انظر رعاك الله إلى خيار الأمة وما كانوا عليه من الفزعة إلى نصرة وإعانة المسلم، وانظر إلى بعض طوائف اليوم من المتمسلمين التي إذا رأتك غريقاً زادتك دهساً حتى تموت، وإن رأتك في عافية تمنت علتك، وإن كنت في مجاهدة عدو أعانته عليك وخذلتك..

التَّخاذُلُ بين اللغة والاصطلاح

الحمد لله، وصلّى الله على نبيه ومجتباه، أما بعد:

فالتَّخاذُلُ لُغةً: مَصدَرُ الفِعلِ تخاذَل؛ يقالُ: تخاذَلوا، أي: خَذَل بعضُهم بعضًا، و(خذل): أصلٌ يدُلُّ على تَركِ الشَّيءِ، والقُعودِ عنه؛ يقالُ: خَذَله خِذْلانًا: إذا تخلَّى عنه وتَرَك نُصرتَه وعَونَه، وكُلُّ تاركٍ: خاذِلٌ” .

التَّخاذُلُ اصطِلاحًا: قال الثَّعلبيُّ وغَيرُه في تعريفِ الخِذْلانِ: “القُعودُ عن النُّصرةِ، والإسلامُ للهَلَكةِ والمَكروهِ” ، وقد تقاربت تعاريف أهل اللغة لمصطلح التخاذل فقال أبو المُظَفَّرِ السَّمْعانيُّ في تعريفِه: “الامتِناعُ عن النُّصرةِ والإعانةِ عِندَ الحاجةِ” . وقال الرَّاغِبُ: “الخِذْلانُ: تَركُ من يُظَنُّ به أن يَنصُرَ نُصرتَه” .

التحذير من خذلان المسلم والتنصل عن نصرته وموالاته

فالإسلام وأهله في حاجة إلى من ينصرهم، وهذا المتخاذل ترك النصرة والنفير لعزة الإسلام، ورضي الذلة وهو خلق يتدثر به الجبناء، ولكن سرعان ما يصل إليهم سوء تقاعدهم.

ولقد ذم القرآن أهل الخذلان في ساعة الحاجة إلى نصرة الدين والقيام بشؤون المسلمين، وحث أهل الإسلام والحمية إلى النفير مع إخوانهم لدفع العدو الصائل، فقال سبحانه: ﴿وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ﴾ [الأنفال: 72]. أي: يجب عليكم نصر الذين لم يهاجروا وعونهم؛ لأنهم مسلمون.

وقوله تعالى: ﴿إِذۡ هَمَّت طَّاۤىِٕفَتَانِ مِنكُمۡ أَن تَفۡشَلَا﴾ [آل عمران: 122]، قال الطبري: “وكان همهما الذي همَّا به من الفشل: الانصراف عن رسول الله ﷺ والمؤمنين”.

وقوله تعالى: ﴿كَمَثَلِ ٱلشَّیۡطَـٰنِ إِذۡ قَالَ لِلۡإِنسَـٰنِ ٱكۡفُرۡ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّی بَرِیۤءࣱ مِّنكَ إِنِّیۤ أَخَافُ ٱللَّهَ رَبَّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ﴾ [الحشر: 16] ضُرب مثلاً للمنافقين واليهود في تخاذلهم، وتخلي بعضهم عن بعض، وإخلافهم الوعد، وإسلامهم أنفسهم عند الشدّة؛ كمثل الشيطان الذي غرّ إنساناً، ووعده على اتباعه وكُفرِه بالله النصرةَ عند الحاجة إليه، فكفر بالله وأطاعه، فلما احتاج إلى نصرته أسلمه وتبرأ منه.

وقوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوا الـمُشْرِكِينَ كَافَّةً﴾ [التوبة: 36]، يريد: تعاونوا وتناصروا على ذلك، ولا تتخاذلوا ولا تتقاطعوا، وكونوا عباد الله مجتمعين متوافقين في مقاتلة الأعداء.

