إن طريق الله واضحة. والنصر والعطاء من هذا الطريق وحده. فمن أراد النصر فليسر في الطريق وليمض قدماً. فإنه ملاق وعد الله الحق. ولا يخلف الله وعده. أما إن هجر الطريق الأوحد، وراح يتسكع في كل طريق غيره، فمن أين يصيبه النصر، وهو منصرف عنه وموليه الأدبار؟

مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا فلا أجيب لكم

عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخل عليَّ النبي صلى الله عليه وسلم فعرفت في وجهه أن قد حضره شيء، فتوضأ وما كلم أحداً، فلصقت بالحجرة أستمع ما يقول، فقعد على المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وقال: ” يا أيها الناس. إن الله يقول لكم: مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا فلا أجيب لكم، وتسألوني فلا أعطيكم، وتستنصروني فلا أنصركم “. فما زاد عليهن حتى نزل. رواه ابن ماجة وابن حبان في صحيحه1[1] الترغيب والترهيب. ج 4 ص 12 رقم 29..

يا الله! أو حقاً يدعو الناس فلا يستجيب الله لهم؟

الله الذي يقول: وسعت رحمتي كل شيء؟ الله الذي يقول: وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان “؟

هل يمكن أن يحدث ذلك؟

صدق الله. وصدق رسوله. وما يمكن أن يكون ذلك إلا حقاً!

وإنه لحق ترتجف له النفس فرقاً ويقشعر الوجدان رعباً.

وماذا يبقى للناس إذن؟ ماذا يبقى لهم إذا أوصدت من دونهم رحمة الله؟ ولمن يلجئون في هذا الكون العريض كله وقد أوصد الباب الأكبر الذي توصد بعده جميع الأبواب.. ويبقى الإنسان في العراء. العراء الكامل الذي لا يستره شيء، ولا يحميه شيء من لفحة الهاجرة وقسوة الزمهرير؟

ألا إنه الهول البشع الذي يتحامى الخيال ذاته أن يتخيله.. لأنه أفظع من أن يطيقه الخيال.

الخيط الذي يمسكه بالقدرة القاهرة القادرة قد انقطع.. فراح يهوي. يهوي إلى حيث لا يعلم أحد ولا يلاحقه خيال. يهوي في الظلمات. يتقلب على الدوام. يصطدم في كل شيء. يتحطم.. تتمزق أوصاله.. يتناثر في كل اتجاه.. وكل ” جزء ” من نفسه يذوق من الآلام ما لا يطيق: (فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ) [الحج:31].

ذلك هو المخلوق البائس الذي يدعو الله فلا يجيبه، ويسأله فلا يعطيه، ويستنصره فلا ينصره.

فهل كتب الله ذلك الهول البشع على عباده – المسلمين – الذين يدعونه ويسألونه ويستنصرونه؟!

نعم.. حين يكفون عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. ولو بأضعف الإيمان.

البشر هم أدوات العمل في الأرض

لقد اقتضت إرادة الله أن يكون الإنسان خليفة في الأرض.

واقتضت إرادته كذلك أن يكون الإنسان – الذي يستمد قوته من الله – هو القوة الفعالة في هذا الوجود.

(وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ) [الجاثية:13].

الإنسان هو الذي يعمل. والإنسان هو الذي ينتج. والإنسان هو الذي غير الواقع، والإنسان هو الذي ينشئ النظم ويقيم الأوضاع.

الإنسان هو القوة الإيجابية في الأرض، في ذات اللحظة التي يسلم كيانه كله لله. بل من هذا الإسلام الكامل لله، يستمد الإنسان طاقته الإيجابية كلها على الأرض! (وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ)2[2] انظر ” السلبية والإيجابية ” في فصل ” خطوات متقابلة في النفس البشرية ” من كتاب ” منهج التربية الإسلامية “..

لقد اختار الله أن يكون الإنسان هو أداته العاملة في الأرض. (سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) وعلى ذلك جرت سنته منذ خلق الأرض والإنسان.

