لقد قرر قادة الكفر أن يربوا أشخاصاً على النفاق تعمل في صفوف المسلمين في كل المجالات: معلمين، ومربين، وموجهين، وسياسيين، وصحفيين، وكتاباً، ومؤلفين، ورجال فكر، ورجال علم، يظهرون الإسلام، والحريص على هذا الدين، فيثق بهم الغافلون والبسطاء.
المنافقون وكلاء المستعمر وأداة الغزو الفكري
قبل ذكر هذه الوسائل المختلفة أذكر أهم الوسائل التي يعتمد عليها الكفار في غزوهم الفكري وبث الشبهات، ألا وهم المنافقون من بني جلدتنا الذين يشكلون الذراع القوية لإيصال ما يريده الكفار من صرف المسلمين عن دينهم وأخلاقهم، بل إنهم البوابة التي دخلوا منها، ويدخلون إلى بلدان المسلمين في احتلالهم العسكري، والتمكن من بلدان المسلمين وأماكن التأثير فيها، ونظرة سريعة إلى الغزو الأمريكي لبلاد الأفغان والعراق، وما قام به الانقلابيون على الحكومة الشرعية في مصر ترينا هذه النظرة، وذلك الدور الخياني الكبير في تسهيل احتلال الكفار لتلك البلاد.
ونظرة إلى ما تقذف به صحف ومجلات ومواقع المنافقين من العلمانيين والليبراليين ترينا ذلك التوافق العجيب والتناغم الشديد بين ما يطرحونه وما يدعو إليه الكفار ويطرحونه من أفكار وشبهات، وصدق الله العظيم: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ) [الحشر:11]، وقوله سبحانه: (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) [البقرة:14].
من وسائل الغزاة في بث شبهاتهم وأباطيلهم
وبعد هذا التنبيه على خطر المنافقين ودورهم في تنفيذ ما يريده الكفار من زعزعة لعقيدة المسلمين وأفكارهم، أسوق فيما يلي وبصورة مختصرة بعض تلك الوسائل التي يعول عليها الكفار وأذنابهم المنافقون في التأثير على عقول وأفكار المسلمين بما يبثونه من الشبهات:
وسائل الإعلام المختلفة
أولا: وسائل الإعلام المختلفة المقروء منها من الكتب والصحف والمجلات، وما تنتجه مراكز الأبحاث من مقالات وغيرها، والمسموع من الإذاعة والأشرطة والأقراص المدمجة والمرئي من تلفاز وقنوات ومواقع إلكترونية وجوالات ذكية وغيرها. وهذا من أعظم وسائلهم وأخطرها، حيث لم يمر في تاريخ البشرية منذ أن خلق الله عز وجل هذا الإنسان مثل هذه الوسائل الإعلامية المتطورة في مخاطبة عقول الناس والتأثير عليها.
الحركة الاستشراقية
ثانيا: الحركة الاستشراقية التي بدأت منذ قرون التي ما فتأ المستشرقون المهتمون بالتراث الإسلامي من بث شبهاتهم وتشويهاتهم لعقيدة الإسلام وأحكامه وللتاريخ الإسلامي، وألفوا في ذلك الكتب، وكتبوا المقالات المسمومة.
فتح المدارس الأجنبية والتلاعب بالمناهج الدراسية
ثالثا: فتح المدارس الأجنبية التي تسمى بالعالمية، وتدریس طلابها مناهج ملوثة قد وضعت أهدافها المنحرفة بدقة، بل إن الأمر قد تجاوز هذه المدارس الخاصة إلى تدخل الكفار في مناهج مدارس التعليم العامة وسعوا إلى حذف كل ما من شأنه إيغار الصدور على الكفار والبراءة منهم والكراهة لهم، ونزع ذلك من قلوب المسلمين، ومن ذلك تقليص الحديث عن الجهاد وأبطاله المسلمين.
يتحدث الأستاذ (مهيمن عبدالجبار) في مقال بعنوان (التعليم الأجنبي أخطار لا تنتهي) يقول فيه:
(ولكي نتصور القضية تصورا صحيحا لابد أن نضع في حسباننا أمورا عدة:
أولها: أن التعليم الأجنبي يأتي ضمن منظومة واسعة لتغريب الأجيال وإبعادهم عن دينهم، تتضمن التعليم، والإعلام والثقافة، ويتستر خلفها التبشير والاستشراق والاستعمار، وتساندها بقية الأدوات.
وثانيها: أن الكلام حول التعليم الأجنبي يتناول المدارس الأجنبية ومدارس الإرساليات التبشيرية ومدارس الجاليات بالأصالة، كما يشير إلى مدارس اللغات والمدارس التجريبية التي تقفوا أثر المدارس الأجنبية، وإن تسمت بأسماء عربية بالتبعية، كما يتطرق الحديث إلى الابتعاث إلى الدول الغربية .
