من نعمة الله تعالى على عباده أن جعل لهم نماذج للتأسي؛ تمثلت فيهم الصفات التي يحبها تعالى، وأفضلهم الأنبياء خاصة أولوا العزم، وخاصتهم الخليلان إبراهيم ومحمد عليهما السلام.
مقدمة
إن الدعوة إلى الله تعالى طريق الأنبياء، عليهم السلام، وأتباعِهم كما قال تعالى: ﴿قُلْ هَذِهِ سَبيلِي أَدْعُو إلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا ومَنِ اتَّبَعَنِي وسُبْحَانَ اللَّهِ ومَا أَنَا مِنَ المُشْرِكِينَ﴾ (يوسف: 108)
وكان مما اعتنى به القرآن الكريم ذكر قصص دعوات الأنبياء، وتصويرها بأبلغ أسلوب، وعرْضها بأدق عبارة، حتى أصبحت أخبارهم في القرآن نماذج حيّة يحتذيها الدعاة ويقتبسون من نورها، ويهتدون بهداها ﴿أُوْلَئِكَ الَذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ﴾ (الأنعام: 90).
أسباب الاختيار الموضوع
وقد اخترنا دراسة موضوع الدعوة إلى الله من خلال قصة إمام الحنفاء وأبي الأنبياء إبراهيم، عليه السلام، ولم يكن اختياري لهذه الدعوة جزافاً بل لأسباب أوجزها فيما يلي:
أولاً: أنها دعوة خليل الرحمن، ومؤسِّس الحنيفية، وأحد أولي العزم الخمسة من الرسل.
ثانياً: أن رسولنا محمداً، صلى الله عليه وسلم، قد أُمر باتّباع ملّته ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إبْرَاهِيمَ حَنِيفاً ومَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ﴾. (النحل: 123)
ثالثاً: تلك الصفات العظيمة التي تحلَّى بها إبراهيم حتى قال الله تعالى فيه ﴿وإبْرَاهِيمَ الَذِي وفَّى﴾ (النجم: 37) فكانت نبراساً يَقتفِى أثرَه فيها الدعاةُ إلى الله.
رابعاً: استغراق القرآن واستقصاؤه لأساليب إبراهيم المتنوعة في عرض دعوته على قومه، حتى إنه ليعزّ على الباحث أن يجد لنبي من الأنبياء خلا نبينا ـ صلى الله عليه وسلم ـ مثلما يجد لهذه الأيام من الطرائق والسُّبل في إقناع المدعوّين وترويضهم على قبول الدعوة. ولا غرو فقد سنَّ للناس من بعده من الدعوة أساليب لم تُعهد لأحدٍ من قبله ولم تقف عند حدِّ الكلمة بل تخطَّتْها إلى الحركة والفعل.
خامساً: رسمت هذه الدعوة للدعاة منهاجاً في الصبر يحق لهم أن يقتدوا به، فقد صبر إبراهيم، عليه السلام، في أحوال مختلفة وظروفٍ متباينة وأعمال متنوعة كالصبر على جفاء الأبوّة، وعدوان العشيرة، وهجران الأرض، والفتنة بالنار، والأمر بذبح الولد، وغير ذلك.
وسنعرض الموضوع من خلال نماذج من صفات إبراهيم، عليه السلام، الدعوية وأساليبه في نشر دعوته.
نماذج من صفات إبراهيم الدعوية
لن يتسع المقام لحصر تلك الصفات التي اتسم بها إبراهيم، عليه السلام، فلقد وصفه ربه بأنه وفّي جميع مقامات العبد مع ربه ولذلك سنقتصر على جملة من الصفات ونخص بالذكر منها ما له صلة ظاهرة بدعوته، وله أثر ظاهر في الاهتداء والاقتداء به.
وصْف «أمة»
قال تعالى: ﴿إنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً..﴾ (النحل: 120). وهذه الكلمة «أمة» تأتي لعدة معانٍ.
منها “الجماعة” ﴿كَانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً﴾، ومنها “الزمان” و”الحين” ﴿وادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ﴾ ومنها: “الرجل الجامع لخصال الخير حتى يقوم مقام أمة من الناس”. وهذا هو المقصود في حق إبراهيم.
وهذه تدلنا على عظيم ما كان يتصف به إبراهيم من عبادة ودعوة وخُلق حري بأن يَحتذِي به الدعاة في حياتهم وتزكية أنفسهم، واجتهاد أحدهم في تقويم أخلاقه والنشاط في دعوته ليقوم مقام أمة في ذلك.
وقيل أن المقصود بالأمة هنا: أي “الإمام”، أي قدوة يقتدى به في الخير، وممن قال به ابن جرير الطبري وابن كثير.
وصْف «القنوت»
قال تعالى: ﴿إنَّ إبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِّلَّهِ حَنِيفاً﴾ (النحل: 120)، والقنوت: “لزوم الطاعة مع الخضوع”. وكذا يجب أن يكون الداعية ملازماً لطاعة الله على كل حال، فلا يكون كالمنبتّ يجتهد حتى تكلّ راحلته، ثم ينقطع، بل يلازم ويستقيم.
