أولو الأمر هم أصحاب الأمر الشرعي – الذي هو أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم -، وهم العلماء يتولون بيانه، والأمراء يتولون تنفيذه.
تحرير مصطلح ولاة الأمر الواجب طاعتهم
هذا المصطلح الشرعي قد حدث في مفهومه انحراف في هذا العصر احتاج معه إلى تجلية وبيان المراد منه شرعا، لا سيما وأن الأمر اختلط على كثير من الناس..
قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) [النساء:59].
قال ابن عباس: نزلت في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي، إذ بعثه النبي صلى الله عليه وسلم في سرية(1).
وعن علي رضي الله عنه قال: بعث النبي صلى الله عليه وسلم سرية فاستعمل رجلا من الأنصار وأمرهم أن يطيعوه، فغضب، فقال: أليس أمركم النبي صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني؟ قالوا: بلى، قال : فاجمعوا لي حطبا، فجمعوا، فقال: أوقدوا نارا، فأوقدوها، فقال: ادخلوها، فهموا وجعل بعضهم يمسك بعضا، ويقولون : فررنا إلى النبي صلى الله عليه وسلم من النار، فما زالوا حتى خمدت النار، فسكن غضبه، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «لو دخلوها ما خرجوا منها إلى يوم القيامة، الطاعة في المعروف»(2).
قال ابن القيم: (فأمر تعالى بطاعته وطاعة رسوله، وأعاد الفعل إعلاما بأن طاعة الرسول تجب استقلالا من غير عرض ما أمر به على الكتاب ، بل إذا أمر وحیت طاعته مطلقا سواء كان ما أمر به في الكتاب أو لم يكن فيه، فإنه أوتي الكتاب ومثله معه، ولم يأمر بطاعة أولي الأمر استقلالا، بل حذف الفعل وجعل طاعتهم في ضمن طاعة الرسول، إيذانا بأنهم إنما يطاعون تبعاا لطاعة الرسول، فمن أمر منهم بطاعة الرسول وجبت طاعته، ومن أمر بخلاف ما جاء به الرسول فلا سمع له ولا طاعة كما صح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق»، وقال: «إنما الطاعة في المعروف»، وقال في ولاة الأمور: «من أمركم منهم بمعصية الله فلا سمع له ولا طاعة».
وقد أخبر صلى الله عليه وسلم عن الذين أرادوا دخول النار لما أمرهم أميرهم بدخولها: إنهم لو دخلوا لما خرجوا منها، مع أنهم إنما كانوا يدخلوها طاعة لأميرهم، وظنا أن ذلك واجب عليهم، ولكن لما قصروا في الاجتهاد وبادروا إلى طاعة من أمر بمعصية الله وحملوا عموم الأمر بالطاعة بما لم يُرده الآمر صلى الله عليه وسلم وما قد علم من دينه إرادة خلافه، فقصروا في الاجتهاد وأقدموا على تعذيب أنفسهم وإهلاكها من غير تثبت وتبين هل ذالك طاعة لله ورسوله أم لا، فما الظن بمن أطاع غيره في صريح مخالفة ما بعث الله به رسوله؟)(3).
من هم أولو الأمر
روى الطبري عن أبي هريرة رضي الله عنه في قوله تعالى: (وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ) قال: هم الأمراء(4) .
وفي لفظ: أمراء السرايا(5).
قال ابن زيد: قال أبي: هم السلاطين(6).
وروى ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال: يعني: أهل الفقه والدين، وأهل طاعة الله الذين يعلمون الناس معاني دينهم ويأمروهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر، فأوجب الله سبحانه طاعتهم على العباد(7).
وعن جابر بن عبد الله في هذه الآية قال: أولي الأمر(8).
وعن مجاهد قال: هم أهل الفقه والعلم(9).
وعن ابن أبي نجيح، قال: كان مجاهد يقول: أصحاب محمد. قال : ورما قال: أولي العقل والفقه ودين الله(10).
وعن الحسن وعطاء قالا: أولي الفقه والعلم(11).
وعن الحسن قال: هم العلماء(12).
وعن عطاء قال: أولو العلم والفقه. وطاعة الرسول: اتباع الكتاب والسنة(13).
وعن عطاء بن السائب قال: أولي العلم والفقه(14).
