كلمات لها تاريخ: اللهم انصر دينك ولا تنصر محموداً .. ومن هو محمود (نور الدين زنكي)..

“كان نور الدين حامل رايتي العدل والجهاد ـ ونِعم الرايتين ـ قلَّ أن ترى العيونُ مثله، حاصر دمشق ثم تملّكها، وبقي بها عشرين سنة، وافتتح أولاً حصوناً كثيرة وأظهر السنة بحلب وقمَع الرافضة؛ فهو الذي ألغى الأذان على طريقة الرافضة في “حلب” وما جاورها، ولهذا أراد الباطنيون أن يغتالوا بعض قواده، واغتيل بالفعل بعض من كانوا موالين له من الأمراء”.

من هو نور الدين محمود زنكي

كان السلطان المجاهد نور الدين محمود زنكي رحمه الله ( 511- 569هـ ) واحداً من أعظم ملوك الإسلام وأعدلهم ، حتى نقل ابن كثير في البداية والنهاية عن ابن الأثير قوله : (لم يكن في ملوك الإسلام بعد عمر بن عبد العزيز مثل الملك نور الدين ، ولا أكثر تحرياً للعدل والإنصاف منه)1(1) [ البداية والنهاية 12/ 298)]..

وقال عنه شيخ الإسلام ابن تيمية: (وكذلك السلطان نور الدين محمود الذي كان بالشام عزَّ أهل الإسلام والسنة في زمنه ، وذلَّ الكفار وأهل البدع ممن كان بالشام ومصر وغيرهما من الرافضة والجهمية ونحوهم)2(2) مجموع الفتاوى (4/ 22)..

وكان كما قال ابن كثير: (فقيهاً على مذهب أبي حنيفة، وسمع الحديث وأسمعه، وكان يكثر الصلاة بالليل من وقت السحر إِلى أن يركب، فكان كما قيل :

جَمَعَ الشَّجاعَةَ والخُشُوعَ لِرَبِّهِ *** ما أَحْسَنَ الشُّجْعَانَ في المِحْرَابِ)3(3) [ البداية والنهاية 12/ 299)]..

من جولاته رحمه الله مع الفرنجة

وقد كان له رحمه الله مع الفرنجة صولات وجولات ، وكسرهم كما يقول ابن كثير غير مرة ، واستنقذ من أيديهم معاقل كثيرة ، من الحصون المنيعة التي كانوا قد استحوذوا عليها من بلاد  المسلمين.

ومن مواقعه الشهيرة مع الصليبيين موقعة حارم في رمضان 559هـ ، وهي منطقة قرب حلب من بلاد الشام، (وذلك أن نور الدين استغاث بعساكر المسلمين فجاؤوه من كل فج ليأخذ بثأره من الفرنج ، فالتقى معهم على حارم فكسرهم كسرة فظيعة . وأسر البرنس بيمند صاحب أنطاكية ، والقومص صاحب طرابلس ، والدوك صاحب الروم ، وابن جوسليق ، وقتل منهم عشرة آلاف وقيل عشرين ألفا)4(4) [البداية والنهاية: (12/ 266)]..

ومن عجيب ما وقع منه رحمه الله في تلك الموقعة ما ذكره أبو شامة المقدسي حيث قال: (وَبَلغنِي أَن نور الدّين رَحمَه الله تَعَالَى لما التقى الْجَمْعَانِ أَو قبيله انْفَرد تَحت تل حارم ، وسجد لربه عزَّ وَجل ومرغ وَجهه وتضرع ، وقال: يا رب هؤُلاءِ عبيدك ، وهم أولياؤك . وهؤُلاء عبيدك وهم أعداؤك، فانصر أولياءك على أعدائك ، إيش فضول مَحْمود فِي الوسط. يُشير إِلَى أَنَّك يا رب إِن نصرت المسلمين فدينك نصرت ، فلا تمنعهم النَّصر بسبب محمود ، إِن كان غير مُستَحق للنصر، وبَلغنِي أَنه قَال: اللهم انصر دينك ، ولا تنصر محموداً . ومن هو محمود حتى ينصر)5(5) الروضتين في أخبار الدولتين النُورية والصلاحية (1/ 419)..

ولا شك أن ذلك من تواضعه رحمه الله ، وحبه لدينه ولأمته ، حتى إنه لا يرى لنفسه فضلاً ، بل يصف نفسه بالكلب ، وهو القائد المجاهد الذي دوَّخ الصليبيين في وقائع كثيرة .

