوه، لوجدنا نسختين من القرآن والإنجيل..المقرض لن يموت إن لم ندفع، أما لو دفعنا، فنحن هالكون لا محالة.. لو وقفت بمفردي رافضًا سداد الديون الاستعمارية، فتأكدوا أنني لن أكون موجودًا بينكم في القمة القادمة‘‘.. وكأنه كان يري مصيره.
الانقلاب على توماس وقتله
أرسلت فرنسا مبعوثها الإفريقي الأكثر انحطاطًا وشهرة ‘‘جاك فوكار‘‘ إلي ألد خصوم توماس، وأكبر عملاء فرنسا بين الحكام الأفارقة، الجار الإيفواري فيليكس هوافيه بوانيه، والأخير تولّى التنسيق مع صديق توماس المقرب ونائبه وحليفه ‘‘بليز كومباوريه‘‘ للإطاحة بتوماس.. وعندما بلغت أنباء الإنقلاب مسامعه، رفض توماس تصديق الأمر، وقال أن كومباوريه أخيه ولا يمكن أن يخون الأخوة والصداقة.. ولم تمض أيام حتي اقتحم كومباوريه القصر الرئاسي رفقة جنوده في 15 أكتوبر 1987، وقتل توماس، بعد ثلاثة أشهر من خطاب الديون، وقطع جثته ودفنه كالدواب، أقل حتى من الدواب..
ثورة المكنسة والإطاحة بالمنقلب كومباوريه
وبفضل الدعم الإيفواري المباشر والفرنسي في الخفاء، أصبح كومباوريه رئيسًا لفولتا العليا، وعادت الأمور مع فرنسا لمجاريها، وظلّ خادمًا للإليزيه حتى عام 2014 عندما أطاحت به ثورة شعبية بعد رغبته في تعديل الدستور فيما عُرف بثورة المكنسة.. في تلك الثورة لم تحمل الجماهير سوى صورة شخص واحد فقط.. أتذكّرها جيدًا في الدقيقة 3:42 من وثائقي DW تحت عنوان ‘‘ثورة حفاة الأقدام‘‘..كانت صورة الرئيس المغدور‘‘ توماس سانكارا‘‘..رئيس فولتا العليا.. التي غيّر اسمها إلى ‘‘بوركينا فاسو‘‘ أي أرض الأحرار.
هل يُمكنك لوم الزعيم ‘‘باتريس لومومبا‘‘ على خياره برفض التبعية للغرب؟..كان يبحث فقط عن مصلحة بلاده.. وهذا ما جناه.. هو وشعبه.. فقط لأنه قال ذات مرة للغرب ..لا…
هل يُمكنك نعت ‘‘ توماس سانكارا‘‘ بالمجنون..فقط لأنه صنّع وأنتج وزرع، ورفض دفع ديون الغرب الاستعمارية؟..
هل يمكنك تحميّله مسئولية الفقر في بوركينا فاسو من بعده؟..لا.. ألف مليون لا.. لا يُمكن لوم الإنسان على كونه حرًا.. لا يُمكن سحقه معنويًا لأنه اختار الحياة لشعبه ولنفسه بكرامة.. لا يُمكن لوم الساعي على عدم وصوله.. بل لوم المتقاعس الذي لولا صمته وسكوته وخيانته لأشقائه لما تجرأ الغرب على القيادات الوطنية ومشاريعها التحررّية.. السنوار بدوره لم يكن مجنونًا.. كان يحمل مشروع حريّة.. لكن كغيره من قادة التحرر الوطني العظام على مرّ التاريخ.. كان مصيره الشهادة بعد نزال ومصير أهله السحق من العالم.
ألم تفهم القصة بعد؟..
أن للحرية ثمن باهظ؟..أن الطريق طويل ويحتاج للشجعان الذين يضحون أولًا ليفتحوا الطريق؟.. ألم تُدرك إلى اللحظة حجم التكتلات العالمية التي بناها الغرب خلال 300 عام، وأن هذه الشبكات الزبائنية لن تسمح بميلاد مشروع تحرري؟.. ألم تفهم أن ثمن الصمت والخضوع للغرب من التجارب السابقة وغيرها.. كان الموت للشعوب.. لكنه موت النعاج الذليلة، التي تساق للمجزر واحدًا تلو الآخر.. وأن الغرب لا يعدكم سوى بالفقر.. ألم تفهم وتعي أنك بادعاء العقلانية وانتقاد المقاومة وقت المعركة..أنك حينئذ لا تشبه سوى سياط الجنرالات الخونة ‘‘سيسي سيكو موبوتو‘‘..و ‘‘بليز كومباوريه‘‘؟.. ألم تفهم بعد أن باتريس لومومبا وتوماس سانكارا لو كانوا بيننا اليوم لنعتوهم أيضًا بـ ‘‘المخربين‘‘..ألم تفهم أنك الهدف التالي لو صمتّ على جرائم الإسرائيليين.. وأنك ستذوق فقر الكونغو وسرقة مواردها.. وبؤس بوركينا فاسو وضياع أحلامها؟
ألم تعلم حتى اللحظة.. أن حريتك في مقاومتك.. وأن العالم فسطاطين.. سنوار وعباس.. سانكارا وكومباوريه.. لومومبا وموبوتو.. حرية وغرب.. السنوار سيخلده التاريخ لاحقًا كبطل حرية لا شك..مثله مثل لومومبا وسانكارا.. لكن التاريخ حتى لن يذّكر من تخلوا عنه.. فقط كخونة.. استحقوا اللعنات من شعوبهم..هذا وعد.
المصدر
صفحة الأستاذ عبده فايد على منصة X.
اقرأ أيضا
المد والجزر في تاريخ الإسلام .. الدافع للتمكين
الشيخ عبد العزيز البدري.. ذو الأربعين عاما
علماء مجاهدون .. “عمر الأشقر” نموذجا
دور الحافظ ابن عساكر في التهيئة لتحرير بيت المقدس من أيدي الصليبيين