دور هذه السنة في الحياة الإنسانية في محيطها الشامل

فعلى أساس هذه السنة الثابتة – التي شاءت إرادة الله الحرة القادرة أن تكون ثابتة – يستطيع الناس تفهم الكون من حولهم، والتعرف على أسراره، والتوفيق بين أنفسهم وبين الكون والحياة.

وكل ” العلم ” الذي علمه الناس منذ البدء حتى اليوم، وكل المخترعات التي اخترعوها، وكل الفوائد التي جنوها، والخدمات التي حصلوا عليها لم تكن لتوجد لولا ثبوت السنة واطرادها وعدم تخلفها.

وكذلك الحياة الإنسانية في محيطها الشامل.. فكل النظم القائمة على تجارب البشرية: النظم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والعمرانية.. لم تكن لتقوم لولا ثبوت هذه السنة واطرادها. فهذا وحده هو الذي يجعل للتجربة قيمة، ويجعلها مجالاً للفائدة ومحلاً للاعتبار.

وإلا فما قيمة التجارب – علمية كانت أو اجتماعية أو اقتصادية – إذا كانت كل تجربة منقطعة عن غيرها، قائمة بذاتها، لا تتصل بشيء ولا تنتهي إلى شيء؟ وكيف يتعلم الناس أن هذا ضار وهذا نافع، فيعرضوا عن الأول ويقبلوا على الأخير؟

هي رحمة الله إذن بالناس أن يجعل لهم سنة ثابتة، ويجعلها واضحة، ويجعلها محلاً للعبرة، ويوجه إليها الضمائر، ويوقظ لها القلوب:

(قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدىً وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ) [آل عمران:137 – 138].

البشر هم أدوات التغيير

وقد اقتضت هذه السنة – كما قلنا – أن يكون البشر هم أدوات العمل في الأرض وهم كذلك أدوات التغيير:

(إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) [الرعد:11].

ولن يعجز الله سبحانه أن يغير ما بالقوم دون أن يغيروا ما بأنفسهم. فالسماوات والأرض ومن فيهن ملكه. وهو القاهر فوق عباده. وهو المتصرف وحده في الجميع بما يشاء وكيفما يشاء.

ولكنه هكذا شاء.. أن يكون الإنسان عنصراً إيجابياً في الحياة. وأن يكون التغيير – وهو إرادة الله – مرتبطاً بإرادة الإنسان، مقضياً عن طريقه، نافذاً من خلاله، ممتزجاً بكيانه كله من عمل وفكر وشعور.

والحمد لله أن جعل للإنسان كل هذه القيمة في الأرض.. وإلا فما هو في ذاته لولا هذا العطف الرباني عليه؟ لولا تلك النفخة الإلهية التي جعلت منه ما هو عليه. أليس هو من طين هذه الأرض، يستوي في ذلك مع الصرصار الحقير والوحش الكاسر والحيوان البهيم؟

ولكن لهذا التكريم تبعاته ومقتضياته..

تبعاته أن يكون الإنسان قوة إيجابية حقاً، وأن يعمل بمقتضى ذلك في واقع الحياة.

تبعاته أن يعمل، وأن يكافح، وأن يصارع، ولا يسلِّم، ولا ينخذل، ولا يستكين.

تبعاته أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويؤمن بالله: (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ) [آل عمران:110].

تبعاته إذا رأى المنكر أن يغيره.. بيده، فإن لم يستطع فبلسانه.. فإن لم يستطع فبقلبه.. وهو أضعف الإيمان.

المدافعة سنة ربانية

وليس المعروف أو المنكر شيئاً محدوداً في هذه الأرض، أو ميداناً دون ميدان.

كل شأن من شئون الناس، كبر أو صغر، يمكن أن يجري بالمعروف ويمكن أن يجري بالمنكر. وتبعات الإنسان تستلزم ملاحقته لهذه الشئون كلها، والرقابة عليها، والتأكد من جريها بالمعروف وبعدها عن المنكر! وإلا.. فالنتيجة هي الفساد!