وثالثها: أن حديثنا عن دور وأخطار هذا النوع من التعليم يزيد من شأنه، ولا يهون ما يتم للتعليم الوطني اليوم في كثير من بلادنا الإسلامية، تحت مسميات التطوير والتحديث، ضمن ما يعرف بالعولمة التعليمية التي ترعاها المؤسسات الدولية وتدفع إليها الدول الغربية .
ورابعها: أن التعليم في الإسلام يعني عملية إفراز وتنمية للولاء العقدي، الذي هو أعلى وأوثق أنواع الولاء، كما يرتبط بقيمة وجودية للأمة الإسلامية هي الهداية، كما قال تعالى: (وَلَٰكِن كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنتُمْ تَدْرُسُونَ) [آل عمران:79] کما يرتبط بقيمة أخرى في الآخرة هي الوقاية من عذاب الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ) [التحريم:6].
وهذا كما قال المفسرون يتم بالتعليم والتأديب، وفيه ملمح مهم، وهو ارتباط التعليم بالإصلاح، على عكس ما يحدث اليوم في التعليم الأجنبي.
وخامسها: أن دخول أطراف خارجية في العملية التعليمية يعنی تعريض أمن الأمة للخطر؛ وذلك حين يتعرض دين الأجيال للتحريف وعقولهم لألوان الغزو الفكري.
إننا كثيرا ما نلمس آثار هذه المدارس على المتخرجين فيها، لكن ما يغيب عنا أكثر، دون أن يكون لنا أفراد أو مجتمعات دور يتفاعل مع قضية بهذه الخطورة.
وسادسها: إن الحديث عن التعليم الأجنبي اليوم لا يمكن التطرق إليه بمنأى عن الخريطة التعليمية القطرية والعولمية؛ فلم تعد المدارس الأجنبية هي الخطر الوحيد في المجال التعليمي؛ بل ينبغي تصور خريطة الأخطار المحتفة بالتعليم اليوم؛ فهناك مدارس الإرساليات (علمانية، ودينية)، وهناك المدارس الدينية التي تخص الطوائف النصرانية التي تعيش في بلداننا الإسلامية، والمدارس الخاصة التي تقتفي أثر هذه المدارس، إلى جانب التعليم العام المنجذب مغناطيسيا نحو مجال هذه المدارس كنموذج)1(1) «مجلة البيان» عدد (174)..
حملات الابتعاث إلى بلاد الكفار
رابعا: تكثيف حملات الابتعاث إلى بلاد الكفار، ولاسيما من شريحة المراهقين من الطلاب والطالبات، والزج بهم في جامعات مختلطة، وغسل أفكارهم مما يرونه ويسمعونه في دراستهم وحياتهم اليومية من شبهات وأفكار منحرفة، وافقت قلوبا خاوية من العلم الشرعي، جاهلة بحقيقة دينها، منبهرة بحضارة الغرب، فحدث ولا حرج عن هاتيك العقول المسمومة، وأثرها على توجيه أفكار المسلمين وحياتهم بعد رجوعهم إلى بلدانهم.
مؤتمرات الضرار
خامسا: إقامة المؤتمرات والندوات والحوارات التي يطرح فيها ما من شأنه تمييع عقيدة التوحيد والولاء والبراء باسم التسامح الديني والسلام والإخاء بين أصحاب الديانات السماوية والتقريب بينهم، والدعوة إلى ما يسمى بحوار الأديان.
سادسا: إقامة المؤتمرات العالمية التي تدعي الحفاظ على حقوق الإنسان وحريته، ومن ذلك حقوق المرأة، واستخدام هذه المؤتمرات في النيل من أحكام المرأة في الإسلام، والدعوة إلى تحريرها ومساواتها بالرجل، ومن ذلك وثيقة الخنا والفجور التي طرحت على جميع الدول للتوقيع عليها، مع ما تتضمنه من محادة لشريعة رب السموات والأرض، ومع ما فيها من تشريع للزنا والعهر وفساد النسل والأعراض.
نشر مناهج المعتزلة ومن على شاكلتهم
سابعا: ما يسهم به من يسمون بالعقلانيين أو العصريين من أفراخ المعتزلة، الذي يقدسون العقل ويحاكمون إليه النقل الصحيح من الكتاب والسنة، فما وافق العقل أخذوا به، وما عارضه -بزعمهم- ردوه أو تأولوه، ولقد طار المفسدون من الكفار والمنافقين بهذا المنهج، وعظموه وأعظموا رموزه وحسنوه للناس، واتكأوا عليه في غزوهم العقدي والأخلاقي للدين الإسلامي.