وقد جرى بسبب هذا الدعاء منامٌ حسن رآه أحد أئمة المساجد بعد ذلك بسنوات ، وذلك أن الفرنجة كانوا قد حاصروا مدينة دِمياط المصرية في صفر من سنة خمس وستين وخمسمائة كما ذكر ابن كثير في البداية والنهاية ( 12/ 297) وضيَّقوا على أهلها، وقتلوا كثيراً منهم . وكان صلاح الدين الأيوبي بمصر في ذلك الوقت ، فأرسل إِلى نور الدين يسْتَنْجِدُه على الصليبيين ، فأمده نورُ الدينِ بِبُعُوثٍ كثيرة . وقد اغتم نور الدين كثيراً بسبب ما وقع لأهل دِمياط من التضييق والحصار ، حتى إنه قد قرأ عليه بعض طلبة الحديث جزءاً فيه حَدِيثٌ مُسَلْسَلٌ بِالتَبسُّمِ، فَطَلَبَ مِنْهُ أَنْ يتبسم ليصل التسلسل، فامتنع من ذلك، وقال: إني لأستحي من اللَّهِ إِن يراني متبسماً ، والمسلمون يحاصرهم الفرنجُ بثغْرِ دِمْيَاطَ.

وأما خبر المنام الذي أشرنا إليه فهو ما ذكره أبو شامة في كتاب الروضتين ، ونقله عنه ابن كثير وغيره ، وفيه أنَّ إمامَ مسجِد أبي الدرداء قد رأى في منامه في الليلة التي أُجْلي فيها الفرنج عن دِمْيَاطَ رأى رسولُ الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول له: سلِّم على نور الدين وبشِّره بأن الفِرِنْجَ قد رحلوا عن دِمياط . قال: فقلت يا رسول الله بأي علامة ؟ فقال بعلامة ما سجد يوم تل حارم ، وقال في سجوده: اللهم انصر دينك ومن هو محمود؟.

فلما صلى نور الدين الصبح خلف ذلك الإمام بشَّرَهُ بذلك ، وأخبره بالعلامة، فلما جاء إلى عند ذكر : ” من هو محمود ” ، انقبض من قول ذلك (أي تردد في النطق بذلك) ، فقال له نور الدين: قل ما أمرك به رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال ذلك. فقال: صدقت. وبكى نور الدين تصديقاً وفرحاً بذلك، ثم كشفوا فإذا الأمر كما أخبر في المنام6(6) [راجع الخبر في البداية والنهاية : ( 12/ 280 ) ]..

صلاح الدين الأيوبي على خطى نور الدين

وعلى درب نور الدين زنكي سار تلميذه ، الذي كان حسنة من حسناته صلاح الدين الأيوبي . فقد واصل مسيرة الجهاد ، وحصل له من النصر والفتوحات ما لم يحصل لنور الدين ، حتى أكرمه الله تعالى في عام 583 هـ ، بفتح بيت المقدس واستنقاذه من أيدي الصليبيين الذين عاثوا فيه فساداً مدة تسعين سنة . ولما فرغ صلاح الدين من تطهير المسجد الأقصى من الأنجاس والأوساخ ، أمر أن يُعمل له منبر، فقيل له: إن نور الدين محموداً كان قد عمل بحلب منبراً أمر الصناع بالمبالغة في تحسينه وإتقانه، وقال: هذا قد عملناه لينصب بالبيت المقدس، فعمله النجارون في عدة سنين ، لم يعمل في الإسلام مثله، فأمر بإحضاره، فحمل من حلب ونصب بالقدس، وكان بين عمل المنبر وحمله ما يزيد على عشرين سنة، وكان هذا كما يقول ابن الأثير: ( من كرامات نور الدين وحسن مقاصده، رحمه الله)7(7) الكامل (10 / 37)..

قلت: وهذا المنبر هو الذي كانت العامة تسميه منبر صلاح الدين ، وقد أتى عليه الحريق المتعمد الذي وقع بالمسجد الأقصى في أغسطس عام 1969 ،على يد مجرم يهودي أسترالي ، بعد حوالي عامين من احتلال الصهاينة لمدينة القدس . فوُضع مكانَه منبر حديدي مؤقت ، إلى أن أعادت السلطات الأردنية صنع منبرٍ شبيهٍ بالمنبر الأصلي ، وبنفس الطريقة والخامات التي كان منبر نور الدين مصنوعاً منها ، ووضع في مكانه عام 2007 م.

الهوامش

(1) [ البداية والنهاية 12/ 298)].

(2) مجموع الفتاوى (4/ 22).

(3) [ البداية والنهاية 12/ 299)].

(4) [البداية والنهاية: (12/ 266)].

(5) الروضتين في أخبار الدولتين النُورية والصلاحية (1/ 419).

(6) [راجع الخبر في البداية والنهاية : ( 12/ 280 ) ].

(7) الكامل (10 / 37).

المصدر

صفحة الدكتور عبد الآخر حماد على منصة ميتا.

اقرأ أيضا

نور الدين الشهيد.. حامل رايتيْ العدل والجهاد

من فقه الدعوة .. قائد ، وأمة

جهاد السلطان بيبرس

سالم بن عمير

عبد الله بن أنيس فدائي من عصر الرسول

عمير بن عدي الخطمي

التعليقات غير متاحة