تلك أيضاً هي سنة الله. فقد اقتضت سنته أن يراقب الناس شئون الأرض، ويدفع بعضهم بعضاً إلى الصلاح والرشد، وإلا فسدت الأرض: (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) [البقرة:251].

وإنها لتبعة ثقيلة تنوء بحملها الأكتاف.. ولكنها كذلك هي السبيل الأوحد لانتظام الأمور، فحين يؤدي كل إنسان واجبه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر – مع الإيمان بالله – لا يجرؤ الباطل أن يعيش، ولا يجرؤ المنكر أن يستأسد. ويظل الحق هو القوة الغالبة الفعالة التي تسيطر على الأمور.

أما حين ينام عن هذا الواجب المقدس فالشر يغري، والشر يهيج، والشر يسيطر على الحياة.

وقد جرت سنة الله بذلك في التاريخ..

كيف تتحقق قوة المجتمع ونجاحه

أيما أمة حية متيقظة، ترقب شئونها بنفسها، وتحرص على أداء كل واجب، وتنفر من كل تقصير، فهي الأمة الناجحة، وهي التي تملك السلطان.

وأيما أمة تراخت وأهملت، وتركت الباطل يسيطر على شئون الناس، فهي الأمة الفاشلة، وهي الأمة التي حل بها الدمار.

وقوة المجتمع وضعفه رهين بهذا وذاك.

فالمجتمع الذي يتناصح الناس فيه بالخير ويتناهون عن المنكر، هو المجتمع المترابط المتساند القوي، الذي يتقدم إلى الأمام حثيثاً، وينتقل من خير إلى خير، بحكم تضافر الطاقة وتوجهها إلى الإصلاح. والمجتمع الذي يأتي المنكر فيه كل إنسان على مزاجه، ويتركه الآخرون لما يفعل، هو المجتمع المفكك المنحل، الذي يمضي إلى الوراء حتماً، وينتقل من ضعف إلى ضعف، بحكم تبدد الطاقة وانصرافها إلى الشر.

(لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُدَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ) [المائدة:78 – 79].

وكذلك لعن الغرب في التاريخ الحديث.

من آثار السكوت عن المنكر وعدم الأمر بالمعروف

أما المسلمون الأوائل، الذين كانوا خير أمة أخرجت للناس، والذين كانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويؤمنون بالله، فقد كانوا أمة قوية قاهرة غلابة. أمة متينة البناء وثيقة الأساس. أمة استطاعت أن تكافح كل قوى الشر وتعيش. تكافح الحكومات الظالمة من داخلها، والغزاة البرابرة من خارجها، من التتار مرة والصليبيين مرة.. وتصمد لهذا الشر كله وتتغلب عليه.

فلما كفوا.. لما تعبوا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.. لما عادوا لا يتناهون عن منكر فعلوه.. جرت عليهم السنة الأبدية الخالدة التي بينها لهم الله وحذرهم منها.. فصاروا فتاتاً متهاوياً تلتقمه قوى الشر من الداخل والخارج على السواء.

ولقد يبدو لأول وهلة أن العالم الإسلامي قد ضعف وهان واستُعمر لأنه غرق في الجهالة والتأخر والانحطاط والجمود. ولأنه انقسم على بعضه فتنازعته الأحقاد. ولأن حكامه الطغاة كانوا مشغولين بلذائذهم عن أن يلتفتوا لإصلاح الشعب. ولأن المظالم الاجتماعية والاقتصادية قسمت الناس إلى طغمة ظالمة من الملاك تملك كل شيء، وعبيد من الشعب لا يملكون شيئاً غير الذل والفقر والهوان. ولأن القوة الحربية والإنتاجية للعالم الإسلامي تضاءلت وانحسرت بينما كانت أوربا تصعد في كل ميدان..

وإنه لكذلك حقاً وصدقاً.. ولكن ما ذاك؟ ما هو في حساب الحقائق إلا السكوت عن المنكر وعدم الأمر بالمعروف؟!