استخدامهم لبعض فتاوى ومقالات الإسلاميين
ثامنا: ما يقوم به بعض الطيبين من الدعاة أو طلبة العلم -بحسن نية – من فتاوى أو مقالات يستغلها المفسدون من أهل البدع والنفاق في تمرير بعض الأفكار والأخلاق المنحرفة، وذلك من عدم الوعي من هؤلاء المجتهدين بمآلات مقالاتهم أو فتاويهم، فيطلقونها بحجة التيسير على المسلمين، ويتأولون ذلك بأنهم يعملون القواعد الشرعية، كقاعدة الضرورة والمصلحة المرسلة، والمشقة تجلب التيسير، ولكن دون شروطها وضوابطها، وما علموا ما يترتب على طرحهم من مآلات فاسدة ونتائج خطيرة، وبذلك فهم يسهمون من حيث لا يشعرون في خدمة الغزاة من الكفار والمنافقين في تحقيق بعض مآربهم، ونشر أفكارهم.
إن عدم الاعتناء من بعض المفتين بقاعدة (سد الذريعة) التي تمثل ربع الشريعة التي تقوم على تحريم الوسائل التي تؤدي إلى الحرام. إن إغفال ذلك مع فتح باب التأويل واتباع المتشابه؛ ليعد بابا خطيرا من أبواب الفساد يدخل منه أعداء هذا الدين من الكفار والمنافقين في بث الشبهات والتهوين من حرمات الله عز وجل والجرأة على انتهاكها.
وفي ذلك يقول ابن القيم رحمه الله: (وباب سد الذرائع أحد أرباع التكليف، فإنه أمر ونهي، والأمر نوعان: أحدهما: مقصود لنفسه. والثاني: وسيلة إلى المقصود. والنهي نوعان: أحدهما: ما يكون المنهي عنه مفسدة في نفسه. والثاني: ما يكون وسيلة إلى المفسدة، فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين. وتجويز الحيل يناقض سد الذرائع مناقضة ظاهرة، فإن الشارع يسد الطريق إلى المفاسد بكل ممکن والمحتال يفتح الطريق إليها بحيلة، فأين من يمنع من الجائز خشية الوقوع في المحرم إلى من يعمل الحيلة في التوصل إليه)2(2) «إعلام الموقعين» (3/ 159)..
ويتحدث رحمه الله عن خطورة فتوى المفتي دون النظر منه إلى مكر وخداع المستفتي، والمآلات التي تؤول إليها فتواه، فيقول:
(الفائدة الرابعة والأربعون: يحرم عليه إذا جاءته مسألة فيه تحيل على إسقاط واجب أو تحليل محرم أو مكر أو خداع أن يعين المستفتي فيها، ويرشده إلى مطلوبه أو يفتيه بالظاهر الذي يتوصل به إلى مقصوده، بل ينبغي له أن يكون بصيرا بمكر الناس وخداعهم وأحوالهم، ولا ينبغي له أن يحسن الظن بهم، بل يكون حذرا فطنا فقيها بأحوال الناس وأمورهم يوازره فقه في الشرع، وإن لم يكن كذلك زاغ وأزاغ، وكم من مسألة ظاهرها ظاهر جميل وباطنها مكر وخداع وظلم، فالغر ينظر إلى ظاهرها ويقضي بجوازه، وذو البصيرة ينقد مقصدها وباطنها، فالأول يروج عليه زغل المسائل کا يروج على الجاهل بالنقد زغل الدراهم، والثاني يخرج زيفها كما يخرج الناقد زيف النقود، وكم من باطل يخرجه الرجل بحسن لفظه وتنميقه وإبرازه في صورة حق، وكم من حق يخرجه بتهجينه وسوء تعبيره في صورة باطل، ومن له أدنی فطنة وخبرة لا يخفى عليه ذلك، بل هذا أغلب أحوال الناس ولكثرته وشهرته يستغني عن الأمثلة، بل من تأمل المقالات الباطلة والبدع كلها وجدها قد أخرجها أصحابها في قوالب مستحسنة وكسوها ألفاظا يقبلها بها من لم يعرف حقيقتها)3(3) «إعلام الموقعين» (4/229)..
الهوامش
(1) «مجلة البيان» عدد (174).
(2) «إعلام الموقعين» (3/ 159).
(3) «إعلام الموقعين» (4/229).
اقرأ أيضا
الغزو الفكريّ .. حقيقته وركائزه ووسائله
التهوين من عقيدة الولاء والبراء