لا يقتصر القرآن الكريم بخطاب الوجدان خطابا مؤثرا، بل يخاطب العقل ويعتمد الحجة، بل ويعلم المؤمنين احترام العقل وكيف يحاجّون المنكِر ويبيّنون الحق للخلق.
مقدمة
كما يخاطب القرآن الوجدان البشرى ليوقظه إلى حقيقة الألوهية، فإنه كذلك يخاطب العقل البشرى ليفكر ويتدبر، وينظر فى آيات الله في الكون، ليعرف دلالتها. وإليك نماذج من الأسئلة التي ترد على العقل ليتفكر ويتدبر.
هل يمكن أن يوجد هذا الكون الهائل بغير خالق..؟
هل يمكن أن يدبر شئون هذا الكون الضخم إلا إله قادر عليم حكيم..؟
هل يمكن أن يكون لهذا الإله شريك في الملك أو شريك في التدبير..؟
هل آيات القدرة المبثوثة في تضاعيف الكون تشير بأن هذا الإله يمكن أن يَعْجز عن أمر من أمور الخلق أو التدبير أو الرزق أو الإحياء أو الإماتة أو البعث أو الجزاء…؟
وتلك كلها أمور سبق للقرآن أن خاطب فيها الوجدان، ولكن القرآن يخاطب الإنسان كله؛ وجدانه وعقله. فكما عرض هذه الأمور كلها على الوجدان عرضاً مؤثراً ينتهى باقتناع الوجدان وإدراكه لحقيقة الألوهية، فكذلك يعرضها على العقل، يناقشه، ويوقظه للتفكير المنطقي السليم، الذى يؤدى في النهاية إلى الغاية ذاتها، وهى إدراك حقيقة الألوهية، ومن ثم وجوب الإيمان بالله الواحد دون شريك.
آيات الله المبثوثة في الأرض
والآيات التي تخاطب العقل وتدعوه إلى التأمل والتدبر كثيرة فى القرآن نجتزئ بذكر نماذج؛ منها: ﴿وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ * وَفِي أَنفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾ (الذاريات : 20-21).
ولو تأمل الإنسان بعقله الآيات المبثوثة في الأرض، والآيات المبثوثة في النفس لأصابه العَجَب والذهول لكل آية من هذه الآيات المعجزة، التي تنمُّ كل منها على وجود الخالق سبحانه، وعلى قدرته المعجزة التي لا تقف عند حد.
فالأرض جِرْم صغير بالنسبة للأجرام السماوية الضخمة التي يزخر بها هذا الكون، لا تعْدو أن تكون كحبة الرمل بالنسبة للصحراء الواسعة التي لا يأتي البصر على آخرها. ومع ذلك ففيها ـ على ضآلتها ـ من آيات الله المعجزة ما يعجز الخيال عن تتبعه فضلاً عن إحصائه، وفيها من الخصائص التي أودعها الله بها ما تذهل له العقول.
فقد هيأها الله ـ وحْدها فيما نعلم حتى اليوم من الأجرام الأخرى ـ بخاصية “الحياة“، وجعل لها من الظروف ما يجعل الحياة عليها ممكنة الوجود والاستمرار. فكتلتها محسوبة بحساب رباني دقيق يجعل جاذبيتها تحتفظ حولها بغلاف جوى لا يتبدد، وفى هذا الغلاف يوجد الأكسجين المطلوب لتنفس الكائنات الحية، وبالقدْر المطلوب لتنفس هذه الكائنات بلا زيادة فيه ولا نقصان؛ لأن الزيادة والنقصان كلتاهما ضارة بهذه الأحياء..! وحرارتها محسوبة بذلك الحساب الرباني الدقيق، بالصورة التي تحتملها الكائنات الحية فلا تموت من شِدّتها ولا من ضعفها..! والأقوات فيها محسوبة بحيث تفي بحاجة تلك الكائنات من الغذاء مع توازن دقيق بين هذه الكائنات وبين أقواتها: ﴿وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ﴾ (الحجر:19) ﴿وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا﴾ (فصلت:10).
وهكذا لو مضينا نتتبع آيات الله في الأرض: في الكبيرة والصغيرة، لوجدنا عجائب لا تنتهى. ﴿وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَىٰ بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَىٰ بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ (الرعد: 4).
فالأرض فيها قطع متجاورات تختلف بِنية كل منها عن الأخرى رغم تجاورها. بعضها ينبت الزرع وبعضها لا ينبته، وبعضها يصلح لأنواع معينة من الزرع دون غيرها؛ وتلك وحدها عجيبة.