أمثلة للتراجع عن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

ألم يأمر الله بالعدل: (وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ) [النساء:58].

وعدم السكوت للظلم: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً) [النساء:97]، ولكنهم تركوا حكامهم يظلمونهم واستكانوا لهم فلم يغيروا عليهم؟

ألم يأمر الله بإعداد العدة واستحضار القوة: (وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ) [الأنفال:60]، ولكنهم سكتوا عن الاستعداد وضعفوا واستكانوا، ولم يطالبوا بالجهاد في سبيل الله ولم يتجهوا إليه؟

ألم يكرم الله العلم: (اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ عَلَّمَ الْأِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) [العلق:3 – 5]، وحض عليه رسوله: ” طلب العلم فريضة ” ، فلم يسعوا إلى العلم وغرقوا في الجهالة؟

ألم يأمر الله بألا يكون المال (دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ) [الحشر:7]، فتركوه دولة بين الإقطاعيين ولم يثوروا عليهم إحقاقاً لكلمة الله في الأرض، وإحقاقاً للعدل الذي أمر به الله؟

ألم يأمر الله الرجال أن يعاشروا النساء بالمعروف (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [النساء:19]، فعاشروهن بالظلم وأجحفوا بحقوقهن، وتركوهن طعمة للجهل وانزواء الشخصية وضآلة الكيان – وهن صانعات الطفولة – فخرجت من بين أيديهم أجيال من البشر هابطة الأنفس محدودة الآفاق ضئيلة الإنسانية؟

فأي معروف أمروا به وأي منكر نهوا عنه، وأي إيمان بالله؟

عندئذ جرت عليهم سنة الله.. وغضب عليهم الله.. فاستعبدوا وهم الأعلون لو كانوا مؤمنين: (وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [آل عمران:139].

فهم الحديث في ضوء فهم هذه السنة

تلك سنة الله.. يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.. أو يدعونه فلا يستجيب لهم، ويسألونه فلا يعطيهم، ويستنصرونه فلا ينصرهم..

لأنهم – شاءت حكمته ذلك – هم أدوات الله في الأرض. وعن طريقهم ينفذ الله أمره. كذلك اقتضت سنته: (إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ) لا عجزاً من الله – سبحانه – عن التغيير بغير تلك الأدوات، أو بغير أدوات على الإطلاق، ولكن تكريماً لهذا الخليفة في الأرض، ومنحَه حرية التصرف وحرية السلوك.

وحين نفهم هذه السنة نفهم ذلك الحديث الذي نطق به الرسول صلى الله عليه وسلم .

فإذا كانت الأدوات جاهزة للعمل، متوجهة إليه، متوفرة له.. فإن السنة تمضي، والعمل ينفذ، والإصلاح يتم.

وإذا كانت الأدوات معطلة أو فاسدة.. فإن السنة تمضي كذلك في طريقها. تمضي بالإبقاء على الفساد، والزيادة فيه، وعدم التغبير عليه، وعدم الإصلاح فيه.

وعندما يدعو الناس وهم قاعدون عن العمل، وحين يسألون وهم كسالى، وحين يستنصرون وهم لا يعدون عدة النصر.. فعند ذلك لا يستجيب الله لهم ولا يعطيهم ولا ينصرهم..

لأنهم لا يستحقون النصر..

وكيف يستحقون وهم قاعدون؟!

وكيف يثبتون عليه لو منحهم الله إياه؟!

هب أن الله غير سنته – سبحانه – فأنزل عليهم النصر وهم قاعدون. أَوَ يحفظونه؟ أيدوم لهم؟ وكيف يحفظونه وهم فاسدون مفسدون، متهالكون متهاوون، لا قدرة لهم ولا عزيمة ولا دراية بأمر من الأمور؟

من أجل ذلك لا ينصرهم. (وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ) [العنكبوت:40].

