ماذا فعل أبناء الأمة حيال هذه المصائب والأسهم القاتلة، ما الذي قدمه الأباء والأمهات لحماية أبنائهم وتربيتهم وتحمل مسؤولية الإسلام فيهم، ما الذي فعله أصحاب الأموال في الأمة أمام المشاريع الإفسادية القارونية المليارية، وما الذي قدمه أهل العلم في البيان القولي والقيادة العملية للأمة أمام كل هذه الأسهم.

من السهام المسمومة الموجه للأمة الإسلامية

إن الأمة الإسلامية اليوم تعيش الجراح العميقة في طول جسدها، وعرضه هذا الجسد الذي وجهت له أنواع السهام المسمومة من كل حدب وصوب:

سهم الاستعمار الطويل الذي ترك بصمته السوداء على كل البلدان المسلمة التي وصل إليها وجثم عليها .

وسهم الاستشراق الذي هو الأداة الفكرية للغزو الغربي في القرن الماضي.

وأسهم الشبهات الفكرية التي اشتعلت في العشرين سنة الأخيرة وحمل لوائها المؤسسات الفكرية والأندية الثقافية وبعض الأنظمة السياسية والقنوات الإعلامية والصحف والمجلات وبعض المثقفين المستغربين ثم بعض الرموز الجديدة المنحرفة التي اتخذت من وسائل شبكات التواصل منابر لها تنشر من خلالها شبهاتها في الإلحاد والنسوية وإنكار السنة النبوية واللادينية والإبراهيمية وغيرها .

وسهم الشذوذ والإباحية التي لم تشهد لها البشرية على طول تاريخها له مثيلاً في الانحطاط والرذيلة وفي الانتشار الرهيب الذي غزى الشباب والفتيات والكبار والصغار عبر المواقع والأجهزة الإلكترونية.

وسهم التجهيل والتضليل والعصبية والعرقية التي أشرفت على غرسها السياسات الغربية التي رسمت حدودنا في مطلع القرن الماضي وسعى في تنفيذها وترسيخها الأيدي المتنفذة التابع لهذه القوة الغربية والموالية لها .

وأسهم أنظمة الدولة الحديثة التي كرست مفاهيم الوطنية على حساب الأمة وسحقت الإنسان تحت عجلة متطلباتها وأهدرت الأعمار والطاقات تحت وطأة التعليم العقيم الذي يرسخ المفاهيم الخاطئة ويكرس التبعية العمياء وأهدرت كرامة الإنسان بالتسلط المالي والفقر والسجون والقهر وسلب الحرية والكرامة في كثير من البلدان والأقطار .

وأسهم الاحتلال المباشر وغير المباشر والذي نرى شيئا من نيرانه اليوم في غزة وفي السودان.

وأسهم الرؤوس المتنفذة الظالمة المنافقة المحاربة للإصلاح والمصلحين ولكل محاولات النهضة بالأمة .

وأسهم إعلامهم الفاسد الذي يزيف الحقائق وينشر الفجور ويشوه المصلحين .

وأسهم الغلاه والسفهاء الذين تسلطوا على الأمة تكفيرا وتبديعا وتفريقا وتمزيقا زيادة على ما هي عليه من التفرق والاختلال وأسهم التفاهات والمشتتات والمشاهير الرويبضات الذين ذكرهم النبي صلى الله عليه وسلم في حديثه الذي أخبر به عن آخر الزمان فتاهت الأجيال الصاعدة وغرقت في مستنقعات التفاهات وفقدان المسؤولية والمعنى.

كل هذه الأسهم تجتمعُ على جسدٍ منهكٍ أصابهُ الوهن الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم فأسقمته وأمرضته وأقعدته فصار مقيداً عاجزاً.

الدور المأمول من عموم  الأمة

ثم بعد ذلك كله ماذا فعل أبناء الأمة حيال كل هذه المصائب والأسهم القاتلة ما الذي قدمه الأباء والأمهات لحماية أبنائهم وتربيتهم وتحمل مسؤولية الإسلام فيهم، ما الذي فعله أصحاب الأموال في الأمة أمام المشاريع الإفسادية القارونية المليارية، وما الذي قدمه أهل العلم في البيان القولي والقيادة العملية للأمة أمام كل هذه الأسهم.

إن من يظن أن الأمة الإسلامية اليوم ستنجوا من كل هذه الأسهم الهائلة المسمومة بجهود يسيرة وأوقات متفرقة يبذلها البعض وفضول أموال يتبرع بها طوائف من المنفقين في بعض المساحات الباردة فهو واهم .

إن الأمة الإسلامية اليوم لن تنهض من كبوتها ولن تتحرر من قيودها إلا بتضحية هائلة بالأوقات والطاقات والأموال وبجهود دأوبة متواصلة من أبنائها المخلصين البررة وأنا هنا أكرر ما ذكرته مرارا من فكرة تفريغ العاملين للدين وأهمية المبادرة بهذه الفكرة على مستوى الداعمين وعلى مستوى العوائل وذلك بأن يكفى بعض النجباء والأذكياء من الشباب المؤمنين المخلصين مأونة تحصيل الأموال وكلفة الدخول في عجلة الطحن الحياتية المعاصرة ويتفرغون للبناء الشمولي الذي لا يكتفى فيه بالحفظ وأخذ العلم الشرعي وحده، بل يكون بناء شمولياً يجمع أشتات احتياجات المصلحين البنائية على كل المستويات المؤثرة في مسيرة الأمة ثم يسخرون كامل أوقاتهم في العمل للدين ونصرة الإسلام وهذا لا يكون إلا بتضحية من الشباب ومن عوائلهم ووعي من الداعمين من أصحاب الأموال المسخرة في الخير.

