إن المسألة ليست مسألة وطنية قومية قد تحل بمجهود الفلسطينيين وحدهم، فقناعتي أن بيت المقدس لن يتحرر إلا بعد تحرر القاهرة ودمشق وكل ما يفعله الفلسطينيون وأهل غزة من بسالة ومن معجزات إنما هو تأجيل للمعركة وتمديد للمعركة.
ست مراحل في تاريخ بيت المقدس
- مرحلة الفتح، فتح عمر رضي الله عنه.
- مرحلة الضياع الأولى التي كانت في الحملة الصليبية الأولى.
- مرحلة التحرير الأول الذي كان في عهد صلاح الدين الأيوبي.
- مرحلة الضياع الثاني في عهد أولاد أخ صلاح الدين الأيوبي (حصل ضياع مرتين لبيت المقدس لكن لأن الفترة قصيرة بينهما هذا الضياع غير مشهور) .
- مرحلة التحرير الثاني الذي كان بقيادة رجل نعرف زوجته أكثر مما نعرفه هو بقيادة نجم الدين أيوب وهو المحرر الثاني لبيت المقدس.
- مرحلة الضياع الأخير التي كانت في عصر الاحتلال الإنجليزي سنة 1917م.
إذا استعرضنا هذه المراحل سنجد قاعدة لا تكاد تتخلف:
وهي أن بيت المقدس لايمكن تحريره والوصول إليه إلا بالسيطرة على العواصم القوية المهيمنة والتي تمثل المدخل الى بيت المقدس ، فبيت المقدس بمثابة النتيجة والثمرة النهائية.
هل دمشق أقدس من القدس؟!
بالعودة الى الوراء وتحديدا في عصر الخليفة الراشد الفاروق عمر رضي الله عنه نجد أن الصحابة ولوا وجوهم شطر الشام قبل فتح بيت المقدس في ربيع الآخر من سنة 16 من الهجرة فهل دمشق أقدس من القدس؟!
فتحت دمشق التي كانت عاصمة الشام سنة 14 للهجرة، قبل فتح بيت المقدس تقريبا بعامين بالضبط قبلها بـ 22 شهرا، والسؤال هنا: لماذا ذهب الصحابة الى فتح دمشق قبل أن يذهبوا الى فتح بيت المقدس؟
الآن لو تخيلنا أننا في جيش الصحابة ورأينا الصحابة ذاهبين إلى دمشق وخرج رجل يسأل كيف تقصدون الى دمشق وتتركون مسرى رسول الله وملتقى الأرض بالسماء أولى القبلتين هل هانت عليكم بيت المقدس لكي تتركوها في يد الصليبيين وتذهبون الى دمشق، أليس هذا ما كان يمكن أن نفعله.
أضرب لكم مثلا أشد منه معاصرا
الآن لو خيرتم بين تحرير بيت المقدس وتحرير دمشق أو تحرير القاهرة من منكم سيتصور أن دمشق أو القاهرة محتلة الجميع سيقصد بيت المقدس.
الصحابة كان عندهم من الإعداد الذي يقل ذكره: إعدادهم الفكري الاستراتيجي الحربي، جميعكم سمعتم عن الإعداد الإيماني وهو حق ولكن كثير من الناس يجهل العبقرية العسكرية التي كانت عند خالد بن الوليد والتي كانت عند المثنى بن حارثة الشيباني والتي كانت عند القعقاع بن عمرو التميمي والتي كانت عند سعد بن أبي وقاص، مع أنك لو قرأت في كتب التاريخ الحربي للفتوحات الإسلامية ستجد إعدادا لا يمكن أن يقل في باب الاستراتيجية العسكرية عن الإعداد الإيماني .
هذا الإعداد الاستراتيجي هو الذي ذهب بالصحابة الى فتح دمشق قبل فتح بيت المقدس بسنتين، هل يعني ذلك أن الصحابة رضوا بأن يبقى بيت المقدس تحت الاحتلال الصليبي مدنس عامين وذهبوا الى فتح دمشق لماذا؟
والجواب هنا لأنهم يعرفون أن العاصمة السياسية أهم من العاصمة الدينية، الاستيلاء على العاصمة السياسية هو الذي يفتح الطريق الى العاصمة الدينية، فتح دمشق هو الذي يفتح بيت المقدس بينما فتح بيت المقدس لا يمكن الحفاظ عليه إذا لم تفتح دمشق، لذلك الوعي السياسي -التفكير السياسي الاستراتيجي- كان يقضي أن دمشق أهم حتى وإن كنا نؤمن بأن بيت المقدس أقدس وأفضل وأكثر بركة عند الله تبارك وتعالى فيجب أن يكون هذا واضحا لنا نحن بشكل أخص لأننا مسؤولون عن تحرير بيت المقدس الآن، أو على الأقل مسؤولون عن توريث هذا الفكر السياسي لمن سيفتحون بيت المقدس، الصحابة بدأوا بدمشق ولما فتحت دمشق فتحت بعدها بيت المقدس بسهولة واستطاع الخليفة عمر الخروج من المدينة الى بيت المقدس على جمل ومعه حارس واحد أو مرافق واحد، هل كان يستطيع أن يفعلها لو فتحنا بيت المقدس أولا؟ لا الوضع السياسي لا يسمح الطريق غير آمن تماماً إذا هذه المرحلة الأولى.