خذلان المنافقين لإخوانهم من اليهود

بل إن التخاذل ليس مقصوراً شأنه على أهل الإسلام والصدق؛ بل حتى المنافقون مع أوليائهم من شياطين اليهود فإنهم يَعِدونهم ثم يقصّرون في نصرتهم جُبناً وخَوَراً وحرصاً على الحياة، وقد بيّن الله خبايا ما انطوت عليه نفوس المنافقين تجاه إخوانهم اليهود الملاعين، قال تعالى: ﴿أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِینَ نَافَقُوا۟ یَقُولُونَ لِإِخۡوَ ٰ⁠نِهِمُ ٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ مِنۡ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِ لَىِٕنۡ أُخۡرِجۡتُمۡ لَنَخۡرُجَنَّ مَعَكُمۡ وَلَا نُطِیعُ فِیكُمۡ أَحَدًا أَبَدࣰا وَإِن قُوتِلۡتُمۡ لَنَنصُرَنَّكُمۡ وَٱللَّهُ یَشۡهَدُ إِنَّهُمۡ لَكَـٰذِبُونَ * لَىِٕنۡ أُخۡرِجُوا۟ لَا یَخۡرُجُونَ مَعَهُمۡ وَلَىِٕن قُوتِلُوا۟ لَا یَنصُرُونَهُمۡ وَلَىِٕن نَّصَرُوهُمۡ لَیُوَلُّنَّ ٱلۡأَدۡبَـٰرَ ثُمَّ لَا یُنصَرُونَ﴾ [الحشر: 11-12].

قال السعدي: “تعجب تعالى من حال المنافقين الذين طمّعوا إخوانهم من أهل الكتاب في نصرتهم وموالاتهم على المؤمنين، وأنهم يقولون لهم: ﴿لَىِٕنۡ أُخۡرِجۡتُمۡ لَنَخۡرُجَنَّ مَعَكُمۡ وَلَا نُطِیعُ فِیكُمۡ أَحَدًا أَبَدࣰا﴾ أي: لا نطيع في عدم نصرتكم أحداً يعذلنا أو يخوفنا، ﴿وَإِن قُوتِلۡتُمۡ لَنَنصُرَنَّكُمۡ وَٱللَّهُ یَشۡهَدُ إِنَّهُمۡ لَكَـٰذِبُونَ﴾ في هذا الوعد الذي غروا به إخوانهم، ولا يستكثر هذا عليهم؛ فإنّ الكذب وصفهم، والغرور والخداع مقارنهم، والنفاق والـجُبن يصحبهم؛ ولهذا كذّبهم الله بقوله، الذي وُجد مخبره كما أخبر الله به، ووقع طِبق ما قال، فقال: ﴿لَئِنْ أُخْرِجُوا﴾ من ديارهم جلاءً ونفياً ﴿لا يخرجون معهم﴾ لمحبتهم للأوطان، وعدم صبرهم على القتال، وعدم وفائهم بوعدهم ﴿ولئن قُوتلوا لا يَنصرونهم﴾ بل يستولي عليهم الجبن، ويملكهم الفشل، ويخذلون إخوانهم أحوج ما كانوا إليهم. ﴿ولئن نصروهم﴾ على الفرض والتقدير ﴿لَيُوَلّنّ الأدبارَ ثم لا يُنصَرون﴾ أي: ليحصل منهم الإدبار عن القتال والنصرة، ولا يحصل لهم نصر من الله” .

ولكن كره الله انبعاثهم

ولو خرج أهل التخاذل مع المؤمنين وتخللوا صفوفهم لكان العوار والسقوط لكثير من الأقنعة التي كانت على شفا جرف من الرجوع وعدم النصرة، ولأوقعوا بأراجيفهم في عضد أهل الإسلام، وقد منّ الله سبحانه أن كره انبعاثهم فثبطهم عن الخروج حتى لا يكونوا أداة هدم، ويكفي ما يفعلونه في ساحة العافية من بلاء، قال الحق سبحانه: ﴿وَلَوۡ أَرَادُوا۟ ٱلۡخُرُوجَ لَأَعَدُّوا۟ لَهُۥ عُدَّةࣰ وَلَـٰكِن كَرِهَ ٱللَّهُ ٱنۢبِعَاثَهُمۡ فَثَبَّطَهُمۡ وَقِیلَ ٱقۡعُدُوا۟ مَعَ ٱلۡقَـٰعِدِینَ * لَوۡ خَرَجُوا۟ فِیكُم مَّا زَادُوكُمۡ إِلَّا خَبَالࣰا وَلَأَوۡضَعُوا۟ خِلَـٰلَكُمۡ یَبۡغُونَكُمُ ٱلۡفِتۡنَةَ وَفِیكُمۡ سَمَّـٰعُونَ لَهُمۡۗ﴾ [التوبة: 46-47].