وعن ابن أبي نجيح قال: أولي الفقه في الدين والعقل(15).
ونزل في شأن النبي صلى الله عليه وسلم مع نسائه ما ذكره عمر رضي الله عنه: .. فقمت على باب المسجد، فناديت بأعلى صوتي، لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نسائه، ونزلت هذه الآية: (وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ ۖ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ) ، فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر، وأنزل الله عز وجل آية التخيير(16).
فهذا يدل على أن عمر رضي الله عنه من أولي الأمر، حتى مع وجود رسول الله صلى الله عليه وسلم.
وعن قتادة في قوله تعالى: (وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَىٰ أُولِي الْأَمْرِ) ، يقول: إلى علمائهم(17).
وقال الحارث المحاسبي: وكذلك كان التابعون من بعدهم ممن يجب علينا تقلیدهم والأخذ عنهم وهم الذين ألزم عز وجل الخلق طاعتهم والاقتداء بهم فقال جل وعز: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ)
وهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ومن بعدهم من صالحي العلماء والأخيار(18)…
ومما تقدم من أثار الصحابة والتابعين رضوان الله عليهم يظهر لنا أن جمهورهم على أن المراد بأولي الأمر: هم العلماء والدعاة إلى الله..
وعند التحقيق فلا تعارض بين من قال من السلف أنهم العلماء، ولا من قال أنهم الأمراء، فإن الأصل عند السلف أن الإمرة لا ينالها إلا من كان من أهل العلم، وخصوصا الإمارة العظمى، ولهذا قال ابن تيمية: (كما قال من قال من السلف صنفان إذا صلحوا صلح الناس: الأمراء والعلماء. وقالوا في قوله تعالى: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ) أقوالا تجمع العلماء والأمراء، ولهذا نص الإمام أحمد وغيره على دخول الصنفين في هذه الآية، إذ كل منهما تجب طاعته فيما يقوم به من طاعة الله، وكان نواب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حياته كعلي ومعاذ وأبي موسى وعتاب بن أسيد وعلمان بن أبي العاص وأمثالهم يجمعون الصفين، وكذلك خلفاؤه من بعده، کأبي بكر، وعمر، وعثمان ، وعلي، ونوابهم)(19).
وينحو ما ورد عن السلف قال الأئمة وعلماء الإسلام، فمنهم:
ابن القيم، حيث قال: (وقد اختلفت الرواية عن الإمام أحمد رحمه الله تعالى في أولي الأمر، وعنه فيهم رحمه الله تعالی روایتان:
إحداهما: أنهم العلماء، والثانية: أنهم الأمراء.
والقولان ثابتان عن الصحابة في تفسير الآية، والصحيح أنها متناولة للصنفين جميعا.)(20).
وقال ابن تيمية: (“وَأُولِي الْأَمْرِ” أصحاب الأمر وذووه، وهم الذين يأمرون الناس، وذلك يشترك فيه أهل اليد والقدرة وأهل العلم والكلام، فلهذا كان أولو الأمر صنفين: العلماء، والأمراء)(21).
وبنحو كلام ابن تيمية وابن القيم فقال ابن كثير وغيره من العلماء.(22) .
وقال أبو حيان: (والظاهر أنه كل من ولي أمر شيء ولاية صحيحة. قالوا: حتى المرأة يجب عليها طاعة زوجها، والعبد مع سيده، والولد مع والديه، واليتيم مع وصيه فيما يرضي الله وله فيه(23).
وعلق ابن عطية على قول من قال: إن أولي الأمر هم أهل العلم والفقه، فقال: فالأمر على هذا التأويل إشارة إلى القرآن والشريعة، أي: أولي هذا الأمر وهذا الشأن(24).
ويؤيد هذا المعنى الذي أشار إليه ابن عطية قوله صلى الله عليه وسلم: «من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد» (25).
قال ابن رجب: وفي بعض ألفاظه: «من أحدث في ديننا ما ليس فيه فهو رد».. والمراد بأمره هاهنا: دينه وشرعه(26)…
كما يؤيد هذا المعنى قوله تعالى: (وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ) قال مقاتل: يعني: دين الإسلام.(27).
مقصود الولايات في الإسلام
قال ابن تيمية: (جميع الولايات في الإسلام مقصودها أن يكون الدين كله لله، وأن تكون كلمة الله هي العليا، فإن الله سبحانه وتعالى إنما خلق الخلق لذلك، وبه أنزل الكتب، وبه أرسل الرسل، وعليه جاهد الرسول والمومنون)(28).