كيف تحققت هذه القاعدة في الضياع الأول؟
طالما كانت العواصم القوية محيطة ببيت المقدس فبيت المقدس في آمان، فإذا كانت الخلافة الراشدة دولة قوية فالمدينة المنورة وبيت المقدس في آمان، الخلافة الأموية كان مقرها دمشق طبعا الخلافة الاموية العظيمة كانت تفتح الصين وتفتح فرنسا من يقدر أن يقترب من بيت المقدس؟
متى وقع الضياع الأول لبيت المقدس؟
حين وقعت القسمة بين أقوى عاصمتين محيطين ببيت المقدس، صارت الأمة منقسمة بين خلافة سنية موجودة في العراق هي الخلافة العباسية وكانت تحت هيمنة الدولة السلجوقية السنية وبين الدولة العبيدية المعروفة بالفاطميين، هنا وقعت القسمة انفصلت مصر عن الشام انفصلت القاهرة عن دمشق عند هذه اللحظة احتل بيت المقدس.
السلاجقه كانوا في الشام أيضا فيهم انقسامات داخلية ومن قرأ تاريخ الحملة الصليبية سيعرف أنه كان يمكن أن ترد على أعقابها لو أوتي المسلمون ببعض الوحدة والاتحاد وببعض الوفاء ونسيان المعارك الشخصية، لكن الفاطميون العبيديون تحالفوا مع الفرنجة ضد السلاجقة وكانت بيت المقدس في حوزتهم لأنهم رأوا في الصليبيين حلفاء لهم على السلاجقة السنة أعدائهم فلذلك احتلوا شمال الشام وبعد أن احتلوه غدروا بالفاطميين واحتلوا منهم بيت المقدس.
إذن متى ضاعت بيت المقدس؟ حينما انقسمت العاصمتين القويتان المحيطان ببيت المقدس القاهرة ودمشق هذا هو الضياع الأول.
متى تحررت بيت المقدس التحرر الأول؟
حينما جاء صلاح الدين الأيوبي وقبله نور الدين زنكي بفترة قصيرة ووحد مصر والشام وعادت الألفة بين القاهرة ودمشق، صلاح الدين قضى 20 عاما عقدين من الزمن في توحيد مصر والشام، بعدما تحققت هذه الوحدة احتاج الأمر ثلاثة سنوات فقط لتحرير بيت المقدس!
ونحن في زماننا هذا لو أن مصر فيها نظام حكم إسلامي ودمشق فيها نظام حكم إسلامي عمان فيها نظام حكم إسلامي هل كانت اسرائيل ستظل مغتصبة لبيت المقدس؟
كيف إذا أضيف الى مجهود غزة مجهود الشعوب الإسلامية في مصر وفي الأردن وفي سوريا وفي لبنان ومن ورائهم من يمدهم في الجزيرة العربية وفي الشمال الإفريقي وفي العراق ومن ورائهم إمدادات من المسلمين حتى ماليزيا وحتى المغرب الأقصى ربما ضرورات السياسة تجعل كثيرا من المتحدثين في الإعلام أو المتحدثين في القضية الفلسطينية لا يشيرون الى هذا لكن لا ينبغي لمن آتاه الله بعض الحرية أن يغفلوا عن أصل الداء، أصل الداء ليس في بيت المقدس.
أنتم ترون كيف أن غزة بمساحتها المحدودة بإمكانياتها الصغيرة أوقفت المارد الإسرائيلي كيف يمكن أن تتصور لو كانت غزة قد أضيف إليها مصر والاردن والشام..
إذن التحرر الأول حدث حين أعيدت الوحدة بين مصر والشام وكان الحكم في العاصمتين الكبيرتين القويتين المحيطتين ببيت المقدس حكم واحد.
متى ضاع بيت المقدس الضياع الثاني؟
لما وقعت القسمة مرة أخرى بين مصر والشام بعد صلاح الدين، لما توفي صلاح الدين
جاء بعده أخوه الملك العادل سيف الدين ابن أيوب هذا الملك العادل أنجب ثلاثة أولاد
ورثوا منه الدولة الأيوبية، ولد اسمه محمد حكم مصر لقب بالكامل، ولد اسمه عيسى حكم الشام لقب بالمعظم، وثالث في الجزيرة الفراتية الأشرف موسى.
الحملة الصليبية الخامسة حين جاءت وقع انقسام بين قادة الحملة الصليبية، قالوا: نقصد بيت المقدس فننتزعه مرة أخرى أم نقصد الى القاهرة فنحتلها. وهنا يأتي السؤال :
هل القاهرة أقدس عند النصارى أم بيت المقدس؟
قالوا الملك الناصر صلاح الدين الأيوبي ما استطاع أن ينتزع منا بيت المقدس إلا بأموال مصر ورجالها بالمنطق الاستراتيجي العسكري السيطرة على القاهرة تسمح بالسيطرة على بيت المقدس، لكن لما سيطرنا على بيت المقدس دون القاهرة صرنا بين فكي الكماشة، وبالفعل جاؤوا وهاجموا مصر.
