سر الصلاة وروحها ولبها هو إقبال العبد على الله بكليته، فكما أنه لا ينبغي له أن يصرف وجهه عن قبلة الله يمينًا وشمالاً، فكذلك لا ينبغي له أن يصرف قلبه عن ربه إلى غيره.
انقضاء الصلاة
ثم لما قضى صلاته أذن له أن يسأل حاجته، وشرع له أن يتوسل قبلها بالصلاة على النبي – صلى الله عليه وسلم – فإنها من أعظم الوسائل بين يدي الدعاء كما في السنن عن فضالة بن عبيد أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «إذا دعا أحدكم فليبدأ بحمد الله، والثناء عليه، وليصل على رسوله، ثم ليسل حاجته»1(1) رواه الترمذي (64 – 5/ 517) وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وأحمد في مسنده (6/ 18)..
فجاءت التحيات على ذلك، أولها حمد الله، والثناء عليه، ثم الصلاة على رسوله، ثم الدعاء آخر الصلاة، وأذن النبي – صلى الله عليه وسلم – للمصلي بعد الصلاة عليه، أن يتخير من الدعاء أعجبه إليه2(2) إشارة إلى حديث رواه عبد الله بن مسعود وقد أخرجه البخاري (1/ 212) ومسلم (1/ 302). ونظير هذا ما شرع لمن سمع المؤذن.
1 – أن يقول كما يقول3(3) إشارة إلى حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن» رواه البخاري (1/ 159)..
2 – وأن يقول: «رضيت بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد – صلى الله عليه وسلم – رسولًا»4(4) إشارة إلى حديث سعد بن أبي وقاص عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «من قال حين يسمع المؤذن أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله رضيت بالله ربًا وبمحمد رسولا وبالإسلام دينًا غفر له ذنبه» رواه مسلم (1/ 290)..
3 – وأن يسأل الله لرسوله الوسيلة، والفضيلة وأن يبعثه المقام المحمود5(5) إشارة إلى حديث جابر بن عبد الله أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدًا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته حلت له شفاعتي يوم القيامة» رواه البخاري (1/ 159)..
4 – ثم يصلي عليه6(6) إشارة إلى حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا .. إلخ» رواه مسلم كتاب الصلاة باب استحباب القول مثل ما يقول المؤذن إلخ. (1/ 288)..
5 – ثم يسأل حاجته7(7) إشارة إلى حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة رواه أحمد في مسنده» (3/ 119) وأبو داود (1/ 144) والترمذي (1/ 159). .
فهذه خمس سنن في إجابة المؤذن لا ينبغي الغفلة عنها.
الإقبال على الله
وسر الصلاة وروحها ولبها هو إقبال العبد على الله بكليته، فكما أنه لا ينبغي له أن يصرف وجهه عن قبلة الله يمينًا وشمالاً، فكذلك لا ينبغي له أن يصرف قلبه عن ربه إلى غيره.
فالكعبة التي هي بيت الله قبلة وجهه وبدنه، ورب البيت تبارك وتعالى هو قبلة قلبه وروحه، وعلى حسب إقبال العبد على الله في صلاته يكون إقبال الله عليه، وإذا أعرض أعرض الله عنه وللإقبال في الصلاة ثلاث منازل:
1 – إقبال على قلبه فيحفظه من الوساوس والخطرات المبطلة لثواب صلاته أو المنقصة له.
2 – وإقبال على الله بمراقبته حتى كأنه يراه.
3 – وإقبال على معاني كلامه وتفاصيل عبودية الصلاة ليعطيها حقها.
فباستكمال هذه المراتب الثلاث تكون إقامة الصلاة حقًا ويكون إقبال الله على عبده بحسب ذلك.
فإذا انتصب العبد قائمًا بين يديه فإقباله على قيوميته وعظمته، وإذا كبر فإقباله على كبريائه.
فإذا سبحه وأثنى عليه فإقباله على سبحات وجهه وتنزيهه عما لا يليق به والثناء عليه بأوصاف جماله.
فإذا استعاذ به فإقباله على ركنه الشديد وانتصاره لعبده ومنعه له وحفظه من عدوه.
فإذا تلا كلامه فإقباله على معرفته من كلامه، حتى كأنه يراه ويشاهده في كلامه فهو كما قال بعض السلف: «لقد تجلى الله لعباده في كلامه»8(8) قائل هذا القول: جعفر بن محمد الصادق «إحياء علوم الدين» (1/ 287). فهو في هذه الحال مقبل على ذاته وصفاته وأفعاله وأحكامه وأسمائه.
فإذا ركع فإقباله على عظمته وجلاله وعزه؛ ولهذا شرع له أن يقول: سبحان ربي العظيم.
