الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين أما بعد:
فلقد تميز دين الإسلام بخصائص وصفات عظيمة تميزها عن المناهج البشرية الوضعية ولا غرابة في ذلك فهو منزل من عند الله عز وجل العليم الحكيم العزيز الرحيم (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك: 14) جاء شرع الله عز وجل متضمنا صفات منزله سبحانه وتعالى المنزه عن الجهل والهوى والنقص والتناقض (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافًا كَثِيرًا) (النساء: 82) ومن هذه الخصائص التي تميز بها المنهج الرباني:
خاصية التوازن والعدل والوسطية والتي عصم الله بها هذا المنهج من الاضطراب والذهاب إلى طرف الغلو والإفراط أو إلى طرف الجفاء والتفريط، فجاء وسطا عدلا متوازنا بين الطرفين وظهرت هذه الخاصية في جميع أبواب الدين عقائده وأحكامه وأخلاقه (وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا) (الفرقان:67).
الآية..المعنى والمراد منها
ومن هذه المقدمة ننطلق في بيان معنى هذه الآية الكريمة المعنون بها في هذا المقال (خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا) (النساء: 71) ونتلمس فيها خاصية التوازن والعدل والوسطية بين أخذ الحذر من الأعداء وإعداد العدة لمجاهدتهم وبيان باطلهم وتسخير اللسان والنفس والمال في ذلك، وأن أحدهما لا يلغي الآخر . وقبل الدخول في تفصيل هذا التوازن وربطه بواقعنا المعاصر وما فيه نقف عند بعض الأقوال الواردة عن السلف في معنى هذه الآية .
قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا) (النساء:71) .
قال الإمام القرطبي رحمه الله عند هذه الآية: (هذا خطاب للمؤمنين المخلصين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم وأمر لهم بجهاد الكفار والخروج في سبيل الله وحماية الشرع … وأمرهم أن لا يقتحموا على عدوهم على جهالة حتى يتحسسوا إلى ما عندهم، ويعلمون كيف يردون عليهم، فذلك أثبت لهم فقال: (خُذُوا حِذْرَكُمْ) فعلمهم مباشرة الحروب ولا ينافي هذا التوكل بل هو مقام عين التوكل … وقوله تعالى: (فَانفِرُوا ثُبَاتٍ) يقال: نفر ينفر بكسر الفاء نفيرا. ونفرت الدابة تنفر بضم الفاء نفورا، المعنى انهضوا لقتال العدو. واستنفر الإمام الناس دعاهم إلى النفر أي للخروج إلى قتال العدو. والنفير اسم للقوم ينفرون وأصله من النفار والنفور وهو الفزع… (ثُبَاتٍ) معناه جماعات متفرقات… كناية عن السرايا الواحدة ثبة وهي العصابة من الناس. (أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا) معناه الجيش الكثيف مع الرسول صلى الله عليه وسلم. ولا تخرج السرايا إلا بإذن الإمام ليكون متجسسا لهم، عضدا من ورائهم، وربما احتاجوا إلى درئه)1(1) تفسير القرطبي، سورة النساء الآية 71..
وقال البقاعي رحمه الله تعالى: (ولما كان سبحانه وتعالى قد خلق للإنسان عقلاً يحمله على التيقظ والتحرز من الخوف، فكان كالآلة له، وكان -لما عنده من السهو والنسيان في غالب الأوقات -مهملاً له، فكان كأنه قد ترك آلة كانت منه؛ قال سبحانه وتعالى: (خُذُوا حِذْرَكُمْ) أي من الأعداء الذين ذكرتهم لكم وحذرتكم منهم: المشاققين منهم والمنافقين)2(2) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور – 2/432..
وقال القاسمي رحمه الله تعالى: (دلت الآية على وجوب الجهاد وعلى استعمال الحذر، وهو الحزم، من العدو، وترك التفريط. وكذلك ما يحذرونه وهو استعمال السلاح على أحد التفسيرين)3(3) محاسن التأويل – 3/221..