قال الطبري: ﴿وَلَـٰكِن كَرِهَ ٱللَّهُ ٱنۢبِعَاثَهُمۡ﴾، يعني: خروجهم لذلك (فثَبّطَهم)، يقول: فثقل عليهم الخروج حتى استخفوا القعود في منازلهم خلافك، واستثقلوا السفر والخروج معك، فتركوا لذلك الخروج ﴿وَقِیلَ ٱقۡعُدُوا۟ مَعَ ٱلۡقَـٰعِدِینَ﴾ يعني: اقعدوا مع المرضى والضعفاء الذين لا يجدون ما ينفقون، ومع النساء والصبيان، واتركوا الخروج مع رسول الله ﷺ والمجاهدين في سبيل الله.

وكان تثبيط الله إياهم عن الخروج مع رسوله ﷺ والمؤمنين به، لعلمه بنفاقهم وغشّهم للإسلام وأهله، وأنهم لو خرجوا معهم ضَرُّوهُم ولم ينفعوا. وذكر أن الذين استأذنوا رسول الله ﷺ في القعود كانوا: عبد الله بن أبي بن سلول، والجد بن قيس، ومَن كانا على مثل الذي كانا عليه. قال ابن إسحاق: “كان الذين استأذنوه فيما بلغني، من ذوي الشرف، منهم: عبد الله بن أبيّ بن سلول، والجد بن قيس، وكانوا أشرافاً في قومهم، فثبّطهم الله، لعِلمه بهم أن يخرجوا معهم فيفسدوا عليه جنده” .

نصرة المسلم وموالاته في الأحاديث النبوية

وبيّنت السُّنة علقم التخاذل وما لاينبغي أن يكون عليه المسلم تجاه أخيه من النصرة، فحذر النبي ﷺ من التخاذل، وحض على ضده: فعن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ﷺ: “المسلم أخو المسلم، لا يظلمه ولا يخذله” . ولا يخذله: من الخذلان، وهو ترك النصرة والإعانة، ومعناه: إذا استعان به في دفع ظالم ونحوه لزمه إعانته إذا أمكنه، ولم يكن له عذر شرعي.

وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي ﷺ قال: “المؤمنون تتكافأ دماؤهم، وهم يد على من سواهم” . يعني: أنّ المسلمين لا يسعهم التخاذل، بل يعاون بعضهم بعضا على جميع الأديان والملل.

وعن أنس رضي الله عنه، قال: قال رسول الله ﷺ: “انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً”. فقال رجل: يا رسول الله، أَنصره إذا كان مظلوماً، أفرأيت إذا كان ظالماً كيف أنصره؟ قال ﷺ: تحجزه أو تمنعه من الظلم؛ فإن ذلك نصره” .

فنهى عن ترك إعانة المسلم؛ لأنه إذا تركه على ظلمه ولم يكفّه عنه، أدّاه ذلك إلى أن يُقتص منه؛ فمنعه له مما يوجب عليه القصاص نصْره؛ لأن النصر دفع الضرر عن أحد، وإذا منعت أحداً عن الظلم فقد دفعته عن الإثم الذي هو سبب دخوله النار، فكأنك دفعت النار عنه، وأي نصرة أكمل من دفعك النار عن أخيك؟

وقال رسول الله ﷺ: “كل مسلم على مسلم محرم، أخوان نصيران” ، معناه: أن من حق المسلمين أن يتعاونا ولا يتخاذلا.