فإذا رفع رأسه من الركوع فإقباله على حمده والثناء عليه وتمجيده وعبوديته له وتفرده بالعطاء والمنع.
فإذا سجد فإقباله على قربه والدنو منه والخضوع له والتذلل بين يديه والانكسار والتملق.
فإذا رفع رأسه وجثا على ركبتيه فإقباله على غناه وجوده وكرمه وشدة حاجته إليه وتضرعه بين يديه والانكسار أن يغفر له ويرحمه ويعافيه ويهديه ويرزقه.
فإذا جلس في التشهد فله حال آخر وإقبال آخر يشبه حال الحاج في طواف الوداع، وقد استشعر قلبه الانصراف من بين يدي ربه، إلى أشغال الدنيا وموافاة العلائق والشواغل التي قطعه عنها الوقوف بين يدي ربه، وقد ذاق قلبه التألم بها والعذاب بها قبل دخوله في الصلاة، فباشر قلبه روح القُرب ونعيم الإقبال على الله وعافبته منها وانقطاعها عنه مدة الصلاة.
ثم استشعر قلبه عودها إليه بخروجه من حمى الصلاة، فهو يحمل هَمَّ انقضاء الصلاة وفراغها ويقول ليتها اتصلت بيوم اللقاء، ويعلم أنه ينصرف من مناجاة من كل السعادة في مناجاته، إلى مناجاة من الأذى والهم والغم والنكد في مناجاته، ولا يشعر بهذا وهذا إلا قلب حي معمور بذكر الله ومحبته والأنس به.
تسليم النفس
ولما كان العبد بين أمرين من ربه عز وجل:
1 – أحدهما: حُكمٌ عليه في أحواله كلها ظاهرًا وباطنًا واقتضاؤه منه القيام بعبودية حكمه فإن لكل حكم عبودية تخصه، أعني الحكم الكوني القدري.
2 – والثاني: فعل يفعله العبد عبودية لربه، وهو موجب حكمه الديني الأمري، وكلا الأمرين يوجبان تسليم النفس إليه تعالى.
ولهذا اشتق له اسم الإسلام من التسليم، فإنه لما أسلم نفسه لحكم ربه الديني الأمري ولحكمه الكوني القدري بقيامه بعبوديته فيه لا باسترساله معه استحق اسم الإسلام فقيل له مسلم.
صورة الصلاة
ولما اطمأن قلبه بذكره وكلامه ومحبته وعبوديته، سكن إليه وقرت عينه به فنال الأمان بإيمانه، وكان قيامه بهذين الأمرين أمرًا ضروريًا له، لا حياة له، ولا فلاح ولا سعادة إلا بهما.
ولما كان ما بُلي به من النفس الأمارة والهوى المقتضى أو الطباع المطالبة، والشيطان المغوي، يقتضي منه إضاعة حظه من ذلك أو نقصانه, اقتضت رحمة العزيز الرحيم أن شرع له الصلاة مخلفة عليه ما ضاع منه رادة عليه ما ذهب، مجددة له ما أخلق من إيمانه، وجعلت صورتها على صورة أفعاله خشوعًا وخضوعًا، انقيادًا وتسليمًا وأعطى كل جارحة من الجوارح حظها من العبودية، وجعل ثمرتها وروحها إقباله على ربه فيها بكليته، وجعل ثوابها وجزاءها القرب منه ونيل كرامته في الدنيا والآخرة، وجعل منزلتها ومحلها الدخول على الله تبارك وتعالى والتزين للعرض عليه تذكيراً بالعرض الأكبر عليه يوم القيامة.
قرة العين
وكما أن الصوم ثمرته تطهير النفس، وثمرة الزكاة تطهير المال، وثمرة الحج وجوب المغفرة، وثمرة الجهاد تسليم النفس التي اشتراها سبحانه من العباد، وجعل الجنة ثمنها فالصلاة ثمرتها الإقبال على الله، وإقبال الله سبحانه على العبد، وفي الإقبال جميع ما ذكر من ثمرات الأعمال؛ ولذلك لم يقل النبي – صلى الله عليه وسلم – جعلت قرة عيني في الصوم ولا في الحج والعمرة، وإنما قال: «وجعلت قرة عيني في الصلاة» ولم يقل بالصلاة إعلامًا بأن عينه إنما تقر بدخوله فيها، كما تقر عين المحب بملابسته لمحبوبه وتقر عين الخائف بدخوله في محل أمنه، فقرة العين بالدخول في الشيء أكمل وأتم من قُرة العين به قبل الدخول.