وقال سيد قطب رحمه الله تعالى: (خذوا حذركم من عدوكم جميعا وبخاصة المندسين في الصفوف من المبطئين، الذين سيرد ذكرهم في الآية (فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا) … انفروا جماعات نظامية أو انفروا جميعا ولا ينفر بعضكم ويتثاقل بعضكم-كما هو واقع-وخذوا حذركم لا من العدو الخارجي وحده ولكن كذلك من المعوقين المبطئين المخذلين سواء كانوا يبطئون أنفسهم أي يقعدون متثاقلين أو يبطئون غيرهم معهم وهو الذي يقع عادة من المخذلين المثبطين…
ها هم أولاء-كما كانوا على عهد الرسول-صلى الله عليه وسلم-كما يكونون في كل زمان وكل مكان. ها هم أولاء ضعافا منافقين ملتوين صغار الاهتمامات أيضا لا يعرفون غاية أعلى من صالحهم الشخصي المباشر، ولا أفقا أعلى من ذواتهم المحدودة الصغيرة فهم يريدون الدنيا كلها على محور واحد… إنهم يبطئون ويتلكأون، ولا يصارحون ليمسكوا العصا من وسطها كما يقال وتصورهم للربح والخسارة هو التصور الذي يليق بالمنافقين الضعاف الصغار:
يتخلفون عن المعركة فإن أصابت المجاهدين محنة، وابتلوا الابتلاء الذي يصيب المجاهد في بعض الأحايين فرح المتخلفون وحسبوا أن فرارهم من الجهاد ونجاتهم من الابتلاء نعمة (فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيدًا) (النساء:72) إنهم لا يخجلون وهم يعدون هذه النجاة مع التخلف نعمة أن ينسبوها لله، الله الذي خالفوا عن أمره فقعدوا والنجاة في هذه الملابسة لا تكون من نعمة الله أبدا. فنعمة الله لا تنال بالمخالفة ولو كان ظاهرها نجاة)4(4) في ظلال القرآن – تفسير سورة النساء – الآية 71 ، 1/705..
وبعد معرفة المعنى العام لهذه الآيات نقف عند بعض هداياتها والدروس المستفادة منها:
الهداية الأولى..”خذوا حذركم فانفروا” طرفان وواسطة
أفادت الآية الأولى (خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا) أمرين ربانيين قل من يجمع بينهما اليوم وبخاصة في مجال الدعوة والجهاد. وهذان الأمران هما:
الأول: الأمر بأخذ الحذر والحيطة من الأعداء وكيدهم ومكرهم سواء كان ذلك العدو من الكفار والمرتدين أو كان من المنافقين المندسين بين المسلمين.
الآخر: النفرة للدعوة ومجاهدة الكفار والمنافقين بالممكن من جهاد البيان وجهاد السنان وجهاد المال.
والناس من الدعاة والمجاهدين في هذين الأمرين طرفان ووسط:
الطرف الأول
من بالغ وأفرط في أخذ الحيطة والحذر والخوف من كيد الأعداء وأذاهم حتى أوقعه ذلك في الأوهام والوساوس التي آلت به إلى التثاقل وعدم النفير في الدعوة ومجاهدة الكفار والمنافقين بالمقدور من الأسباب، فترك من أجل ذلك مجالات من الدعوة والتربية والتعليم والإعداد بحجة أخذ الحذر والحيطة.
الطرف الثاني
من بالغ وأفرط في جهاد الباطل وأهله حتى آل به الأمر إلى التهور والتفريط في أخذ الحذر والحيطة والاستهانة بكيد الأعداء ومكرهم بحجة القوة في الحق وعدم المبالاة بالأعداء وكيدهم مما كان له الأثر في كشف الأعداء لما عند الدعاة والمجاهدين من خطط وأهداف وبرامج واختراقهم الأمر الذي سبب الأذى والبطش بالدعاة والمجاهدين والقضاء على خططهم الدعوية والجهادية وإحباطها.