الملك الكامل الأيوبي عرض عليهم أن يعطيهم بيت المقدس وكل المدن التي حررها صلاح الدين ما عدا الكرك والشوبك وأن يرجعوا عن مصر.
هذا تفكير استراتيجي حتى الخائن – الملك الكامل الأيوبي – عنده أيضا تفكير استراتيجي أنه يستطيع أن يمسك بخناق الصليبيين طالما أنه مستند الى الأموال والثروات والرجال في مصر.
رفض الصليبيون العرض – تسليم بيت المقدس بلا حرب – رفضوا لأنهم يريدون أن يحتلوا القاهرة فاضطر أن يقاوم فانتصر بمعونة أخواه، وكان كما يقول ابن واصل المؤرخ: كان يستطيع أن يبيد هذه الحملة لولا ما فيه من الخور والجبن والخيانة فتركهم يرحلون بعد أن هزموا في دمياط .
بيت المقدس في ظل الخلافة العثمانية
لما جاء العثمانيون كانت مصر والشام دولة واحدة فلذلك كان بيت المقدس في أمان ستة قرون لم يجرؤ أحد على أن يقترب من بيت المقدس، لما وقعت القسمة بين مصر والشام واستطاع الانجليز أن يحتلوا مصر ويسلخها من جسد الدولة العثمانية هنالك استطاع الانجليز أن يحتلوا بيت المقدس واحتلوها بالمجهود المصري.
استطاع المحتل أن يجند أبنائنا في حروبه فهناك كتيبة مصرية دخلت مع الجيش الانجليزي الى بيت المقدس لأن المحتل استطاع تجنيدها، فرنسا احتلت الشام بكتائب من المغاربة، المغاربة في الجزائر وفي المغرب وفي تونس، البريطانيون الانجليز لما أرادوا أن يعتقلوا الشيخ أمين الحسيني جاؤوا بكتيبة هندية مسلمة لكي تقتحم هي المسجد لكي لا يكون الانجليز هم الذين اقتحموا المسجد الأقصى فجاءوا بكتيبة هندية مسلمة فلما وقعت القسمة بين دمشق والقاهرة بين مصر والشام ضاع بيت المقدس.
القاعدة مضطردة -الأهم هي العواصم- القاعدة هذه كما هي واضحة عندنا أو يجب أن تكون واضحة عندنا كانت واضحة عند أعدائنا، فالذي يقرأ مذكرات هيرتزل يجد أنه كان حريصا أن لا يتسلل اليهود الى فلسطين على سياق الأمر الواقع بل كان حريصا أن ياخذ تصريحا من العواصم الكبرى المهمة وفي بدايتها الدولة العثمانية.
حال اليهود إبان ثورات الربيع العربي
إذا نجحت الثورة في الشام كان هناك بوادر ثورة في الأردن، تصوروا نتنياهو الذي ترونه الآن متصلبا غاية التصلب في عقد صفقة أسرى، نتنياهو هذا كان متصلبا قبل الربيع العربي في صفقة شليط التي في أكتوبر 2011 بعد الثورة.
الأرض مادت تزلزلت الخريطة تغيرت لذلك سارع في عقد الصفقة، 1027 أسير فلسطيني مقابل واحد. لكن لما كتمت الثورات العربية لم يأبه بأربعة أسرى لمدة تسع سنوات وهو الآن لا يأبه بمئات الأسرى.
المسألة ليست مسألة وطنية قومية قد تحل بمجهود الفلسطينيين وحدهم، قناعتي أن بيت المقدس لن يتحرر إلا بعد تحرر القاهرة ودمشق وكل ما يفعله الفلسطينيون وأهل غزة من بسالة ومن معجزات إنما هو تأجيل للمعركة وتمديد للمعركة.
إن زوال نظام السيسي أفضل على الأمة من زوال نتنياهو …
السنة التي نستخلصها من تاريخ بيت المقدس
إن السنة التي نستخلصها من تاريخ بيت المقدس أن بيت المقدس بمثابة الثمرة بمثابة درة التاج القلب من الضلوع لم تحتل بيت المقدس إلا حين احتلت العواصم المحيطة بها أولا ولم تفتح بيت المقدس إلا حين فتحت العواصم المحيطة بها أولا، ولن تتحرر بيت المقدس إلا حين تحرر العواصم المحيطة بها أولا، هذه سيرة التاريخ والأمور لا تجري بالأمنيات…
أسأل الله تبارك وتعالى أن يعلمنا ما ينفعنا وأن ينفعنا بما علمنا وأن يزيدنا علما…
المصدر
جزء من محاضرة بعنوان “مستقبل بيت المقدس في ضوء السنن التاريخية” للأستاذ محمد إلهامي.
اقرأ أيضا
هذا باع الأرض المقدسة وهذه باعت الوثيقة المقدسة!!
السيسي واليهود والعلاقة العجيبة