ولما جاء إلى راحة القلب من تعبه ونصبه قال: «يا بلال أرحنا بالصلاة»9(9) هذا جزء من حديث رواه أنس وقد أخرجه النسائي (8/ 61) وأحمد في مسنده (9/ 199).؛ أي أقمها لنستريح بها من مقاساة الشواغل، كما يستريح التعبان إذا وصل إلى منزله وقر فيه وسكن.
راحة الصلاة
وتأمل كيف قال أرحنا بها ولم يقل أرحنا منها، كما يقوله المتكلف بها الذي يفعلها تكلفًا وغرمًا، فهو لما امتلأ قلبه بغيرها وجاءت قاطعة عن أشغاله ومحبوباته، وعلم أنه لا بد له منها فهو قائل بلسان حاله وقاله: نصلي ونستريح من الصلاة لا بها، فهذا لون وذاك لون آخر، فالفرق بين من كانت الصلاة لجوارحه قيدًا أو لقلبه سجنًا، ولنفسه عائقًا، وبين من كانت الصلاة لقلبه نعيمًا ولعينه قرة ولجوارحه راحة، ولنفسه بستانًا ولذة.
1 – فالأول الصلاة سجن لنفسه وتقييد لها عن التورط في مساقط الهلكات وقد ينالون بها التكفير والثواب وينالهم من الرحمة بحسب عبوديتهم لله فيها.
2 – والقسم الآخر الصلاة بستان قلوبهم، وقرة عيونهم، ولذة نفوسهم، ورياض جوارحهم فهم فيها يتقلبون في النعيم.
فصلاة هؤلاء توجب لهم القرب والمنزلة من الله ويشاركون الأولين في ثوابهم ويختصون بأعلاه وبالمنزلة والقربة وهي قدر زائد على مجرد الثواب، ولهذا يعد الملوك من أرضاهم بالأجر والتقريب كما قال السحرة لفرعون (إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ) [الأعراف: 113، 114].
1 – فالأول عبد قد دخل الدار والستر حاجب بينه وبين رب الدار فهو من وراء الستر فلذلك لم تقر عينه؛ لأنه في حجب الشهوات، وغيوم الهوى، ودخان النفس، وبخار الأماني، فالقلب عليل، والنفس مكبة على ما تهواه، طالبة لحظها العاجل.
2 – والآخر قد دخل دار الملك ورفع الستر بينه وبينه فقرت عينه واطمأنت نفسه، وخشع قلبه وجوارحه، وعَبَد الله كأنه يراه، وتجلى له في كلامه.
فهذه إشارة ما، ونبذة يسيرةٌ جدًا في ذوق الصلاة.
الهوامش
(1) رواه الترمذي (64 – 5/ 517) وقال الترمذي هذا حديث حسن صحيح وأحمد في مسنده (6/ 18).
(2) إشارة إلى حديث رواه عبد الله بن مسعود وقد أخرجه البخاري (1/ 212) ومسلم (1/ 302).
(3) إشارة إلى حديث أبي سعيد الخدري أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «إذا سمعتم النداء فقولوا مثل ما يقول المؤذن» رواه البخاري (1/ 159).
(4) إشارة إلى حديث سعد بن أبي وقاص عن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – أنه قال: «من قال حين يسمع المؤذن أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأن محمدًا عبده ورسوله رضيت بالله ربًا وبمحمد رسولا وبالإسلام دينًا غفر له ذنبه» رواه مسلم (1/ 290).
(5) إشارة إلى حديث جابر بن عبد الله أن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «من قال حين يسمع النداء اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمدًا الوسيلة والفضيلة وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته حلت له شفاعتي يوم القيامة» رواه البخاري (1/ 159).
(6) إشارة إلى حديث عبد الله بن عمرو بن العاص أنه سمع النبي – صلى الله عليه وسلم – يقول: «إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ثم صلوا علي فإنه من صلى علي صلاة صلى الله عليه بها عشرا .. إلخ» رواه مسلم كتاب الصلاة باب استحباب القول مثل ما يقول المؤذن إلخ. (1/ 288).
(7) إشارة إلى حديث أنس بن مالك قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: «الدعاء لا يرد بين الأذان والإقامة رواه أحمد في مسنده» (3/ 119) وأبو داود (1/ 144) والترمذي (1/ 159).
(8) قائل هذا القول: جعفر بن محمد الصادق «إحياء علوم الدين» (1/ 287).
(9) هذا جزء من حديث رواه أنس وقد أخرجه النسائي (8/ 61) وأحمد في مسنده (9/ 199).
المصدر
كتاب: “ذوق الصلاة عند ابن القيم – رحمه الله –” عادل بن عبد الشكور بن عباس الزرقي، ص45-53.