الوسط والتوازن
وهم الذين هداهم الله للحق والعدل فكانوا وسطا بين الطرفين السابقين وجمعوا بين الأمرين ولم يعملوا بواحد على حساب الآخر. بل جمعوا بينهما فقاموا بما أمر الله عز وجل به من استبانة سبيل المجرمين من الكفار والمنافقين ومعرفة كيدهم ومكرهم وأخذ الحيطة والحذر الممكن منهم، حتى فوتوا على العدو كيده ومحاولة اختراقه لصفوف المصلحين في الوقت الذي لم يمنعهم ذلك من القيام بالأمر الرباني الآخر ألا وهو النفرة في سبيل الله بالدعوة والجهاد حسب قدراتهم ولم يعطلوا بسبب الحذر والحيطة مجالات كثيرة من الدعوة والتعليم والتربية والإعداد.
وخلاصة القول في هذا الموقف المتوازن أنهم عملوا بالأمرين كليهما فلم يفهموا من الأمر بالحذر أن يناموا ويتثاقلوا بل فهموا أن يحذروا وينفروا، ولم يمنعهم الحذر من النفرة للجهاد. وفي المقابل لم يمنعهم النفرة للدعوة و الجهاد من التفريط في أخذ الحيطة والحذر والأسباب التي تفوت على العدو كيده وأهدافه.
الهداية الثانية..من الحذر والحيطة إلى التخذيل والتثبيط
إن الفئة التي تركت الدعوة والجهاد وتثاقلت عنهما بنفسها لم يقف بها الحال عند هذا الأمر بل تجاوز ذلك إلى أن يكونوا مثبطين ومخذلين ومبطئين لغيرهم يتهمونهم بالتهور وعدم الحكمة، فإذا أصاب الذين نفروا في سبيل الله شيئا من الأذى والابتلاءات تراهم يشمتون بهم ويرون أن تثاقلهم وعدم تعرضهم للأذى حكمة ونعمة من الله قال الله عز وجل عنهم: (وَإِنَّ مِنكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُن مَّعَهُمْ شَهِيدًا) (النساء:72) ويتجارى الأمر ببعضهم إلى أن يكون في خندق الظلمة مواليا لهم معاديا للمصلحين ومرددا لما يثار حولهم في كونهم دعاة فتنة وتطرف ومزعزعين للأمن والاستقرار ولا يخفى ما تحمله هذه الموالاة للمفسدين والمعاداة للمصلحين من صفات المنافقين بل إنها من أسباب هدم عقيدة الولاء والبراء.
الهداية الثالثة..حب الدنيا وكراهية الموت وراء التخذيل والتثبيط وموالاة المفسدين
ولو أن هؤلاء المثبطين المبطئين لأنفسهم ولغيرهم الذين يدعون الحكمة والتعقل أخذوا برخصة القعود وعدم الصدع بالحق لغلبة الظن بوقوع الأذى عليهم من جراء ذلك لكان في الأمر سعة ومندوحة. أما وإن الأمر خلاف ذلك حيث أن هناك مجالات كثيرة ومساحات كبيرة يستطيعون فيها أن يبينوا للناس الحق ويحذروهم من الفساد دون أدنى ضرر. ولكن داء القوم الوهن الذي أخبر عنه النبي صلى الله عليه وسلم الذي فسره بحب الدنيا وكراهية الموت وإيثار الراحة مهما أصاب الدين وأهله من الفساد والعبث والتبديل ودل هذا على أن تعليلهم قعودهم بالعقل والحكمة إنما هو لتبرير ضعفهم وإيثارهم للدنيا على الآخرة.
