التوجه نحو مجتمعات لا تعرف إلا المحافظة والتعفف، بمحاولة زحزحتها عن هذه الأخلاق، هي حركة مريبة ومتَهمة، ومرتبطة بانحراف عقدي.
مقدمة
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين، وبعد..
لا تقف حركة الباطل في الوصول الى مبغاه، ولا تقف حركة الحق عن شق طريقه نحو إيصال النور ودحض الباطل. كما أن للباطل أحلامه؛ فثمة صورة مقيتة تراد للمجتمعات الاسلامية، وهي أن تصبغ بصبغة الانحراف الغربي الجاهلي الإباحي.
ويرى السفهاء أن مجرد وجود التعري والاختلاط ومظاهر التقليد الغربي التافه؛ يرونها دلالة على “التحضر” وذلك في خدعة كبرى وفراغ هائل وخواء داخلي مخيف..!
حملة محمومة
فلم يعد خافيًا على أحدٍ ما تشهدهُ مجتمعات المسلمين اليوم، من حملةٍ محمومةٍ من الذين يتبعون الشهوات على حجاب المرأة وحيائها، وقرارها في بيتها، حيثُ ضاق عطنهم، وأخرجوا مكنونهم، ونفذوا كثيرًا من مخططاتهم في كثيرٍ من مجتمعات المسلمين، وذلك في غفلةِ وقلّة إنكارٍ من أهل العلم والصالحين، فأصبح الكثير من هذه المجتمعات تعجُّ بالسفور والاختلاط والفساد المستطير، الأمر الذي أفسد الأعراض والأخلاق.
وبقيت بقيةٌ من بلدان المسلمين لا زال فيها والحمد لله يقظة من أهل العلم، والآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، حالت بين دعاة السفور وبين كثيرٍ مما يرومون، وهذه سنةُ الله عز وجل في الصراع بين الحق والباطل، والمدافعة بين المصلحين والمفسدين.
التلبيس والكيد، وإفساد المجتمعات
ومن كيد المفسدين في مثل المجتمعات المحافظة، ووجود أهل العلم والغيرة، أنهم لا يجاهرون بنواياهم الفاسدة، ولكنَّهم يتسترون وراء الدين، ويُلبسون باطلهم بالحق واتباع ما تشابه منه، وهذا شأنُ أهل الزيغ، كما وصفهم الله عز وجل في قوله: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ﴾ (آل عمران: 7).
وهُم أولُ من يعلم أن فساد أي مجتمع إنما يبدأ بإفساد المرأة واختلاطها بالرجال، ولو تأمّلنا في التاريخ، لوجدنا أن أوَّلَ ما دخل الفساد على كثير من الأمم، فإنما هو من باب الفتنة بالنساء، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم قوله: «ما تركت بعدي فتنةً هي أضر على الرجال من النساء». (1البخاري في النكاح (5096)، مسلم في الذكر (2740))
وهذه حقيقة لا يمُاري فيها أحد، ومللُ الكُفر أوَّلُ من يعرف هذه الحقيقة، حيث إنَّهم من باب الفتنة بالنساء، دخلوا على كثير من مجتمعات المسلمين وأفسدوها، وحققوا أهدافهم البعيدة، وتبعهم في ذلك المهزومون من بني جلدتنا، ممن رضعوا من لبان الغرب وأفكاره؛ ولكن لأنهم يعيشون في بيئة مسلمة، ولا زال لأهل العلم والغيرة حضورهم، فإنهم ـ كما سبق بيان ذلك ـ لا يتجرؤون بطرح مطالبهم التغريبيةِ بشكلٍ صريح، لعلمهم بطبيعة تدين الناس ورفضهم لأطروحاتهم وخوفهم من الافتضاح بين الناس، ولذلك دأبوا على اتباع المتشابهات من الشرع، وإخراج مطالبهم في قوالب إسلامية، وما فتئوا يُلبسون الحق بالباطل.
ومن هذه الطروحات التي أجلبوا عليها في الآونةِ الأخيرة، مطالبتهم في مجتمعاتٍ محافظة بكشف المرأة عن وجهها، وإخراجها من بيتها، معتمدين بزعمهم على أدلةٍ شرعية، وأقوالٍ لبعضِ العلماء في ذلك.
وقفات مع المطالبين بسفور المرأة واختلاطها
ولنا في مناقشةِ هؤلاءِ القوم المطالبين بكشف وجه المرأة المسلمة أمام الأجانب، واختلاطها بهم في مجتمعٍ محافظ، لا يعرف نساؤهُ إلا الحجابَ الكامل، والبعد عن الأجانب، لنا في ذلك عدة وقفات.
الوقفة الأولى:
احتجاجات خاطئة وتلبيس لدين الله
“إنَّ هناك فرقًا في تناول قضية الحجاب، وهل يدخلُ في ذلك الوجه أم لا؟ بين أن يقع اختلاف بين العلماءَ المخلصين في طلب الحق، المجتهدين في تحرّي الأدلة، الدائرين في حالتَيْ الصواب والخطأ، بين مضاعفةِ الأجر مع الشكر، وبين الأجرِ الواحد مع العذر؛ وبين من يتتبعُ الزلات، ويتحكمُ بالتشهي، ويرجِّحُ بالهوى، لأنَّ وراء الأكمةِ ما وراءها، فيؤولُ حالُه إلى الفسق ورقة الدين، ونقص العبودية وضعف الاستسلام، لشرع الله عز وجل.
