في عصر اختلطت فيه المفاهيم، وتعددت أنواع الفتن وكثرت حتى صارت سمة للعصر بتطور وسائل اتصاله لتقتحم على الناس بيوتهم الخاصة، يصير هذا الخلق ضرورة عصرية فوق ما هو ضرورية دينية، وهو من الأخلاق التي يجب أن تكون سمة للمسلم في كل حالاته.
العفة في الإسلام
والعِفَّةُ لغة: الكفُّ عمَّا لا يحِلُّ ويجمُلُ، والاستعفافُ: طَلَبُ العفافِ1(1) لسان العرب لابن منظور (8/ 253)..
واصطلاحاً: هيئةٌ للقوَّةِ الشَّهويَّةِ متوسِّطةٌ بين الفجورِ الذي هو إفراطُ هذه القوَّةِ، والخمودِ الذي هو تفريطُها، فالعفيفُ من يباشرُ الأمورَ على وَفقِ الشَّرعِ والمروءةِ2(2) التعريفات للجرجاني، ص 151..
أولاً: العفة في القرآن والسُّنة
أولى القرآن اهتماماً كبيراً بمسألة العفة؛ وذلك لأهميتها كخلق أساسي من الأخلاق التي ينبني عليها المجتمع العفيف الكريم، قال تعالى: (وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا) (النور: 31)، وقال سُبحانه: (وَلْيَسْتَعْفِفِ) (النور: 33)، وقال سُبحانَه: (وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ ۖ وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ ۗ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) (النور: 60)، وقال سُبحانَه: (لِلْفُقَرَاء الَّذِينَ أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاء مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ لاَ يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافاً وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللّهَ بِهِ عَلِيمٌ) (البقرة: 273).
وكما اهتم القرآن بمسألة التعفف في مواضع كثيرة، كذلك اهتمت السُّنة النبوية الشريفة بالعفة، فجاء ذكرها في أكثر من موضع، فعن أبي هُريرةَ أنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «ثلاثةٌ حقٌّ على اللهِ عونُهم: المجاهِدُ في سبيلِ اللهِ، والمكاتَبُ الذي يريدُ الأداءَ، والنَّاكِحُ الذي يريدُ العفافَ» (أخرجه الترمذي).
وعن أبي سعيد الخدري أنه قال: إنَّ ناسًا من الأنصارِ سألوا رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأعطاهم، ثمَّ سألوه فأعطاهم، حتَّى إذا نفِدَ ما عنده قال: «ما يكُنْ عندي من خيرٍ فلن أدَّخِرَه عنكم، ومن يستعفِفْ يُعِفَّه اللهُ، ومن يستغْنِ يُغنِه اللهُ، ومن يصبِرْ يُصبِّرْه اللهُ، وما أعطيَ أحدٌ من عطاءٍ خيرٍ وأوسَعَ من الصَّبرِ» (رواه البخاري).
ثانياً: أهمية العفة للفرد والمجتمع
– المجتمع العفيف مجتمع خال من ارتكاب الفواحش والكبائر وآمن على أعراضه عفة وحياءً من الله.
– العفة تحمي صاحبها من حر يوم القيامة؛ لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: «سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله..» وذكر منهم: «ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال: إني أخاف الله» (رواه البخاري).
– العفة تنجي صاحبها من الوقوع في البلاء والضيق، كما ورد في حديث الصخرة التي دعا أحد الثلاثة فيها بعفته في اللحظات الأخيرة قبل ارتكابه الفاحشة فقال: «اللَّهُمَّ إن كنتَ تعلَمُ أنَّه كان لي ابنةُ عَمٍّ من أحبِّ النَّاسِ إليَّ، وأنِّي راودتُها عن نفسِها فأبَت إلَّا أن آتيَها بمائةِ دينارٍ؛ فطلَبْتُها حتَّى قدَرْتُ، فأتيتُها بها فدفَعْتُها إليها، فأمكنَتْني من نفسِها، فلمَّا قعدْتُ بينَ رِجلَيها فقالت: اتَّقِ اللهَ، ولا تَفُضَّ الخاتَمَ إلَّا بحَقِّه، فقُمتُ وتركتُ المائةَ دينارٍ، فإن كنتَ تعلَمُ أنِّي فعلتُ ذلك من خَشيتِك ففَرِّجْ عنَّا؛ ففرَّج اللهُ عنهم فخَرَجوا» (رواه البخاري).
– ومن بركة العفة على الفرد إعانة الله عز وجل له في زواجه إن أراد به عفة نفسه.
– حماية المجتمع من الوقوع في الآثار الناجمة عن ارتكاب الفواحش.
ثالثاً: أقسام العفة
تنقسم لنوعين:
1- العفة عن المحرمات؛ كالنظر إلى ما لا يحل، والغيبة والنميمة وأكل أموال الناس بالباطل.
2- العفة عن المباحات، كالعفة عن السؤال وتعفف كبار السن عن التخفف من الحجاب.
رابعاً: شروط العفة
للعفة شروط كي يدخل صاحبها في بركتها وثوابها، ذكرها الأصفهاني في كتابه «الذريعة»3(3) الذريعة إلى مكارم الشريعة، ص 319.:
1- ألا يكون المتعفف بسبب إرادته الحصول على ما هو أكبر.
2- ألا يكون المتعفف قد ترك الشيء لأنه لا يستطيعه، أو لا يوافق هواه؛ كمن يرغب عن النظرة لضعف عينيه.
3- ألا يكون المتعفف خائفاً من الرقابة، كمن لا يمد يده لأن هناك من يعرفه في المكان.