طريق الله واضحة

إن طريق النصر والاسستنصار واضحة. إن الله قد اختار أن يكون الإنسان هو أداته المنفذة في الأرض، حين يستقيم إلى الله، ويهتدي إليه، ويعمل من أجله، ويحبه ويخشاه.

فمن أراد النصر، من أراد أن يدعو الله فيجيبه، ويسأله فيعطيه فليكن حيث يريده الله، وحيث يُنْزِل عليه نصره وعطاءه فينفع النصر، وينفع العطاء.

وطريق الله واضحة. والنصر والعطاء من هذا الطريق وحده. فمن أراد النصر فليسر في الطريق وليمض قدماً. فإنه ملاق وعد الله الحق. ولا يخلف الله وعده. أما إن هجر الطريق الأوحد، وراح يتسكع في كل طريق غيره، فمن أين يصيبه النصر، وهو منصرف عنه وموليه الأدبار؟

أوربا أدركت أن الطاقة البشرية هي أداة الإصلاح

ولقد وعت أوربا جانباً من سنة الله في الأرض – الجانب الذي نسيه المسلمون اليوم. ونسيت منها جانباً آخر – الجانب الذي وعاه المسلمون!

ولقد وعت أوربا أن الإنسان هو القوة الفعالة في الأرض. وأن الطاقة البشرية هي أداة الإصلاح. من أجل ذلك اتجهت همتهم لتجنيد هذه الطاقة، وتوجيهها إلى العمل المنتج في واقع الحياة.

ووصلوا في ذلك إلى درجة معجِبة من النشاط والتنظيم والدأب المنتج العجيب.

ذلك ما نسيه المسلمون اليوم وهم يتواكلون ويتقاعسون، وينتظرون وهم قاعدون.

ولكن أوربا نسيت الله!

نسيت أن تعمل في سبيله، وتعيش في سبيله، وتنتج في سبيله.

ومضت بطاقتها الإنتاجية الضخمة في سبيل الشيطان.

ومن ثم قام هذا الصراع الرهيب الذي يوشك أن يدمر وجه الأرض.

والمسلمون يعرفون الله.

ولكنهم يعرفونه في ظاهر قلوبهم ولا يحفظونه: ” احفظ الله يحفظك3[3] حديث رواه الترمذي.“.

يعرفونه ولا يأتمرون بأمره ولا ينتهون بنهيه ولا يعملون في سبيله، ويشركون به كثيراً من قوى الأرض المادية أو البشرية سواء. (وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ) وما عبدوه حق عبادته. ومن ثم فهم لا يسيرون بعد على الطريق.

وقد اقتضت سنة الله أن من يعمل ويجتهد يصل إلى شيء.. وإن كانت سنته قد اقتضت كذلك أنه يضيع هذا الشيء في النهاية ما لم يسر في الطريق الذي رسمه الله. وهو ما يوشك أن يحدث في الغرب اليوم.

ولكن من لا يعمل لا يجد على الإطلاق.. ولو كان – نظرياً – يعرف الله ويدعوه ويسأله العطاء!

والمسلمون هم المكلفون أن يهدوا البشرية الضالة إلى الطريق: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) [البقرة:143].

ولن يهدوا الناس حتى يهتدوا هم أولاً إلى الله ويسيروا على الطريق. والطريق معروف كما رسمه الله: ” إن الله يقول لكم: مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا فلا أجيب… “.

الهوامش

[1] الترغيب والترهيب. ج 4 ص 12 رقم 29.

[2] انظر ” السلبية والإيجابية ” في فصل ” خطوات متقابلة في النفس البشرية ” من كتاب ” منهج التربية الإسلامية “.

[3] حديث رواه الترمذي.

المصدر

كتاب: “من قبسات الرسول” محمد قطب رحمه الله، ص26-32 بتصرف يسير.

اقرأ أيضا

تصويبات في فهم بعض الآيات: عليكم أنفسكم

فتنة شيوع المعاصي وترك إنكارها

دعاؤك يميز شخصيتك

الفتن الناجمة عن شيوع المعاصي والفساد

عليك بخويصة نفسك

التعليقات غير متاحة