لما كانت الحياة جادة، والآخرة آتية لا ريب فيها؛ كانت الأعمال والأقوال محل مراقبة ومراجعة واستعتاب؛ وفي سلف الأمة نماذج مضيئة.
مقدمة
غاية وجودنا أن نعبد الله تعالى، وعندما نسلك الطريق يجب أن نعرف شرفه وعظمته وحساسيته. كما ينبغي أن ندرك قيمة العمل وقيمة وجودنا في هذه الحياة، وشرف سلوك الطريق.
ويجب أن ندرك أيضا مغبة المخالفة وعاقبة الطاعة، وأن الكلمة والموقف والعمل والترك؛ كل هذا له عاقبته وحسابه بين يدي رب العالمين.
إن الأمر عظيم الشأن، جاد المأخذ؛ قد قامت له الدنيا وخُلقت من أجله؛ فلم نأت للعب ولا للعبث. ومن لم يدرك هذا اليوم أدركه غدا عندما ينكشف الغطاء ويعاين الغيب.
ولهذا فالعقل والحزم أن تدرك هذا وقت نفع الإدارك وإمكان الاستعتاب والإصلاح وتغيير الحال.
ومن هنا كان للسلف مأخذهم في محاسبة النفوس ومراجعة الأعمال والمواقف، ومراجعة العمر وإنفاقه فيما ينفع، والتوقي الشديد ألا يمر بغير نفْع؛ فضلا أن يكون في معصية.
ذلك المأخذ هنيء العاقبة سعيد النهاية؛ بخلاف نسيان النفس وتركها على هواها واتباع هواها فيما هوت وفيما اشتهت.
وتلك نماذج لسلف أمتنا الكرام، من اقوالهم وأفعالهم مأخذهم لنفوسهم. تضيء لك الطريق وتمثل لك إشارات؛ لتسلك من بعدهم على نهجهم الكريم؛ فنِعْم القوم كانوا.
نماذج لمحاسبة النفوس
ذكر الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسَبوا، وزِنوا أنفسكم قبل أن توزنوا؛ فإنه أهون عليكم في الحساب غدًا أن تحاسِبوا أنفسكم اليوم، وتزيَّنوا للعرض الأكبر؛ يومئذ تُعرضون لا تخفى منكم خافية».
وذكر أيضًا عن الحسن قال: «لا تلقى المؤمن إلا يحاسب نفسه: ماذا أردت تعملين؟ وماذا أردت تأكلين؟ وماذا أردت تشربين؟ والفاجر يمضي قُدُمًا لا يحاسب نفسه».
وقال قتادة في قوله تعالى: ﴿وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا﴾ [الكهف: 28]: «أضاع نفسه وغُبن، مع ذلك تراه حافظًا لماله مضيعًا لدينه».
وقال الحسن: «إن العبد لا يزال بخير ما كان له واعظ من نفسه، وكانت المحاسبة من همته».
قال ميمون بن مهران: «لا يكون العبد تقيًّا حتى يكون لنفسه أشد محاسبة من الشريك لشريكه؛ ولهذا قيل: النفس كالشريك الخوَّان؛ إن لم تحاسبه ذهب بمالك».
وقال ميمون بن مهران أيضًا: «إن التّقيّ أشد محاسبةً لنفسه من سلطانٍ عاص، ومن شريك شحيح».
وذكر الإمام أحمد عن وهب قال: «مكتوب في حكمة آل داود: حق على العاقل ألا يغفل عن أربع ساعات: ساعة يناجي فيها ربه، وساعة يحاسب فيها نفسه، وساعة يخلو فيها مع إخوانه الذين يخبرونه بعيوبه ويصْدُقونه عن نفسه، وساعة يُخلي فيها بين نفسه وبين لذّاتها فيما يحل ويجمل؛ فإن في هذه الساعة عونًا على تلك الساعات، وإجمامًا للقلوب».
«وكان “الأحنف بن قيس” يجيء إلى المصباح، فيضع أصبعه فيه، ثم يقول: حِسَّ يا حنيف، ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟ ما حملك على ما صنعت يوم كذا؟».
«وكتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى بعض عماله: حاسب نفسك في الرخاء قبل حساب الشدة؛ فإن من حاسب نفسه في الرخاء قبل حساب الشدة عاد أمره إلى الرضا والغبطة، ومن أَلْهَتْه حياته وشغلته أهواؤه عاد أمره إلى الندامة والخسارة».
وقال الحسن: «المؤمن قَوَّام على نفسه؛ يحاسب نفسه لله؛ وإنما خفَّ الحساب يوم القيامة على قوم حاسَبوا أنفسهم في الدنيا، وإنما شقَّ الحساب يوم القيامة على قوم أخذوا هذا الأمر من غير محاسبة، إن المؤمن يفاجئه الشيء ويعجبه، فيقول: والله إني لأشتهيك، وإنك لمن حاجتي، ولكن والله ما من صلة إليك، هيهات هيهات، حيل بيني وبينك.
ويفرط منه الشيء فيرجع إلى نفسه، فيقول: ما أردت إلى هذا؟ ما لي ولهذا؟ والله لا أعود إلى هذا أبدًا.