خامساً: أنواع العفة
1- التعفف عما في أيدي الناس ويترك مسألتهم، فعن ثوبان قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من تكفَّل لي ألَّا يسألَ النَّاسَ شيئًا وأتكَفَّلُ له بالجنَّةِ» (رواه أبو داوود صحيح إسناده).
2- التعفف عن المأكل والشراب الحرام وتحري الحلال فيهما.
3- التعفف عن أعراض الناس والخوض في لغو الكلام.
4- التعفف عن إرسال البصر عن النظر للحرام فيغض طرفه دوماً.
5- يعف يده عن الامتداد لما يملكه الغير.
6- عفة السمع للغناء والمعازف المحرمة.
7- عفة الجسد بستر عوراته.
سادساً: الوسائل المعينة على العفة
والإنسان وحده لا يقدر على العفة إن لم يستعن بالله ويستحضر معيته ورقابته، وهناك وسائل وضعها الشرع سداً للذرائع وعدم الاقتراب من المحرمات كي لا يقع فيها، ومنها:
– تجديد الإيمان بالله عز وجل واتباع أوامره.
– تقوى الله سراً وعلانية.
– الدعاء، فالمرء ضعيف بمفرده قوي بالله.
– الاهتمام بغرس قيم العفة والرقابة في الأبناء منذ الصغر لتصير الرقابة خلقاً ملازماً لهم.
– الزواج لمن استطاع، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: «يا مَعشَرَ الشَّبابِ، من استطاع منكم الباءةَ فليتزوَّجْ فإنَّه أغضُّ للبصَرِ، وأحصَنُ للفَرجِ، ومن لم يستطِعْ فعليه بالصَّومِ؛ فإنَّه له وِجاءٌ» (رواه البخاري).
– تجنب الخلوة بالأجانب لأنها مظنة الفتنة.
– التفريق بين الأبناء في المضاجع، لأمر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: «مُروا أولادَكم بالصَّلاةِ وهم أبناءُ سبعِ سنينَ، واضربوهم عليها وهم أبناءُ عَشرٍ، وفَرِّقوا بينهم في المضاجِعِ» (رواه أبو داود وأحمد).
سابعاً: نماذج من عفة النبي صلى الله عليه وسلم
كان النبي صلى الله عليه وسلم أعف الناس على الأرض، وقد بلغ من مكارم الأخلاق أعلاها ووصفه رب العزة قائلاً: (وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ) (القلم: 4)، وحين وصفته السيدة عائشة رضي الله عنها قالت: «كان خلقه القرآن» (صححه الألباني)، ولذلك كان التأسي به واجباً على كل مسلم، فعن أبي هريرة أنه قال: أخذ الحَسَنُ بنُ على تمرةً من تمرِ الصَّدَقةِ فجعَلَها في فيه، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: «كِخْ كِخْ، ارْمِ بها، أمَا عَلِمتَ أنَّا لا نأكُلُ الصَّدَقةَ» (رواه البخاري)، وعنه أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إني لأنقلِبُ إلى أهلي فأجِدُ التَّمرةَ ساقطةً على فِراشي، ثمَّ أرفعُها لآكُلَها، ثمَّ أخشى أن تكونَ صَدَقةً فأُلقيها» (رواه البخاري).
ثامناً: دروس من عفة يوسف عليه السلام
النبي صلى الله عليه وسلم الذي ضرب به المثل في العفة، وكيف لا وهو شاب اجتمعت عليه كل أسباب الانحراف فلم يستجب لواحدة منها، ولم يدخل قلبه ضعف للحظة، ولم يفكر في الاقتراب من النار التي قد تبدو نوراً في بدايتها، فهو شاب، قوي، غريب عن دياره، بعيداً عن أهله ومعارفه ومن يمكن أن يلقي عليه لوماً، مملوكاً بين يدي امرأة جميلة شغفت به حباً وقد لا يستطيع مقاومتها أو رفض طلبها خوفاً من نفوذها ومكانتها وهي الطالبة وليس هو الطالب لها.
غلقت الأبواب وهيأت نفسها له فلا خشية من رقيب، ضغوط وفتن شديدة كلها دافعة للسقوط من امرأة تصر على النيل منه واعترفت بجرأة لنظيراتها من النساء فقالت: (وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ) (يوسف: 32).
غير أن يوسف الصديق لم يفكر في الاقتراب منها، ولم يستجب لإغوائها، بل دعا ربه: (رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ) (يوسف: 33).
لقد أثبت يوسف الشاب أن العفة ليست مستحيلة مهما كان الوسط الذي يعيشه الشاب المسلم، ومهما اجتمعت عليه أسبابها، فعليه أن يغلق كافة تلك الأبواب سداً للذرائع وانصرافاً عن الشبهات من وسائل إعلام ومسلسلات وأفلام تدعو للتكشف وارتكاب الرذيلة ومد البصر وتصرف شباب الأمة عن الاهتمام بواقعها وانتشالها من محنتها، لقد آن الأوان للتحلي بمكارم الأخلاق جملة، خاصة في تلك الأيام والليالي المباركة قبل أن ترحل وتترك لنا الندم والحسرة، فاجتهد يا كل يوسف في هذا الزمان4(4) مرجع هذا المقال موسوعة الأخلاق، 9، خلق العفة..
الهوامش
(1) لسان العرب لابن منظور (8/ 253).
(2) التعريفات للجرجاني، ص 151.
(3) الذريعة إلى مكارم الشريعة، ص 319.
(4) مرجع هذا المقال موسوعة الأخلاق، 9، خلق العفة.
المصدر
موقع المجتمع، بقلم محرر الإسلام والحياة.