الفزعة إلى نصرة وإعانة المسلم

وقد بيّن العلماء سوءة المتخاذلين وأخلاقهم، فمما ورد عن أهل العلم في التحذير من التخاذل، والحض على التعاون والتناصر، قول أبي طلحة زيد بن سهل رضي الله عنه: “المنافقون ليس لهم هَم إلا أنفسهم، أجبن قوم وأرعبه، وأخذله للحق”.

وعن يَزيدَ بنِ الأسوَدِ قال: لقد أدركْتُ أقوامًا من سَلَفِ هذه الأمَّةِ، قد كان الرّجُلُ إذا وقع في هُوِيٍّ أو وَحلةٍ نادى: يا آلَ عِبادِ اللهِ! فيتواثَبون إليه فيَستخرِجونَه ودابَّتَه ممَّا هو فيه، ولقد وقع رجُلٌ ذاتَ يومٍ في وَحلةٍ، فنادى: يا آلَ عِبادِ اللهِ! فتواثَبَ النَّاسُ إليه، فما أدركْتُ منه إلَّا مَقاصَّه في الطِّينِ، فلأن أكونَ أدركْتُ من متاعِه شيئًا فأُخرِجَه من تلك الوَحلةِ أحَبُّ إليَّ من دنياكم التي تَرغَبون فيها” .

فانظر رعاك الله إلى خيار الأمة وما كانوا عليه من الفزعة إلى نصرة وإعانة المسلم، وانظر إلى بعض طوائف اليوم من المتمسلمين التي إذا رأتك غريقاً زادتك دهساً حتى تموت، وإن رأتك في عافية تمنت علتك، وإن كنت في مجاهدة عدو أعانته عليك وخذلتك، فلا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

وفي وَصِيَّةِ عَلقَمةَ بنِ لَبيدٍ العُطارِديِّ لابنِه: “يا بُنيَّ، إذا نزعَتْك إلى صُحبةِ الرِّجالِ حاجةٌ، فاصحَبْ منهم من إنْ تُحِبَّه زانك، وإن خَدَمْتَه صانك، وإن أصابَتْك خَصاصةٌ مانَك، وإنْ قُلتَ صَدَّق قولَك، وإنْ صُلْتَ شَدَّ صَولَك، وإن مدَدْتَ يَدَك بفَضلٍ مَدَّها، وإن رأى منك حَسَنةً عَدَّها، وإن سألْتَه أعطاك، وإن سكَتَّ عنه ابتداك، وإنْ نزَلَتْ بك إحدى المُلِمَّاتِ آساك، من لا يأتيك منه البَوائِقُ، ولا تختَلِفُ عليك منه الطَّرائِقُ، ولا يخذُلُك عِندَ الحقائِقِ، وإن حاول حويلًا آمَرَك، وإن تنازَعْتُما مُنفِسًا آثَرك” .

وقد قيل: “شَرُّ النَّاسِ من يَنصُرُ الظَّلومَ، ويَخذُلُ المظلومَ”، وقال أبو هِلالٍ العَسكَريُّ: “تخاذُلُ القومِ فيما بينهم من أماراتِ شُؤمِهم، ودلائلِ شَقائِهم”.

فيا أيها المرابطون في الدفاع عن شرف الأمة ودينها لا تبرحوا أماكنكم، ولا يغرنّكم المرجفون، ولا يؤسفنكم تخاذلنا مع المتخاذلين، فالله أراد لكم أن تكونوا في طليعة الصفوف فاثبتوا ثبتنا الله وإياكم.

المصدر

مجلة أنصار النبي ﷺ، الشيخ المختار بن العربي مؤمن، عضو مجلس أمناء الهيئة العالمية لأنصار النبي ﷺ.

اقرأ أيضا

التخذيل عن الجهاد..من صفات المنافقين

الولاء والبراء بين النظرية والتطبيق في نازلة غزة المرابطة

المنافقون في فلسطين وحكمهم

دور المنافقين في المعارك التي خاضها الرسول ﷺ

حكم مظاهرة الكفار على المسلمين إذا كانت للدنيا

التعليقات غير متاحة