ثم إن الأرض الواحدة تُنبت أنواعاً شتى من الزروع والنخيل والأعناب.. كلها يسقى بماء واحد، ولكن بعضها يختلف عن بعض. حتى النوع الواحد كالنخيل تخرج منه النخلة المفردة والنخلة المزدوجة؛ وتلك عجيبة أخرى.
ثم إن هذه الزروع مختلفة الطعوم والمذاقات، يفضل الناس في طعامهم بعضاً منها على بعض؛ وتلك عجيبة ثالثة .
ثم إن الطعم الواحد قد يفضله إنسان ولا يفضله إنسان آخر حسب ذوقه الخاص المركب في طبعه؛ وتلك عجيبة رابعة..
وصدق الله العظيم: ﴿إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾.
آيات الله في النفْس
أما الآيات في الأنفس فإنها أعجب..! فالخلية الواحدة الملَقَّحة التي يتكون منها الجنين تشتمل على كل خصائص الجنس البشرى وهى لا تكاد تُرى! فينمو منها إنسان كامل فيه كل خصائص الإنسان..!
ثم إنها تنقسم وتتخصص في أثناء نمو الجنين، فيصبح جزء منها رأساً، وجزء آخر يداً، وجزء ثالث قدماً.. وهكذا .
ثم إنها تحتوى كذلك على جزئيات تحمل الخصائص الوراثية التي يرثها الجنين من الأب والأم أو الأجداد. فقد يحمل الجنين صفة من الأب كلون الشعر مثلاً، وصفة من الأم كلون العينين، وصفة من أحد الجدود كالطول أو القصر أو شكل الأنف أو شكل الأذن؛ بل الأعجب من ذلك وراثة الصفات النفسية والعقلية كالكرم أو البخل، والشجاعة أو الجبن، والذكاء أو الغباء، والميل إلى العلوم أو الميل إلى الآداب..!
وهذه الصفات العقلية ذاتها.. ما هي؟ كيف توجد؟ وأين توجد؟ كيف يفكر العقل؟ كيف يتذكر الإنسان ما يتذكر؟
إن كل أبحاث العلم حتى هذه اللحظة قد عجزت عن أن تقول لنا كيف يفكر العقل وكيف يتذكر! وأين تكون الأفكار وأين تختزن المعلومات وكيف يستدعيها الإنسان حين يريد استدعاءها، وكيف تخطر على باله أحياناً بغير استدعاء..!
والصفات النفسية كذلك.. ما هي؟ كيف توجد؟ وأين توجد؟ كيف تتكون في النفس صفة الكرم أو البخل أو الشجاعة أو الجبن؟ وفى أي مكان تكمن هذه الصفة في الإنسان؟ في جسمه؟ أين؟ في مُخه؟ أين؟ هل هي شيء معنوي أم مادى؟ وفى كلا الحالين كيف تؤثر في تصرفات الإنسان وسلوكه..؟
وأعجب من ذلك؛ كيف تورَث..؟!
فالحق الظاهر أن هذا الكون متناسق إلى أبعد ما يتصور العقل من التناسق: ﴿مَّا تَرَىٰ فِي خَلْقِ الرَّحْمَٰنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ * ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ﴾ (الملك : 3ـ4).
فدورة الفَلَك المضبوطة التي لا تختل قيد شعرة في هذا الكون العريض كله، ودورة الليل والنهار الناشئة من حركة الأفلاك، والتي تأتى في موعدها المضبوط بالدقيقة والثانية وأجزاء الثانية على مدار الفصول وعلى مدار القرون والأجيال..
وخواص المادة التي أودعها الله فيها لا تخطئ مرة واحدة على مَرِّ الزمن ولا تختلف مَرة عن مَرة.
والذرَّة التي هي أبسط التكوينات التي أمكن للعلم حتى اليوم أن يكشف عنها في نظامها الدقيق.
والخلية الحية وسلوكها العجيب في غذائها وإفرازها ونموها وتكاثرها .. والكائنات الحية وخصائصها التي تميز كل جنس منها عن الآخر، وتميز كل نوع من أنواع الجنس عن الآخر..
ثم الإنسان أعقد الكائنات الحية وأرفعها، وكل جزء في تكوينه عجيبة في تناسقه وأداء وظيفته.
التناسق ينفي التعدد
هل يمكن مع ذلك كله أن يكون في السماوات والأرض إلا إله واحد مسيطر مدبر حكيم هو الله سبحانه وتعالى؟ ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾.