وهُناك فرقٌ بين تلك الفتاوى المحلولة العقال، المبنيةِ على التجرّي لا على التحري، والتي يصدرها قومٌ لا خلاق لهم من الصحفيين، ومن أسموهم المفكرين، تعجُّ منهم الحقوقُ إلى الله عجيجا، وتضجُّ منهم الأحكام إلى من أنزلها ضجيجًا، يفْرَقون من تغطية الوجه لا لأنَّ البحث العلمي المجرد أدَّاهم إلى أنه مكروه، أو جائز، أو بدعة كما يرجفون، ولكن لأنَّهُ يشمئزُّ منه متبوعوهم من كفار الشرق والغرب، فاللهمَّ باعد بين نسائنا وبناتنا وأخواتنا وبينهم كما باعدت بين المشرق والمغرب”. (2انظر: عودة الحجاب 3 / 437)
ولك أن تُقدر شدَّة مكرِ القوم الذين يريدون من جانبهم أن يتبعوا التمدن الغربي، ثم يبررون فعلهم هذا بقواعد النظام الإسلامي الاجتماعي.
نقطة بداية خطأ
ولقد أُوتيت المرأة من الرخصة في النظام الإسلامي أن تبدي وجهها وكفيها، وما دعت إليه الحاجة أو الضرورة في بعض الأحوال، وأن تخرج من بيتها لحاجتها، ولكن هؤلاءِ يجعلون هذا نقطة البدء، وبداية المسير، ويتمادون إلى أن يخلعوا عن أنفسهم ثوب الحياء والاحتشام، فلا يقفُ الأمرُ بإناثهم عند إبداء الوجه والكفين، بل يجاوزه إلى تعريةِ الشعر والذراع والنحر، إلى آخر هذه الهيئات القبيحة المعروفة.
وهي الهيئة التي لا تخصُّ بهـا المرأة الأزواج والأخـوات والمحـارم فقط، بل يخرجن بكــلِّ تبرجٍ من بيـوتهن، ويمشـين في الأسـواق، ويخالطن الرجال في الجامعات، ويأتين الفنادق والمسارح، ويتبسطن مع الرجـال الأجـانـب.
ثم يأتي القوم فيحملون رخصةَ الإسلام للمرأة، في الخروج من البيت للحاجة، وهي الرخصة المشروطة بالتستر والتعفف، على أنَّها يحل لها أن تغدو وتروح في الطرقات، وتتردد إلى المنتزهات والملاعب والسينما في أبهى زينة، وأفتنها للناظرين، ثم يُتَّخَذُ إذن الإسلام لها في ممارسة أمورٍ غير الشؤون المنزلية ـ ذلك الإذن المقيد المشروط بأحوال خاصة ـ يتخذُ حجةً ودليلاً على أن تودِّع المرأة المسلمة جميع تبعات الحياة المنزلية، وتدخلُ في النشاط السياسي والاقتصادي والعمراني تمامًا، وحذو القُذَّة بالقذة، كما فعلت الإفرنجية.
وها هو ذا المودودي ـ رحمه الله ـ يصرخُ في وجوه هؤلاءِ الأحرار في سياستهم، العبيد في عقليتهم قائلاً: “ولا ندري أيُّ القرآن أو الحديث يُستخرج منهُ جواز هذا النمط المبتذل من الحياة؟
وإنَّكم ـ يا إخـوان التجدد ـ إن شاءَ أحدكم أن يتبعَ غير سبيل الإسلام فهلا يجترئُ ويصرِّحُ بأنَّهُ يريدُ أن يبغي على الإسلام؟ ويتفلَّت من شرائعه؟
وهلا يربأ بنفسه عن هذا النفاق الذميم والخيانة الوقحة، التي تزيِّن له أن يتبع علناً ذلك النظام الاجتماعي، وذلك النمطِ من الحياة الذي يحرِّمه الإسلام شكلاً وموضوعًا، ثم يخطو الخطوةَ الأولى في هذا السبيل، باسم اتباع القرآن، كي ينخدع به الناس، فيحسبوا أنَّ خطواته التالية موافقةً للقرآن”. أهـ (3انظر: مقدمة عودة الحجاب، للدكتور محمد إسماعيل المقدم 1 / ص22 ، 23 باختصار وتصرف يسير)
الوقفة الثانية:
وجه ارتباط القضية بالبعد العقدي
وهي نتيجة للوقفة الأولى، وذلك بأن ينظرَ إلى قضية الحجاب اليوم، وما يدورُ بينها وبين السفور من معارك، إلى أنَّها لم تُعدّ قضـيةً فرعية ومسـألةً خلافية فيها الراجح والمرجوح بين أهـل العـلم، ولكنَّهـا باتت قضيةً عقدية مصيرية، ترتبط بالإذعان والاستسلام لشرع الله عز وجل، في كلِّ صغيرة وكبيرة، وعدم فصلها عن شـئونِ الحياة كلها، لأنَّ ذلك هـو مقتـضى الرضى بالله ربًّا، وبالإسلام دينًا، وبمحـمد صلى الله عليه وسلم نبيًّا.