وقال الطبي: (الراعي ليس مطلوب لذاته، وإنما أقيم لحفظ ما استرعاه المالك، فعلى السلطان حفظ الرعية فيما يتعين عليه من حفظ شرائعهم.. فينبغي أن لا يتصرف في الرعية إلا بإذن الله ورسوله(29).
وقال الماوردي: الإمامة: موضوعة لخلافة النبوة في حراسة الدين وسياسية الدنيا(30).
وقال ابن تيمية: (فالمقصود الواجب بالولايات: إصلاح دين الخلق الذي متى فاتهم خسروا خسرانا مبینا ولم ينفعهم ما نعموا به في الدنيا، وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به من أمر دنياهم)(31).
وقال السعدي: (ثم أمر بطاعته وطاعة رسوله وذلك بامتثال أمرهما، الواجب والمستحب، واجتناب نهيهما، وأمر بطاعة أولي الأمر وهم: الولاة على الناس، من الأمراء والحكام والمفتين، فإنه لا يستقيم للناس أمر دينهم ودنياهم إلا بطاعتهم والانقياد لهم، طاعة لله ورغبة فيما عنده، ولكن بشرط ألا يأمروا بمعصية الله، فإن أمروا بذلك فلا طاعة لمخلوق في معصية الخالق)(32).
وقال ابن القيم: (فإن العلماء والأمراء ولاة الأمر الذي بعث الله به رسوله، فإن العلماء ولاته حفظا وبيانا وذبا عنه وردا على من ألحد فيه وزاغ عنه، وقد وكلهم الله بذلك فقال تعالى: (فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَٰؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَّيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ) ، فيالها من وكالة أوجبت طاعتهم والانتهاء إلى أمرهم وكون الناس تبعا لهم، والأمراء ولاته قياما وعناية وجهادا وإلزاما للناس به، وأخذهم على يد من خرج عنه. وهذان الصنفان هما الناس وسائر النوع الإنساني تبع لها ورعية)(33).
وقال الشنقيطي: (والتحقيق في معنى الآية الكريمة أن المراد بأولي الأمر؛ ما يشمل الأمراء والعلماء؛ لأن العلماء مبلغون عن الله وعن رسوله، والأمراء منفذون، ولا تجوز طاعة أحد منهم إلا فيما أذن الله فيه، لأن ما أمر به أولو الأمر لا يخلو من أحد أمرين:
أحدهما: أن يكون طاعة لله ولرسوله من غير نزاع، وطاعة أولي الأمر في مثل هذا من طاعة الله ورسوله.
والثاني: أن يحصل فيه نزاع، هل هو من طاعة الله ورسوله أو لا؟
وفي هذه الحالة لا تجوز الطاعة العمياء لأولي الأمر ولا التقليد الأعمى كما صرح الله تعالى بذلك في نفس الآية؛ لأنه تعالى لما قال: (أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ) ، أتبع ذلك بقوله: (فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا) ، فالآية صريحة في رد كل نزاع إلى الله ورسوله)(34) .
فمما تقدم يتبين أن أولي الأمر هم أصحاب الأمر الشرعي – الذي هو أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم -، وهم العلماء يتولون بيانه، والأمراء يتولون تنفيذه، فإن كان ولي الأمر عالما مجتهدا فهذا هو الأكمل، وإلا فعليه أن يسأل العلماء المجتهدين، لأن الغرض من الإمامة هو تنفيذ أمر الله ورسوله، ولا يتحقق إلا بذلك، قال تعالى: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ).
الضوابط الشرعية في طاعة أولي الأمر
1- قيادة الأمة بكتاب الله
عن أم الحصين رضي الله عنها أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إن أمر عليكم عبد مجدع يقودكم بكتاب الله تعالى، فاسمعوا له وأطيعوا» (35).
وفي بيان معنى القيادة بكتاب الله تعالى يقول الطبي: «يقودكم» يسوقكم بالأمر والنهي على ما هو مقتضی کتاب الله وحكمه(36).