وصْف «الحنيف»
و”الحَنَف”: الميل عن الضلال إلى الاستقامة، والحنيفُ: المائل، و”الجنَف”: ضده. والأحنف: مَنْ في رجله ميل سمي بذلك تفاؤلاً، وقيل لمجرد الميل.
قال ابن كثير:
“الحنيف: المنحرف قصداً عن الشرك إلى التوحيد”. (1تفسير ابن كثير، سورة النحل، الاية: 120)
وقد كان ذلك من إبراهيم حتى عُدَّ إمام الحنفاء الموحدين، قال تعالى: ﴿ولَمْ يَكُ مِنَ المُشْرِكِينَ﴾، وقال: ﴿ومَا كَانَ مِنَ المُشْرِكِينَ﴾، وهكذا فليكن أولياء الله.
وصْف «الشاكر»
قال تعالى: ﴿شَاكِراً لأَنْعُمِهِ﴾ (النحل: 121) أي قائماً بشكر نعم الله عليه.
وأصل “الشكر” ظهور أثر الغذاء في أبدان الحيوان ظهوراً بيناً. يقال: شكَرَت الدابة: أي سمنت وظهر عليها العلف، وكذلك حقيقته في العبودية: وهذا ظهور أثر نعمة الله على لسان عبده: ثناء واعترافاً، وعلى قلبه: شهوداً ومحبة، وعلى جوارحه: انقياداً وطاعة.
و”الشكر” مبني على خمس قواعد: خضوع الشاكر للمشكور، وحبه له، واعترافه بنعمته، وثناؤه عليه، وأن لا يستعملها فيما يكره (2انظر مدارج السالكين)، وقد كان ذلك من إبراهيم، عليه السلام.
وصف «الحلم»
قال تعالى: ﴿إنَّ إبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ﴾ (هود: 75)
و”الحِلم”: ضبط النفس والطبع عن الهيجان عند الاستثارة. و”الحليم”: الكثير الحلم.
وقد تجلت صفة الحلم في إبراهيم ومنها موقفه من مقالة أبيه ﴿لأَرْجُمَنَّكَ﴾ (مريم: 46)، ومن العتاةِ قومِ لوط حينما مرَّت به الملائكة وأخبرتْه بما أُمرت بها قال: ﴿فلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وجَاءَتْهُ البُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ * إنَّ إبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ﴾ (هود: 74-75)، ولم يكن حِلم إبراهيم ذريعة يتذرع للسكوت عن المنكر؛ بل كان يعلن الحق وينكر الباطل: ﴿وتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ﴾ (الأنبياء: 57)
وصف «أوّاه»
قال الراغب الأصفهاني:
“الذي يُكْثر التأوه وهو أن يقول: أوّه وكل كلام يدل على حزن يقال له التأوّه، ويعبر بالأوّاه، عمن يظهر خشية الله تعالى”. (وقال السمين الحلبي: ” الأواه: الذي يكثر قول: آه آه، والتأوه كل كلام يظهر منه تحزن، وقوله ﴿أْوَاه﴾ [التوبة 114]، قيل: هو المؤمن الداعي، وقيل من يخشى الله تعالى حق خشيته، والأواه: الكثير التأوه خوفاً من الله تعالى، (3عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ، ص 33/طبعة اسطنبول).
والذي يتحقق من معنى “الأوّاه” أنه الخاشع الدعّاء المتضرع، وكثرة تأوّه إبراهيم وتضرعه بين يدي ربه قد ذكرت في آيات كثيرة تدل على تحقيق إبراهيم ﴿رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وإلَيْكَ أَنَبْنَا وإلَيْكَ المَصِيرُ﴾ (الممتحنة:4)، وجدير بمن سلك طريق الدعوة أن يجعل تعجيل الإنابة من أبرز سماته ليكسب عون ربه وتسديده ومحبته.
وصْف «السخاء»
قال تعالى: ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إبْرَاهِيمَ المُكْرَمِينَ * إذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًاً قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ * فَرَاغَ إلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إلَيْهِمْ قَالَ أَلا تَأْكُلُونَ﴾ (الذاريات: 26)؛ فذكر أن الضيف مُكرَمون لإكرام إبراهيم لهم، ولم يذكر استئذانهم ليدل على أنه قد عُرف بإكرام الضيفان، مع أنهم قوم مُنكَرون لا يعرفهم فقد ذبح لهم عجلاً واستسمنه، ولم يُعْلمهم بذلك بل راح، أي “ذهب” خفية حتى لا يُشعَر به، تجاوباً لضيافة، فدلَّ على أن ذلك كان مُعداً عندهم مهيئاً للضيفان، وخدمهم بنفسه، فجاء به ومرّ به إليهم ولم يقرّبهم إليه، وتلطَّف مبالغة في الإكرام فقال: ﴿أَلا تَأْكُلُونَ﴾. قال ابن القيم:
“فقد جمعت هذه الآية آداب الضيافة التي هي أشرف الآداب، وما عداها من التكلفات التي هي تَخَلف وتكلف: إنما هي من أوضاع الناس وعوائدهم، وكفى بهذه الآداب شرفاً وفخراً، فصلَّى الله على نبينا وعلى إبراهيم وعلى آلهما وعلى سائر النبيين”. (4التفسير القيم 446)
وصْف «الصبر»
كان إبراهيم مثلاً يُحتذَى في الصبر حتى استحق أن يكون من أولي العزم الذين أُمر رسولنا، صلى الله عليه وسلم، أن يصبر كصبرهم ﴿فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُوا العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ﴾ (الأحقاف:35). وكان صبر إبراهيم شاملاً لابتلاءات كثيرة، سيأتي بيان جملة منها بإذن الله.
