والدولة إذ تحتنك المجتمع، لا تفعل ذلك بالسوط وحده، بل بالحلم، بالأمل، بالخوف، بالوعد والوعيد، بحيث تتحول الطاعة إلى قدر، لا يهرب منه إلا قلة، أولئك الذين لم تنجح الآلة في إعادة قولبتهم، أو الذين كُتب عليهم أن يعيشوا خارج أسوار الإجماع، كغرباء في أوطانهم، أو كشواذ في عالم أُعيدت صياغته بحيث يكون “الاحتناك” فيه هو القاعدة، لا الاستثناء…

الاحتناك المفهوم والآثار

يقول إبليس في خطابه الذي نقله القرآن : (لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا)… في هذا الخطاب، لا يقدم إبليس عمله بوصغه مجرد وعد بالإغواء، بل كان إعلانًا عن استراتيجية شمولية للهيمنة، تتجاوز القهر المباشر إلى إعادة تشكيل الوعي ذاته. فالاحتناك في أصله اللغوي يشير إلى السيطرة المطلقة، حيث يصبح المُحتنَك مُقادًا لا بإرادته، بل بإرادة من وضع اللجام في فمه…لكن إبليس لا يُمسك لجامًا ماديًا، بل يحيك منظومة من الوسائل الرمزية والنفسية، تجعل الخضوع له يبدو وكأنه اختيار حر، بينما هو في الحقيقة نتاج هندسة دقيقة للعقل والرغبة.

وإذا كان الإغواء التقليدي يقوم على إثارة الشهوات، ودفع الإنسان إلى الانحراف عبر وعود خادعة أو تهديدات خفية، إلا أنه يظل محدودًا في تأثيره، لأنه يفترض وجود مقاومة، ويفترض أن الإنسان يظل قادرًا (ولو نظريًا) على الرفض… أما الاحتناك، فهو مستوى أعمق من الهيمنة، حيث لا يعود الإنسان بحاجة إلى من يغويه، لأنه يتحرك داخل منظومة مغلقة، أُعيد تشكيل قيمها ومعاييرها، بحيث يصبح الانحراف عن الحق ليس مجرد خيار، بل المسار الوحيد المتاح.

التحول من الإغواء إلى الاحتناك

و التحول من الإغواء إلى الاحتناك لا يتم دفعة واحدة، بل عبر سيرورة تدريجية، تتداخل فيها العادة والمألوف، بحيث يفقد الإنسان حساسيته تجاه ما كان يراه في السابق انحرافًا، لا يكون هذا الانتقال فوضويًا، بل يُدار بحنكة، حيث تُدفع الجماعة البشرية إلى استدخال مفاهيم جديدة، ليس عبر الصدمة، بل عبر التطبيع المتدرج، بحيث تتحول الانحرافات إلى مجرد فروق طفيفة، ثم إلى خيارات مقبولة، ثم إلى عُرف لا يُناقش، ثم إلى معيار تُقاس به الأشياء… وحين يصل المجتمع إلى هذه المرحلة، لا يعود إبليس في حاجة إلى أن يوسوس لكل فرد على حدة، لأن الجماعة نفسها أصبحت وسوسته الجماعية، وأصبحت الثقافة التي تتحكم في وعي الفرد هي اللجام الذي يقوده دون أن يشعر.

التعالق العجيب بين القهر والترويض

الدولة القطرية الحديثة مثال جيد هنا، فهي لا تكتفي بإخضاع الجسد عبر القسر (وهي جيدة جدا هنا خاصة في أقطارنا العربية)، بل تتغلغل في نسيج الإدراك، فتُنتج ذاتًا مطواعة، تتماهى مع سلطتها إلى الحد الذي تصبح فيه الهيمنة غير مرئية، لأنها تتخذ شكل الضرورة والتلقائية… السلطة كما يعلمنا فوكو وغرامشي وغيرهم… لا تعمل فقط بمنطق البطش والإخضاع، بل بمنطق التشكيل والترويض، حيث لا يكون فعل الطاعة استجابة لإكراه خارجي دوما، بل انبثاقًا من بنية الوعي الذاتي… واستحضار مفهوم “الاحتناك”، بما يحمله من دلالة على السيطرة المطلقة، يعكس هذا التعالق العجيب بين القهر والترويض… فاللجام في الدولة الحديثة، ليس مجرد أداة خارجية تفرضها السلطة، بل هو منظومة متكاملة من الآليات الرمزية والمادية التي تعيد تشكيل الكائن الإنساني، بحيث لا يعود الفرد مجرد خاضع، بل مشارك في إنتاج شروط خضوعه…وكأن “الاحتناك”  سيرورة تواطئية، تُبنى من الداخل كما من الخارج، من القهر كما من القبول، وبهذا المعنى، فإن الدولة القطرية الحديثة ليست مجرد قوة فوقية، بل هي بنية تمتص المقاومة في ذاتها، وتحولها إلى طاقة تعيد إنتاج النظام. إنها تُلجم لا بالقوة فقط، بل بتقنيات الإغواء، بالإنتاج الرمزي للشرعية، بصناعة الخوف الذي يجعل الطاعة ليست خيارًا بين خيارات، بل الشرط الوحيد لإمكان العيش… الدولة هنا لا تحكم بالسيف وحده، بل بالمعنى، بالكلمات، بالصورة التي تترسخ في الوعي حتى تغدو بديهية، فيتقبلها المرء دون حاجة إلى إكراه صريح…حتى يغدو العصيان أمرًا لا يمكن تصوره إلا بوصفه خروجًا على منطق الوجود ذاته.

هكذا، تتحقق السيطرة بأقصى درجاتها حين يصبح الخاضع حارسًا لسجنه، لا يراه إلا بوصفه بيتًا، ولا يرى مفاتيحه إلا بوصفها قيودًا ضرورية تمنع الفوضى… والدولة إذ تحتنك المجتمع، لا تفعل ذلك بالسوط وحده، بل بالحلم، بالأمل، بالخوف، بالوعد والوعيد، بحيث تتحول الطاعة إلى قدر، لا يهرب منه إلا قلة، أولئك الذين لم تنجح الآلة في إعادة قولبتهم، أو الذين كُتب عليهم أن يعيشوا خارج أسوار الإجماع، كغرباء في أوطانهم، أو كشواذ في عالم أُعيدت صياغته بحيث يكون “الاحتناك” فيه هو القاعدة، لا الاستثناء…

المصدر

صفحة الأستاذ نورالإسلام بن عباس على منصة ميتا.

اقرأ أيضا

عقبات الشيطان وحبائله

خطوات الشيطان؛ وفاحشة التشريع من دون الله

من أخطر صور الشرك.. شرك الطاعة والاتباع

التعليقات غير متاحة