الهداية الرابعة..جهاد وشهادة وعقل وحكمة
يلزم هؤلاء المبطئين المثبطين لأنفسهم ولغيرهم أن يصفوا من أخذ بالعزيمة وصدع بالحق في وجه الظالم حتى قتل بالتهور وقلة العقل والحكمة وفي هذا والله رد لقوله تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ) (البقرة:207) وكذلك رد لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما سئل أي الجهاد أفضل قال: (كلمة حق عند سلطان جائر)5(5) رواه النسائي وأحمد وصححه الألباني..
وقد يحتجون بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا ينبغي لمسلم أن يذل نفسه، قيل: وكيف يذل نفسه قال: يتعرض من البلاء لما لا يطيق)6(6) رواه الإمام أحمد ..
والجواب على ذلك من وجهين هما:
الوجه الأول: أن علماء الحديث قد ضعفوا هذا الحديث.
الوجه الآخر: وعلى تقدير صحته فإن النهي لمن لا يجد في نفسه قوة تحمل للأذى وقد يؤدي به ذلك إلى أن يفتن في دينه ويضعف إيمانه ويسوء ظنه بربه.
الهداية الخامسة..فقه الموازنات
عندما يحتج بحديث (كلمة حق عند سلطان جائر) فإنه لا يغيب عنا فقه الموازنات وفقه إنكار المنكر بمعنى أن قول كلمة الحق عند سلطان جائر إن كان سيترتب عليها منكر أكبر من المنكر الذي كان عليه ذلك السلطان وذلك بأن يزيد هذا المنكر وينتشر أو كان هذا الإنكار سيجر مفاسد على الدعوة وأنصار الدعوة فإن الحكمة والعقل ومناط الشرع والحالة هذه تدعو إلى ترك هذا الإنكار.
أما إن كان الأذى سيقتصر على المنكر نفسه بإذائه أو سجنه أو قتله ولا يتعدى إلى غيره أو إلى الدعوة وبرامجها فهذا مما يحبه الله ويرفع صاحبه إلى درجات المجاهدين بل والشهداء في سبيل الله تعالى.
فما الذي يضير الخطيب في منبره والواعظ في موعظته والمعلم في مدرسته والشيخ في درسه أن يبين للناس ما نزل إليهم من الأحكام الشرعية في الحلال والحرام مدللة من الكتاب والسنة دون أن ينزلوا ذلك على واقع معين أو حادثة معينة قد يتم بعدها مساءلتهم عليها أو إيذاءهم بسببها ونخص من هذه الأحكام: الولاء والبراء والتسليم لنصوص الوحيين وتعظيم الله عز وجل وتعظيم حرماته وأوامره ونواهيه وأحكام المرأة المراد التحلل منها اليوم كأحكام الحجاب والاختلاط ولباس المرأة المسلمة وسفرها بلا محرم وخلوها بالأجانب دون محرم ….الخ هذه الأحكام التي يملك فيها الدعاة الأدلة القوية الصحيحة الصريحة من الكتاب والسنة.
أسأل الله عز وجل أن يبصرنا بالحق ويرزقنا الانقياد له وأن يستعملنا في طاعته ونصرة دينه والحمد لله رب العالمين.
الهوامش
(1) تفسير القرطبي، سورة النساء الآية 71.
(2) نظم الدرر في تناسب الآيات والسور – 2/432.
(3) محاسن التأويل – 3/221.
(4) في ظلال القرآن – تفسير سورة النساء – الآية 71 ، 1/705.
(5) رواه النسائي وأحمد وصححه الألباني.
(6) رواه الإمام أحمد .
اقرأ أيضا
أسباب النصر وأصول التمكين .. (1-2)
أسباب النصر وأصول التمكين .. (2-2)
مسؤولية الفرد عن انتكاسة الأمة.. (1-2) التكاليف الفردية والجماعية
مسؤولية الفرد عن انتكاسة الأمة.. (2-2) المسؤولية الفردية والتضامنية