رعايته لأهله
لم يكن إبراهيم ممن يلتفت إلى الناس بدعوته ويترك أهله، بل بدأ بهم وخصهم بمزيد الرعاية والعناية وقد قال الله لمحمد، صلى الله عليه وسلم: ﴿وأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ﴾ (الشعراء: 214) وكذلك كان إبراهيم.. فدعا أباه ﴿يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا … لا يَسْمَعُ ولا يُبْصِرُ﴾ (مريم: 42)، ووصّى أبناءه بالتمسك بالدين ﴿ووَصَّى بِهَا إبْرَاهِيمُ بَنِيهِ ويَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إلاَّ وأَنتُم مُّسْلِمُونَ..﴾ (البقرة: 132)، وكان يدعو ﴿واجْنُبْنِي وبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ﴾ (ابراهيم: 35)، ويتضرع بقوله: ﴿رَبَّنَا إنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إلَيْهِمْ وارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ (إبراهيم: 37)
شجاعته
واجه إبراهيم قومه ولم يخْشَ كيدهم وقال مقسماً: ﴿وتَاللَّهِ لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ﴾ (الأنبياء: 57)، وقوله لهم: ﴿أُفٍّ لَّكُمْ ولِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ..﴾ (الأنبياء: 67)
وكان ذلك لعلم إبراهيم بأن معه القوة التي لا تُهزم، وأن ما أصابه لم يكن يخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه؛ فرسم للدعاة منهجاً في الشجاعة المنضبطة بضوابط الشرع ـ بلا تهوّر ـ يحتذونه في مواجهة الباطل من إقرار الحق.
تحقيقه الكامل لعقيدة الولاء والبراء
قال تعالى عن قول إبراهيم ﴿فَمَن تَبِعَنِي فَإنَّهُ مِنِّي﴾ (إبراهيم: 36)، وقال: ﴿وإذْ قَالَ إبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وقَوْمِهِ إنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ * إلاَّ الَذِي فَطَرَنِي فَإنَّهُ سَيَهْدِينِ﴾ (الزخرف: 26-27) فكل عدو لله وإن قربه النسب تجب البراءة منه، وكل وليّ لله وإن باعدت به الأوطان والأزمان تجب موالاته ومحبته. وقد أُمرنا أن نتأسى بإبراهيم في ذلك: ﴿قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إبْرَاهِيمَ والَّذِينَ مَعَهُ إذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ ومِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وبَدَا بَيْنَنَا وبَيْنَكُمُ العَدَاوَةُ والْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وحْدَهُ﴾. (الممتحنة: 4)
سلامة القلب
قال تعالى: ﴿وإنَّ مِن شِيعَتِهِ لإبْرَاهِيمَ * إذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ﴾ (الصافات: 83-84). وسلامة القلب نوعان؛ كلاهما داخل في مضمون الآية:
أحدهما: في حق الله وهو سلامة قلبه من الشرك، وإخلاصه العبودية لله، وصدق التوكل عليه.
والثاني: في حق المخلوقين بالنصح لهم وإيصال الخير إليهم، وسلامة القلب من الحقد والحسد وسوء الظن والكِبْر وغير ذلك.
خاتمة
وبعد؛ فهذه جملة مختصرة من الصفات الدعوية لإبراهيم عليه السلام هي محل أسوة واقتداء، ليقتطف منها امرؤ ويتأسى بها السالك.
كم نحتاج الى النظر في هذه المعاني وتدبرها، ومعايشتها والانطباع بها؛ فلا أزكى من هذه الصفات التي ذكرها رب العالمين وزكّاها وأثنى على أصحابها، وبلغ صاحبها أن صار بثقل أمة مما جمع من خصال الخير.. سائلاً الله تعالى أن يوفقنا لاتباع ملته والسير على منهجه وبالله التوفيق.
وصلى الله على محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا الى يوم الدين.
…………………………………….
الهوامش:
- تفسير ابن كثير، سورة النحل، الاية: 120.
- انظر مدارج السالكين.
- وقال السمين الحلبي: ” الأواه: الذي يكثر قول: آه آه، والتأوه كل كلام يظهر منه تحزن، وقوله [أْوَاه] [التوبة 114]، قيل: هو المؤمن الداعي، وقيل من يخشى الله تعالى حق خشيته، والأواه: الكثير التأوه خوفاً من الله تعالى، (عمدة الحفاظ في تفسير أشرف الألفاظ، ص 33/طبعة اسطنبول).
- التفسير القيم 446.
المصدر:
- محمد الخضيري، مجلة البيان، العدد 66.