أليس كل إله يخلق بمفرده كيف يشاء..؟ فكيف يتطابق الخلق الصادر عن واحد من الآلهة مع الخلق الصادر عن إله غيره..؟ كيف تكون الشجرة التي يخلقها واحد من الآلهة متطابقة تماماً في كل أحوالها مع الشجرة التي يخلقها إله آخر..؟ كيف يكون الماء الذى يخلقه أحد الآلهة هو الماء نفسه الذى يخلقه الإله الآخر من ذرة من الأكسجين وذرتين من الأيدروجين..؟
كيف تنتظم دورة الفلك التي ينشئها إلاهان مختلفان، ويشرف على شئونها أكثر من إله..؟
هل يمكن أن تنتظم إذا تعددت الإرادة التي تهيمن عليها والسلطان الذى يسيرها..؟
ألا يحدث أن واحداً من الآلهة يريد الشمس أن تشرق من المشرق وآخر يريدها أن تشرق من المغرب! فكيف يصير الأمر..؟
ألا يحدث أن واحداً من الآلهة يريد للإنسان أن يستوى على قدميه ويسعى في الأرض يبتغى الرزق ويعمر الأرض، وآخر يريد له أن يمشى على أربع كالحيوان، أو يبقى لاصقاً بالطين على ساق واحدة كالنبات؟ فكيف يصير الأمر..؟
هل ينضبط شيء حينئذ في الكون كله؟ وهل يستقيم الأمر؟ أم يصبح الكون فوضى، تتصادم فيه الأفلاك وتتعارض، وتتصادم فيه الإرادات المشرفة عليه وتتعارض، ويصبح كالعقد المنفرط لا يجمعه نظام..؟
من أجل ذلك يخاطب القرآن العقل فيقول له: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾..!
ثم يخاطبه مرة أخرى متحدياً بعد هذا البيان: ﴿أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ﴾..!
نعم! فليبحث العقل عن برهان..! إن الأمر ليس فوضى، يقول فيه القائل بهواه..! بل لابد لكل قول من برهان. فهاتوا برهانكم! هل تستطيعون أن تبرهنوا ـ والكون بهذا الاتساق المعجز ـ أن هناك إرادة أخرى تسيطر على الكون غير إرادة الله..؟
فإن عجز العقل عن البرهان ـ وهو لا محالة عاجز ـ ليتدبر أمره وليؤمن بالله الواحد الذى لا شريك له في الملك ولا في السلطان. ﴿مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَٰهٍ ۚ إِذًا لَّذَهَبَ كُلُّ إِلَٰهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَىٰ بَعْضٍ ۚ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ (المؤمنون : 91).
احترام العقل البشري والعطف عليه
في مثل المناقشة العقلية التي ذكرناها في الفقرة السابقة، يجرى السياق هنا مناقشة مع العقل البشرى، يقدم لها بمجموعة من الآيات يلفت فيها العقل إلى بعض الحقائق المُسَلَّمة التي لا يجادل فيها أحد، أو ينبغي ألا يجادل فيها:
﴿قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ * بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ﴾ (المؤمنون : 84-91).
فإذا سَلَّم الإنسان ابتداء بأن الأرض ومن فيها من صنع الله وإنشائه وهو مالكها، وإذا سَلَّم بأن السموات السبع هى لله، هو منشئها وهو ربها ورب العرش العظيم، وإذا سَلَّم بأن ملكوت كل شيء لله، هو المدبر فيه وحده، وهو الذى يجير بقوّته ولا يجار عليه؛ لأنه صاحب العظمة والسلطان.. بدَهيات لا يملك عقل أن ينكرها، وإلا جابَهَ هذا السؤال الوارد فى سورة الطور: ﴿أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ﴾ (الطور:35). وهو سؤال مسكت ملجم يتحدى كل منكر.
إذا سَّلّم الإنسان بكل هذا فقد لزمه ـ منطقياً ـ أن يسلّم بالنتيجة التي تؤدى إليها هذه المقدمات، وهى أنه إله واحد لا شريك له ولا يمكن أن يكون له شريك. لذلك يكرر السياق التذكير بعد كل مقدمة من المقدمات: ﴿أَفَلَا تَذَكَّرُونَ﴾؟ ﴿أَفَلَا تَتَّقُونَ﴾؟ ﴿فَأَنَّىٰ تُسْحَرُونَ﴾..؟!
خاتمة
وإذا سَلّم الإنسان بهذا واحترم عقله، لا بد أن يندفع في الطريق التي توجبه هذه الأدلة، وهو الاستسلام لله تعالى وحده وإصلاح الحياة ورسمها وتنظيمها على وفق منهجه، مع توجه الشعور والتعبد لله تعالى بلا شريك، وصدّق خبره وبتغي الدار الآخرة.
إنه ليس إقناعا للمتعة الذهنية بل لتحديد الطريق الجاد الذي يجب أن نسلكه في هذه الحياة.
………………………..
المصدر:
- كتاب ركائز الإيمان، ص35-42.