رغم أن دخول المجاهدين السوريين فاتحين لكبرى مدن الشام (حلب ثم حماه) لم يكن متصورا ولا منتظرا في ظل رتابة المشاهد في المنطقة عامة، وكآبتها في فلسطين خاصة؛ بعد عام من تكالب أصناف المعتدين وتخاذل الجيران الأقربين.. إلا أن الله تعالى إذا أراد شيئا يسر أسبابه ودبر أموره وفتح أبوابه..

مشيئة الله المهيمنة وقدره النافذ

◆ غالب الأحداث المحلية في كل بلد ؛ (وسوريا اليوم نموذجا).. لها علاقة وثيقة بأحوال المحيط الإقليمية، وتلك التحولات الإقليمية هي انعكاس لصراعات عالمية، وتبقى إرادة الله فوق كل الإرادات، لأنه تعالى: {يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ .. لَعَلَّكُم بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ} [الرعد:٢].

◆ وبتدبيره تعالى تتهيأ الأحوال لحصول قضائه ووقوع تقديره في الكون، وهذا ما يعرف بـ(السنن الكونية الإلهية) فكما أن هناك أحكاما دينية شرعية، فهناك أحكام كونية قدرية، لا تتبدل ولا تتغير..كما قال سبحانه: { سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا } [الفتح:٢٣] وقال: { فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ ۚ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا} [فاطر:٤٣].

وتبقى إرادة الله فوق كل الإرادات

.. ومن تلك الأحكام والسنن الثابتة: أن (الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ)، وأن الله (لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) وأنه تعالى (وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ) وقد تعهد بنصرهم ما داموا على المنهاج القويم : (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) وهو يبتليهم (حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ) وأنه تعالى (مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ) وأن هؤلاء الكفار (يَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ) وأنه (وَلا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ) وأنه تعالى (لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ) وهو عز وجل : (يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته)..وغير ذلك كثير من السنن والقوانين  المبثوثة في الكتاب والمفصلة في السنة.

◆ .. وهذه الأحكام القدرية الثابتة؛ لا ينبغي فهم الواقع بمعزل عنها، ولا تجوز مجافاتها في التحليلات الآنية ولا التوقعات المستقبلية ، فقوى العالم المعاصر مهما تجبرت واستكبرت وعلت فإنه: (حَقٌّ علَى اللَّهِ أنْ لا يَرْتَفِعَ شيءٌ مِنَ الدُّنْيا إلَّا وضَعَهُ) كما جاء في البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم.

سنة الله في هلاك الظالمين

◆.. ومن تطبيقات ذلك أن أمريكا التي طغت في البلاد فأكثرت فيها الفساد، هي وحلفاؤها؛ سيصيبها حتما داء الأمم الذي دلت عليه تلك السنة الإلهية الثابتة في قول تعالى: {وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُّكْرًا * فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا * أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا ۖ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا ۚ قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا} [الطلاق8-10]

◆.. وصنيعتها (إسرائيل) التي قد طغت وبغت وعلت علوا كبيرا، وعاد شعبها بعد تيه طويل للإفساد؛ سيسلط الله عليها بحكمه القدري عبادا له أولي بأس شديد، يجوسون خلال الديار ويتبرون ما علوا تتبيرا، وقدر الله النافذ عليهم سوف يراه الناس فيهم : {وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا ۘوَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا} [الإسراء:٨] ..

◆..أما أعوان الطغاة الكبار من العملاء المنافقين الصغار، فإن سنة الله فيهم تدور حول تلك الإرادة الإلهية القائلة: {وَكَذَٰلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [الانعام:١٢٩]

والمعنى- كما قال القرطبي – ” نسلط بعض الظلمة على بعض؛ فيهلكه ويذله.. كما قيل: (من أعان ظالما سلط عليه)..

فاللهم أهلك  الظالمين بالظالمين.. وانصر عبادك المجاهدين ، وأنج برحمتك المستضعفين من المؤمنين اللهم آمين.

أفعال الله كلها عدل ورحمة وحكمة

◆ رغم طول اسوداد ليل المسلمين بهيمنة قوى الشر الصليبية منذ الحرب العالمية؛ فإن ذاك السواد أشبه بالظلمة التي تسبق بزوغ الفجر، بحسب السنن الكونية والإلهية، فالله تعالى يقول: {وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لَّفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَٰكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ} [البقرة:٢٥١] .

◆ وفضل الله على العالمين مقبل بعد إقبال العالم على حروب تصفيات حسابات، مدفوعة بدفع الله الناس بعضهم على بعض بتدبير العليم الحكيم، فالقوى العظمى تتخوف كل أطرافها وتخوف من تدحرج الكرة الأرضية نحو حرب عالمية، خاصة بعد عودة الحرب الباردة التي تشتد تحت لهيبها حرب الوكالة بين الشرق والغرب في أوكرانيا.

◆  ولأن قوى الشرق المتحالفة (الصين – روسيا – بلاروسيا – كوريا الشمالية – إيران) وغيرها مما يدور في فلكها؛ تصر كلها على إنزال كوكب الشر – أمريكا – من عليائها المتغطرس والمتفرد بقيادة العالم ؛ فإن تلك الأمريكا تقاوم بشراسة وشراهة للبقاء على تلك القمة وفق استراتيجية (مشروع القرن الأمريكي) التي احتلت بموجبه العراق.