فمفهوم الحديث أنه إذا لم يقد الأمة بكتاب الله فلا سمع له ولا طاعة، ويؤكد هذا المعنى قول علي رضي الله عنه حيث قال: “حق على الإمام أن يحكم بما أنزل الله عز وجل، وأن يؤدي الأمانة، فإذا فعل ذلك فحق على الناس أن يسمعوا له وأن يطيعوا، وأن يجيبوا إذا دعوا”(37).
وقال الإمام مالك رحمه الله: لا يكون أحد إماما أبدا إلا على هذا الشرط(38).
وفي بيان اعتبار هذا القيد في لزوم طاعة الأئمة يقول القاضي عياض: وفيه ما يلزم من طاعة الأئمة إذا كانوا متمسكين بالإسلام، والدعوة لكتاب الله كيف ما كانوا هم في أنفسهم وأنسابهم وأخلاقهم(39).
وقال ابن حزم: الإمام الواجب طاعته ما قادنا بكتاب الله تعالى وبسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أمر الكتاب باتباعها، فإن زاغ عن شيء منهما منع من ذلك(40)..
وقال الأمير الصنعاني: ولكن شرط السمع له والطاعة بقوله: «ما أقام فيكم كتاب الله»، أي: ما عمل فيكم بالقرآن(41).
٢- أن لا يأمر بمعصية
وهذا محل إجماع عند سلف الأمة وعلمائها، ومما يدل على الإجماع ما رواه ابن إسحاق بسند حسن في خطبة أبي بكر الصديق رضي الله عنه عند توليه الخلافة، وفيه: “أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عمين الله ورسوله، فلا طاعة لي عليكم”(42).
فأبو بكر الصديق رضي الله عنه قال هذا بحضرة المهاجرين والأنصار، فكان إجماعا۔
وعن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وکره، ما لم يؤمر بمعصية، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة»(43).
وعن عبد الله بن مسعود، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «سيلي أموركم بعدي رجال يطفئون السنة، ويعملون بالبدعة، ويؤخرون الصلاة عن مواقيتها» ، فقلت: يا رسول الله إن أدركتهم، كيف أفعل؟ قال: «تسألني يا ابن أم عبد کیف تفعل؟ لا طاعة لمن عصى الله»(44).
قال أبو العباسي القرطبي: الأمراء شرطهم أن يكونوا آمرين بما يقتضيه العلم، وكذلك كان أمراء رسول الله صلى الله عليه وسلم، وحينئذ تجب طاعتهم، فلو أمروا بما لا يقتضيه العلم حرمت طاعتهم(45).
وقال أيضا: فإن أمر بمعصية فلا يجوز طاعته في تلك المعصية قولا واحدا(46).
وقال ابن القيم: والتحقيق أن الأمراء إنما يطاعون إذا أمروا بمقتضى العلم، فطاعتهم تبع لطاعة العلماء فإن الطاعة إنما تكون في المعروف وما أوجبه العلم، فكما أن طاعة العلماء تبع لطاعة الرسول فطاعة الأمراء تبع لطاعة العلماء(47).
وقال ابن تيمية: وأما إلزام السلطان في مسائل النزاع بالتزام قول بلا حجة من الكتاب والسنة فهذا لا يجوز بالفالي المسلمين، ولا يفيد حکم حاکم بصحة قول دون قول في مثل ذلك إلا إذا كان معه حجة يجب الرجوع إليها، فيكون كلامه قبل الولاية وبعدها سواء، وهذا بمنزلة الكتب التي يصنفها في العلم(48).
٣- أن يأمر بما فيه مصلحة الرعية
قال ابن نجیم الحنفي: تنبيه: إذا كان فعل الإمام مبنيا على المصلحة فيما يتعلق بالأمور العامة لم يينفذ أمره شرعا إلا إذا (وافقها)، فإن (خالفها) لم ينفذ(49).
قال الزركشي: قال الماوردي أيضا: لا يجوز لأحد من أولياء الأمور أن ينصب إماما (للصلوات) فاسقا وإن صححنا الصلاة خلف الفاسق، أي، لأنها مكروهة وولي الأمر مأمور بمراعاة المصلحة ولا مصلحة في حمل الناس على فعل (المكروه)(50).
وقال الزركشي أيضا: (ولو طلبت) من لا ولي لها خاصا أن يزوجها بغير کفء، ففعل لم يصح في الأصح لأن حق الكفاءة هنا لجميع المسلمين وهو كالنائب عنهم، فلا يقدر على تفويته(51).