إن الأمة الإسلامية اليوم لن تنجو إلا بوعي عميق واسع تجاه أعدائها من الكفار والمنافقين فتعاديهم ووعي تجاه العاملين الصادقين المخلصين فتواليهم وإلا فكيف تنهض أمة تعادي من يعمل لأجلها وتخذلهم وتوالي من يحاربها في دينها وأخلاقها وتنصرهم.

إن الأمة الإسلامية اليوم لن يصلح حالها إذا نشأ طلاب العلم الشرعي من أبنائها على مجرد الحفظ وضبط المسائل النظرية دون التربية العملية على حقائق الإيمان والتزكية ودون الوعي بالواقع والقوة الفكرية ومعرفة المنهج الإصلاحي الذي سار عليه الأنبياء والمرسلون فيجب أن يربى طلاب العلم وينشأوا على البناء الشمولي الجامع بين العلم والعمل والتزكية والفكر والوعي والمنهج الإصلاحي وبهذا يهيئون للتأثير في ميادين الأمة وسياقاتها التدافعية بقوة وبصيرة ووعي فيكونوا بذلك قادة ربانيين بما كانوا يعلمون من الكتاب وبما كانوا يدرسون.

إن الأمة الإسلامية اليوم لن تتغير أحوالها إذا كانت غاية ما نرجوه من نخبة شبابها أن يكتفوا بحفظ القرآن وإقامة حروفه وألفاظه دون فهم له وتدبر ودون استهداء به وعمل ولذلك فإننا نرجو من جيل الأمل ومن الرموز الواعية أن يحيوا في الأمة مجالس الاستهداء بالقرآن وأن تملأ حلقات التحفيظ بمجالس التدبر والفهم والتلقي العملي المرتبط بالواقع كما كان حال الصحابة في مدرسة النبي صلى الله عليه وسلم.

إن الأمة الإسلامية اليوم تحتاج من نخبها ودعاتها ورموزها أن يصيروا على فقه الأولويات ويدوروا في فلك المحكمات ويعتنوا بالمركزيات في الشرع والواقع فيجعلوا لكل قضية قيمتها ووزنها التي اُعطيت له في الوحي ويركزون على كبار المشكلات في الواقع تماما كما اعتنى الأنبياء بالمشكلات الكبرى في أزمنتهم وأعطوها الأولوية وبالغ الاهتمام، فهذا لوط عليه السلام يعيد لقومه ويبدي في معالجة مشكلة الفاحشة، وهذا شعيب عليه السلام يعتني في كل دعوته بمعالجة الظلم الاقتصادي والتجاري الذي يمارسه قومه على الناس، كما أن موسى عليه السلام انبرى بإذن الله سبحانه لتحرير المستضعفين والمقهورين، ونحن اليوم كذلك نحتاج الى هذا الفقه والى هذه العناية.

هذا وإن الأمة الإسلامية اليوم تحتاج الى اجتماع الكلمة ونبذ التفرق والتنازع فإن هذا من شروط النهضة ونحن وإن كنا لا نؤمل في واقعنا الإسلامي اليوم توحّدا منهجيا كليا شموليا إلا أننا نطمح إلى ما دون ذلك وهو الاجتماع على الأهداف الكبرى المتعلقة بالأمة ونصرتها ولو اختلفت المناهج والسياقات كما نحتاج إلى نبذ الاشتغال ببعضنا والتركيز على ما ينفع أمتنا

ثم إننا نؤمن إيماناً تاماً أن الله تعالى يدبر الكون كله وأنه لا يحدث شيء إلا بإذنه وأنه قد جعل في الأرض قوانين وسننا وأن من أوضحها نصر المؤمنين الباذلين الصابرين السائرين على ما يحب سبحانه، فإذا وجد هؤلاء المؤمنون وساروا على منهاج الأنبياء وأحيوا حقائق الدين وتفاعلوا بها في الواقع بوعي وحكمة وهمة متخذين في سبيل ذلك الوحي مرجعية والمدرسة المحمدية أنموذجا والتزكية زادا والعلم ضمانا والحكمة منهاجا والبصيرة دليلا والعمل سبيلا والأمة قبلة وإحياء الإسلام غايةً، متلمسين مع اتخاذ الأسباب العون الإلهي والتوفيق الرباني بالتوكل والاعتصام والاتباع، إذا وجد هؤلاء فلا تسل عن المدد الإلهي والبركة والفتح من العزيز الحكيم سبحانه، وإنني إذ أقول ذلك فإنني لا أدعو إلى شيء بعيد لا يمكن تناوله بل إنني مع هذه الدعوة أبشر ببوادر تحقق هذه النماذج على أرض الواقع وقد رأينا بواكير ثمراتها بأم أعيننا فنسأل الله أن يتم النعمة ويحقق الغاية وإن غدا لناظره لقريب وصل اللهم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه جميعا .

المصدر

صفحة الأستاذ أحمد السيد.

اقرأ أيضا

أسس وحدة الأمة الإسلامية

واقع الأمة الإسلامية

القوة سِرُّ عز الأمة

الأمة الإسلامية بين أسباب السقوط وعوامل النهوض

مسؤولية الفرد عن انتكاسة الأمة.. (1-2) التكاليف الفردية والجماعية

دور الأمة في التغيير

التعليقات غير متاحة