◆ ولأجل الاحتفاظ بالقطبية الواحدة المتفردة؛ بدأت أمريكا في إدارة حرب تكسير عظام مبكرة، لفض تحالف الشرق الساعي لعالم متعدد القطبيات، وكان لزاما أن تبدأ باستدراج روسيا أولا؛ باعتبارها الضلع الأول فيما تسميه (محور الشر) فكان أن ورطتها في حرب تستنزف قواها بعد التلويح بقبول جارتها أوكرانيا عضوا في حلف الناتو الغربي المعادي، وهو ما جعل روسيا تضطر لدخول حرب الغرب بالوكالة على أرض أوكرانيا.

◆ وكانت الخطوة المتوقعة للولايات المتحدة الصهيونية بعد توريط روسيا؛ أن تعمد إلى استدراج إيران التي خرجت عن كل الخطوط الحمر بتحالفها مع روسيا والصين، مهددة مصالح الغرب في جزيرة العرب، فوكلت أمريكا قاعدتها المتقدمة (إسرائيل) بإدخال طهران وحلفاءها في صراع اضطراري مصيري لا تخرج منه إلا مقطعة الأذرع ومقصقصة الأجنحة، في كل من فلسطين ولبنان، ثم سوريا والعراق واليمن، وذلك ريثما تتهيأ الظروف لاستهداف دولة الفرس الشيعية لدفع أو دفن نواياها النووية..

◆ لكن لأن الله تعالى {كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ} [ الرحمن:٢٩]  أي : يرفع أقوما ويضع آخرين؛ فإنه سبحانه له شأن آخر مع كل المعتدين، وهو الذي أنذرهم بالوحي قائلا..{وَأُمْلِي لَهُمْ ۚ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ} [ القلم:٤٥].

وكانت شرارة بدء الكيد المتين – كما نحسب –  في غزة؛ موطن الصامدين الأعزة، ثم في حلب، حيث حلت جنود الثأر والغضب..

طوفان الشام هو أحد تداعيات بركات طوفان الأقصى

رغم أن دخول المجاهدين السوريين فاتحين لكبرى مدن الشام (حلب ثم حماه) لم يكن متصورا ولا منتظرا في ظل رتابة المشاهد في المنطقة عامة، وكآبتها في فلسطين خاصة؛ بعد عام من تكالب أصناف المعتدين وتخاذل الجيران الأقربين.. إلا أن الله تعالى إذا أراد شيئا يسر أسبابه ودبر أموره وفتح أبوابه..

جريان سنة الله في دفع الناس بعضهم ببعض

◆ وطوفان الشام اليوم هو أحد تداعيات – أو بالأحرى بركات – طوفان الأقصى الذي بارك الله حوله، فلولا هذا ما كان ذاك، ومن أسباب هذا الطوفان المسمى بعملية ردع العدوان – كما سبق البيان – : جريان سنة الله في دفع الناس بعضهم ببعض، حيث إن الروم المعاصرين وصلوا إلى قناعة بأن الفرس صاروا لهم ضدا وندا في إقليم الشرق الأوسط، بل صيروا أنفسهم معبرا وقنطرة إليه أمام أعدى أعداء الغرب التاريخين : روسيا والصين.

◆ لهذا كان لزاما أن يعملوا على إخراج المشروع الشيعي برمته من هذا الإقليم، ابتداء بإنهاء شيعة العرب، ثم إنهاك شيعة الفرس، وتواطأ هذا العزم الأمريكي مع مصالح تركية، ومشاغل ومشاكل روسية، فكانت لهذا – بتدبير الله – كل الأجواء مهيأة للبدء في تدمير أعتى طغاة العصر في بلاد العرب وأطولهم بقاء في السلطة؛ وهو النظام النصيري حامي حمى اليهود، وأداة الفرس في إذلال العرب، رغم تشدقه بزعامة أطلال القومية ، وريادة محور المقاومة العربية.

◆ أذن الله – سبحانه – أن يذل الطغاة النصييرين المسنودين من كفرة الروس وزنادقة الفرس فيخرجهم صاغرين..

وكأني بالمجاهدين وهم يقتحمون الميادين ويفتحون السجون ويحررون المدن المحتلة لنحو ستين سنة، ؛ يتمثلون قول القوي المتين سبحانه: {مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا ۖ وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا ۖ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ ۚ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ}[الحشر:٢]..

حقا حقا.. اعتبروا يا أولي الأبصار..

ففي القضية بقية فصول.. ولعلها تطول وتطول..

ولكن لنكن على يقين، بأن الله الذي دبر الأمر للمجاهدين السوريين، سيذلل الصعاب أمام كل المستضعفين، لأنه سبحانه القائل: {وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ} [القصص:٥].

فأتم اللهم الفتح ويسر بقية أسباب النصر والتمكين لإخواننا السوريين والفلسطينيين، ولسائر  المسلمين المستضعفين.

اقرأ أيضا

عواصف التغيير، والحكم الإلهية في التدبير (١)

عواصف التغيير، والحكم الإلهية في التدبير (2)

سنة المدافعة والصراع بين الحق والباطل

بين الاستضعاف والتمكين

سُنة الابتلاء للمؤمنين، وأن العاقبة للمتقين

سُنة “الإملاء” و”الاستدراج” للكافرين والظالمين 

التعليقات غير متاحة