وقال الإمام الطبري: لا طاعة تجب لأحد فيما أمر ونهى فيما لم تقم حجة وجوبه إلا للأئمة الذين ألزم الله عباده طاعتهم فيما أمروا به رعيتهم مما هو مصلحة لعامة الرعية، فإن على من أمروه بذلك طاعتهم (52).
ومما يدل على هذا الضابط ما رواه البزار عن أبي هريرة، قال: جاء الحارث الغطفاني إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: یا محمد ناصفنا تمر المدينة، وإلا ملأناها عليك خيلا ورجالا، فقال: «حتى أستأمر السعود: سعد بن عبادة، وسعد بن معاذ» -يعني: يشاورهما-، فقالا: لا والله ما أعطينا الدنية من أنفسنا في الجاهلية، فكيف وقد جاء الله الإسلام؟!(53).
فإذا كانت مصلحة الرعية معتبرة وولي الأمر هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، فغيره من باب أولى.
4- أن يأمر بما يستطاع
جميع التكاليف الشرعية منوطة بالاستطاعة، فإذا لم تحقق سقط التكليف، قال تعالى : (فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ)، وفي حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «ما نهيتكم عنه فاجتنبوه، وما أمرتكم به فافعلوا منه ما استطعتم»(54).
وقد جاء النص على اشتراط الاستطاعة في خصوص وجوب طاعة أولي الأمر، كما جاء عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، قال: كنا إذا بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة، يقول لنا «فيما استطعتم»(55) .
وأخرج ابن حبان في صحيحه مرفوعا: «وتطيعوا لمن ولاه الله أمركم»، قال ابن حبان: لفظه عام له تخصيصان، أحدهما: أن يؤمر المرء بما له فيه رضى، والثاني إذا أمر ما استطاع دون ما لا يستطيع(56).
وفي ضابط الاستطاعة يقول شيخ الإسلام ابن تيمية:
(فالشارع لا ينظر في الاستطاعة الشرعية إلى مجرد إمكان الفعل، بل ينظر إلى لوازم ذلك، فإذا كان الفعل ممكنا مع المفسدة الراجحة لم تكن هذه استطاعة شرعية، كالذي يقدر أن يحج مع ضر يلحقه في بدنه أو ماله، أو يصلي قائما مع زيادة مرضه، أو يصوم الشهرين مع انقطاعه عن معيشته، ونحو ذلك(57).
ومما يدل على هذا الضابط ما رواه البخاري بسنده عن عمرو قال: أخبرني محمد بن علي، أن حرملة، مولى أسامة أخبره -قال عمرو: قد رأيت حرملة – قال: أرسلني أسامة إلى علي وقال: إنه سيسألك الآن فيقول: ما خلف صاحبك؟ فقل له: يقول لك: لو كنت في شدق الأسد لأحببت أن أكون معك فيه، ولكن هذا أمر لم أره(58).
فهذا علي يسأل عن أسامة رضي الله عنهما ما الذي أخره عن مساعدته في قتاله؟ واعتذر أسامة بأنه لو كان علي في شدق الأسد -يعني: الموت المحقق – لأحب أن يكون معه فيه، لكن هذا قتال للمسلمين فكره أسامة ذلك، ولم يجبره علي على القتال.
وعن أنس أن أبا بكر كتب له هذا الكتاب لما وجهه إلى البحرين: “بسم الله الرحمن الرحيم، هذه فريضة الصدقة التي فرض رسول الله صلى الله عليه وسلم على المسلمين، والتي أمر الله عز وجل بها رسوله صلى الله عليه وسلم، فمن سئلها من المسلمين على وجهها فليعطها، ومن سئل فوقها فلا يعط”(59).
ومما تقدم يتبين أن طاعة الإمام العادل كسائر الأحكام التكليفية، فهي فيما يستطاع، والله أعلم
وانظر مقال “حدود الطاعة الشرعية لولاة الأمر للدكتور عمار العيسى، في مجلة “رواء” .
الهوامش
(1) رواه البخاري (4584) ومسلم (1834)].
(2) (رواه البخاري (4340) ومسلم (1840)].
(3) [إعلام الموقعين (1/38- 39)].
(4) رواه الطبري (9856) وسند صحيح.
(5) [رواه ابن أبي شيبة (32539)، وسنده صحيح] .