“إن التشنيعَ على تغطيةِ المرأة لوجهها، والتهالك على خروجها من بيتها، واختلاطها بالرجال، ليست اليوم مسألة فقهية فرعية، ولكنَّها مسألة خطيرةً لها ما بعدها، لأنها تقومُ عند المنادين بذلك على فصل الدين عن حياة الناس، وعلى تغريب المجتمع، وكونها “الخطوة الأولى” أو كما يحلو لهم أن يعبروا عنها بـ “الطلقة الأولى”.
أسوة في الربط بالقضايا العقدية
وإنَّ لنا في جعلِ قضية الحجابِ اليوم قضيةً أصوليةً كلية، مع أن محلها كتب الفروع، إنَّ لنا في ذلك أسوة في سلف الأمة، حيث صنفوا بعض المسائل الفرعية مع أصول الاعتقاد، لمَّا رأوا أنَّ أهل البدع يشنعون على أهل السنة فيها، ويفاصلون عليها؛ من ذلك ما ذكره الإمام الطحاوي في العقيدة الطحاوية، بقوله عن أهل السنة والجماعة : «ونرى المسح على الخفين في السفر والحضر كما جاء في الأثر».
وعلَّق شارحُ الطحاوية على ذلك بقوله:
“وتواترت السنةُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمسح على الخفين، وبغسل الرجلين، والرافضة تُخالفُ هذه السنة المتواترة”. (4شرح الطحاوية: ص 386)
ومعلومٌ أنَّ المسحَ على الخفين من المسائل الفقهية، ولكن لأنَّ أهل البدع أنكروه وشنعوا على مخالفيهم فيه، نص العلماء عليه في عقائدهم.
إذاً فلا لومَ على من يجعل قضية الحجاب اليوم قضيةً أُصولية مصيرية، وذلك لتشنيعِ مبتدعةِ زماننا ومنافقيهم عليه، ولحملتهم المحمومة لنزعه، وجرِّ المرأة بعد ذلك لما هو أفسد وأشنع من ذلك، وأنَّها لم تُعد مسألةً فقهية يتناقشُ فيها أهلُ العلم المتجردون لمعرفة الراجح فيها، وجوانب الحاجة والضرورة فيه.
الوقفة الثالثة:
استفهامات مبررة
لو أنَّ المنادين اليومَ بكشف وجهِ المرأة أمام غير المحارم، وكانوا في مجتمعٍ يعجُّ بالسفور والتعري الفاضح لأحسنا الظنَّ بهم، وقلنا : لعلَّ قصدهم ارتكاب أهون المفسدتين، والتدرج بالنساء في ردهنَّ إلى الحجاب الشرعي والحياءِ والحشمة شيئًا فشيئًا، حيثُ إنَّ المرأة التي تكشف وجهها وكفيها فقط في مجتمعٍ متعرٍّ متفسخ، هي بلا شـك أحسنُ حالاً ودينًا ممن تتعدى ذلك إلى كشف ما هو أشد وأشنع.
أما وإنَّ الذين يُنادون اليومَ بنزع الحجاب عن الوجه، إنما يُوجِّهون نداءهم إلى مجتمعات محافظة، لم يعرف نساؤهُ إلاَّ الحشمة والحياء، وتغطيةَ الوجهِ والبعد عن الرجال الأجانب، فإنَّ هذا مما يثيرُ العجب، ويحيرُ العقل، ويضعُ استفهاماتٍ كثيرة على مطالبهم تلك، فماذا يريدون من ذلك؟ وماذا عليهم لو بقيت نساؤُهم وبناتهم وأخواتهم ونساءُ المسلمين على هذه الحشمة والعفة والحياء؟ ماذا يضيرهم في ذلك؟
ألا يشكرون الله عز وجل على هذه النعمة العظيمة..؟
ألا يعتبرون بما يرونه في المجتمعات المختلطة المتبرجة؛ حيث ضاعت قوامة الرجل وظهرَ الفساد، وهُتكت الأعراض..؟!
خاتمة
إنَّ زماننا اليوم زمن العجائب، وإلاَّ فعلام يشرقُ قومنا بالفضيلة والطُهر والعفاف..؟ لا إجابة سوى أنهم منافقون أو في قلوبهم مرض؛ نذروا أنفسهم لحرب دين الله تعالى وحرب أخلاق البشرية، والقضاء على النموذج الفاضل أينما وُجد.
………………………………………………..
الهوامش:
- البخاري في النكاح (5096)، مسلم في الذكر (2740).
- انظر: عودة الحجاب 3 / 437.
- انظر: مقدمة عودة الحجاب، للدكتور محمد إسماعيل المقدم 1 / ص22 ، 23 باختصار وتصرف يسير.
- شرح الطحاوية: ص 386.