إن المؤمنين قوم أوقفهم القرآن وحال بينهم وبين هلكتهم؛ إن المؤمن أسير في الدنيا يسعى في فكاك رقبته، لا يأمن شيئًا حتى يلقى الله؛ يعلم أنه مأخوذ عليه في سمعه وفي بصره، وفي لسانه، وفي جوارحه؛ مأخوذ عليه في ذلك كله».
قال مالك بن دينار: «رحم الله عبدًا قال لنفسه: ألست صاحبة كذا؟ ألست صاحبة كذا؟ ثم زمّها، ثم خطمها، ثم ألزمها كتاب الله عز وجل، فكان لها قائدًا». (1«إغاثة اللهفان» (1/ 78-79))
«وعن ثابت البناني قال: قال شداد بن أوس يومًا لرجل من أصحابه: هات السفرة نتعلل بها؛ قال: فقال رجل من أصحابه: ما سمعت منك مثل هذه الكلمة منذ صحِبتُك؛ فقال: ما أفلتت مني كلمة منذ فارقت رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا مزمومة مخطومة؛ وأيم الله، لا تنفلت غير هذه». (2«حلية الأولياء» (1/ 265))
«وعن نافع: أن ابن عمر رضي الله تعالى عنه كان إذا فاتته صلاة العشاء في جماعة أحيا بقية ليلته. وقال بشر بن موسى: أحيا ليلته». (3«الحلية» (10/ 303))
«وقال مطرّف بن عبد الله: إني لأستلقي من الليل على فراشي فأتدبر القرآن، وأعرض عملي على عمل أهل الجنة؛ فإذا أعمالهم شديدة: ﴿كَانُوا قَلِيلا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ﴾ [الذاريات:17]، ﴿يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا﴾ [الفرقان: 64]، ﴿أَمْ مَنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا﴾ [الزمر: 9]؛ فلا أراني فيهم.
فأعرض نفسي على هذه الآية: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ﴾ [المدثر:42]؛ فأرى القوم مكذبين، وأمر بهذه الآية: ﴿وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا﴾ [التوبة: 102]؛ فأرجو أن أكون أنا وأنتم يا إخوتاه منهم». (4«الحلية» (2/ 198))
وعن أبي سنان عن عمرو بن قيس الملائي قال: «إذا شُغلت بنفسك ذهلتَ عن الناس، وإذا أشغلتَ بالناس ذهلت عن ذات نفسك». (5«الحلية» (5/ 79))
وقال يونس بن عبيد: «ما لي تضيع لي الدجاجة فأجد لها، وتفوتني الصلاة فلا أجد لها؟». (6«الحلية» (3/ 19))
وعن عبد الله بن عون: «أنه نادته أمه، فأجابها، فعلا صوته صوتها؛ فأعتق رقبتين». (7«الحلية» (3/ 39))
وعن أبي حازم ـ سلمة بن دينار ـ قال: «انظر الذي تحب أن يكون معك في الآخرة فقدِّمْه اليوم، وانظر الذي تكره أن يكون معك ثَمَّ فاتركه اليوم». (8«الحلية» (3/ 238))
وعن سفيان بن عيينة قال: «قال إبراهيم التيمي: مثَّلتُ نفسي في النار أعالج أغلالها وسعيرها، وآكل من زقومها، وأشرب من زمهريرها؛ فقلت: يا نفسي، أيَّ شيء تشتهين؟ قالت: أرجع إلى الدنيا أعمل عملًا أنجو به من هذا العذاب؛ ومثَّلت نفسي في الجنة، مع حورها، وألبس من سندسها وإستبرقها وحريرها؛ فقلت: يا نفسي، أيَّ شيء تشتهين؟ قالت: أرجع إلى الدنيا، فأعمل عملًا أزداد من هذا الثواب؛ فقلت: أنت في الدنيا، وفي الأمنية». (9«الحلية» (4/ 211))
عن حامد اللفاف قال: «سمعت حاتمًا الأصم يقول: تعاهدْ نفسك في ثلاث مواضع: إذا عملتَ فاذكر نظَرَ الله تعالى عليك، وإذا تكلمت فانظر سمْع الله منك، وإذا سكتَّ فانظر علم الله فيك». (10«الحلية» (8/ 75))
خاتمة
هكذا كان القوم، وهكذا أخذوا أنفسهم وراقبوا أحوالها، وهكذا أنزلوها محل الشريك الخائن، ومحل التهمة الخليقة بالاتهام وشدة المحاسبة. وبهذا أصبحوا نماذج للخير وعلامات عليها؛ هداهم الله وهدى بهم. ولا يزال الخلق يراجعون كلماتهم؛ فنعم الاصطفاء ونعم المأخذ.
وليس بينك وبين القوم إلا صدق المأخذ وجدية العزم ومعايشة الآخرة والتصور الكامل لها وإنزال نفسه بين أهلها؛ فعندها ستندفع بلا تكلف لتسلك الطريق؛ إذ هو طريق واحد سبقك فيه هؤلاء الكرام؛ فعلى دربهم فكُن إن شاء الله.
………………………………………
الهوامش:
- «إغاثة اللهفان» (1/ 78-79).
- «حلية الأولياء» (1/ 265).
- «الحلية» (10/ 303).
- «الحلية» (2/ 198).
- «الحلية» (5/ 79).
- «الحلية» (3/ 19).
- «الحلية» (3/ 39).
- «الحلية» (3/ 238).
- «الحلية» (4/ 211).
- «الحلية» (8/ 75).