(6) [رواه الطبري (9848)، وسنده صحيح].
(7) رواه ابن أبي حاتم (5534) بسند حسن.
(8) [رواه ابن أبي حاتم (5533)، وسنده حسن].
(9) [رواه عبد الرزشی (610)، وسنده صحيح)].
(10) [رواه الطبري (9874)، وسنده صحيح].
(11) [رواه سعيد بن منصور (654، 655)، وسنده صحيح].
(12) [رواه عبد الرزاق (608) والطبري (9871)، وسنده صحيح].
(13) [رواه الدارمي (225) وسنده صحيح].
(14) [رواه الطبري (9869)، وسنده صحيح].
(15) [رواه الطبري (9865)، وسنده حسن].
(16) [رواه مسلم (1479)]
(17) رواه ابن أبي حاتم (5689) بسند صحيح).
(18) المكاسب والورع له ص(38)].
(19) [مجموع الفتاوی (18/ 158)].
(20) [الرسالة التبوكية ص(41)].
(21) [لأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ص(53)] .
(22) [تفسير ابن كثير (2/345)].
(23) مصلحة البحر الخيط (3/686)] .
(24) [تفسير ابن عطية (2/71-70)].
(25) [متفق عليه].
(26) [(جامع العلوم والحكم (1/177)].
(27) [تفسير مقاتل (2/173)].
(28) [الحسبة في الإسلام ص(6)].
(29) [شرح مشكاة المصابیح (8/ 2569)].
(30) [الأحكام السلطانية ص(15)].
(31) [مجموع الفتاوی (28/262)].
(32) [تفسير السعدي ص(183)].
(33) [الرسالة التبوكية ص(41-42)].
(34) [ أضواء البيان (7/328-330[(.
(35) [أخرجه مسلم (1298). مجدع: أي مقطع الأعضاء. انظر: النهاية في غريب الحديث والأثر (1/ 247)].
(36) [شرح مشكاة المصابیح (8/2558)] .
(37) [رواه ابن أبي شيبة (34714) بسند صحيح].
(38) [الصواعق المحرقة، لابن حجر الهيثمي (1/37)].
(39) [إكمال المعلم بفوائد مسلم (4 / 375)، وبنحوه قال النووي في شرحه على مسلم (9/46)].
(40) [الفصل في الملل والأهواء والنحل (4/84)].
(41) [التحبير لإيضاح معاني التيسير (3/731)].
(42) [قال ابن كثير: وهذا إسناد صحيح، البداية والنهاية (265/5 )، سيرة ابن هشام (2/661-660)].
(43) [رواه البخاري (7144) ومسلم (1839)].
(44) [رواه ابن ماجه (2865) وصححه الألباني].
(45) [المفهم (4/38)].
(46) [المفهم (4/38)].
(47) [إعلام الموقعين (1/8)].
(48) [مجموع الفتاوی (3/240)].
(49) [الأشباه والنظائر ص(106)، ووقع في المطبوع (وافقه) و ( خالفه)، ولعل الصواب ما أثبتناه بمقتضی السياق].
(50) [المنثور في القواعد الفقهية (309/1)] .
(51) [المنثور في القواعد الفقهية (1/310)].
(52) [تفسير الطبري (7/184)].
(53) [كشف الأستار (1803) قال العمري: وقد رواه البزار بإسناد حسن من حديث أبي هريرة، وساقه الطبراني بإسناد حسن أيضا فيه محمد بن عمرو الليثي صدوق له أوهام، ومدار الروايتين عليه. السيرة الصحيحة (478)].
(54) [أخرجه البخاري (7288) ومسلم (1337) واللفظ له].
(55) [أخرجه البخاري (7202)، ومسلم (1867) واللفظ للبخاري].
(56) [رواه ابن حبان في صحيحه (4560) مرفوعا].
(57) [منهاج السنة (3/ 49)].
(58) [البخاري (7110)].
(59) [رواه البخاري (1454)، وانظر المحلی (12/285-283)].
اقرأ أيضا
مُسمَّى “وليّ الأمر” وفقهاء الاستخبارات !!
وظيفة العلماء في تثبيت الأمراء .. نموذج تاريخي
ملوك فوق الملوك .. “المسلمون والحضارة الغربية” (3) قراءة في نصح العلماء