ثمة ضغط في الحضارة المعاصرة يضغط فيها تصور الآلة، حتى على الإنسان المسلم نفسه فيغيب عنه سعة وشمول وحضور اسم الله «القيوم».
مقدمة
عندما تدعو ربك «ناصيتي بيدك»؛ فهذه كلمة يُدلِي بها الداعي صاحب الهَمّ والمكروب والمكروب لربه قائلا «ناصيتي بيدك»..
الملك بيد الله، والناصية أعلى ما في الإنسان؛ فإن مُلكت مُلك كل ما سواها لمن يملكها.. والله سبحانه وتعالى يملك العبد كله، ويملك ناصيته وناصية آبائه..
إن هذه الكلمة «ناصيتي بيدك» جملة مفهومة للبداهة على وجه الإجمال، ويقر بها الطائع والعاصي بل والكافر أحيانا، لكنها لا تأخذ حقها من العمق والتصور، بل أزعم أن في تصور معناها نوعا من القصور يحتاج إلى بيان..
تصور “الآلة”
ذلك أن عندنا تصور (طبيعة الآلة)؛ فـمفهومنا للملك هو (ملك الآلة).. كأنك تصنع آلة ثم عندما تضغط على زر التشغيل فإنها تعمل، لكن ليس ثمة متابعة لحظية بعد ذلك.. فيظن الناس ـ وللأسف ـ أنهم كالآلات، وأن الله سبحانه وتعالى قد خلقهم، ثم كأنه ـ بحسب لسان الحال ـ لا يكون له علاقة بهم حتى يأتوه سبحانه وتعالى يوم القيامة.. وأن العبد في مدة الحياة يعمل كآلة، حتى يقضى عليه بالموت، وعندها يعود إلى الله تعالى فيحاسبه، لكنه في حال الحياة كانت العلاقة علاقة آلية ليست هناك أوامر ربانية في كل لحظة، وليس هناك قوامة ربانية شاملة للعبد في كل آنٍ بحسبه، ويتصور الناس أن القدَر عندما كتب مرة واحدة فإن العبد يمشي على مضمون صحيفته ثم تطوى عند الوفاة وحسب، وما بينهما لا علاقة حية ولا نابضة ولا مراقبة ولا مهيمنة تتبع العبد في خلجاته وسكناته من قِبل رب العالمين.
قد يدرك العبد جزءا من معنى القوامة الربانية عند طلب حاجة خاصة من الله، لكنه يعود فينسى ولا يجعل ما فهمه وأدركه في لحظة هو خطة حياته التي يرتبها على وفقها.
القدر الأزلي لا يمنع القوامة اللحظية
إن القدَر المكتوب قبل خلق الحياة بخمسين ألف سنة حق، والقدَر المكتوب للعبد وهو في بطن أمه حق، حق لكنه جزء من الحقيقة؛ وذلك أن مع القدر الأزلي هناك القدر السنوي، وهناك القدر اليومي، وهناك القدر اللحظي؛ بحيث لا تتم عملية واحدة في الجسد إلا بقدَر خاص، ولا تطرف عين أو ينبض عِرق إلا بقدر خاص، ولا ينطق أحد أو يخطو خطوة واحدة إلا بقدر خاص، بل ولا تسقط ورقة إلا بقدر خاص، ولا تنزل قطرة من السماء إلا بقدر خاص وفي مكان مقدَر وبحجم مقَدر والى غاية تسلكها هذه القطرة مقدَرة ومكتوبة.
إن تصور الآلة والغفلة عن العلاقة النابضة واللحظية والآنية برب العالمين والتي لا تُعجزه ولا تُتعبه ولا يكترث بها من ثقل، والتصور الباهت لتلك الحقيقة المذهلة والكفيلة بتغيير حياة العبد. هذا التصور موجود دائما على طول العمر البشري كقصور في تصور معنى اسم الله تعالى «القيوم»، لكن في (الإنتاج المعاصر) وفي زمن الآلة المعاصرة يصعب هذا الأمر بصفة خاصة.. وهذا التصور تصور قاصر وخطأ..
وهذا التصور قد عرض بعض الدعاة الشكوى منه، فقد جاءه شاب ألماني قد أسلم .. يقول الشاب وهو يشتكي: أنا مسلم، لكن تصور الآلة يضغط علي فهمي للقدَر في تدبير أمر السماوات والأرض والشمس والقمر والتي تسير وفق قانون محدد لا يتخلف، فلا أستطيع أن أتصور أن السماوات والأرض تسير بالأقدار.. ففي تصوري أنها تعمل كأنها (آلة)..!
هذه شكوى من مسلم معاصر صادق في طلب تصحيح تصوره واستقامته مع دين الله تعالى.
والإجابة أن هذا تصور خطأ، لأن كل شيء بقدر الله، ولكن الشأن أن تفهم أن الأقدار متنوعة؛ فهناك أقدار يأمر الله سبحانه وتعالى فيها المخلوق أن يلتزم حركة محددة لا يحيد عنها إلى الحين الذي يقدره الله تعالى مثل الشمس؛ فإنها مأمورة أن تخرج من نفس المكان الذي خرجت منه بالأمس، وأن تكون حركتها منتظمة إلى هذه الدرجة من الدقة التي يضبط الناس عليها حياتهم، فالدقة الشديدة لا تنفي أنها تتلقى في كل يوم أمرا جديدا يحفظ هذا الانتظام إلى اليوم الذى يريد الله تعالى أن تختلف هذه الحركة ..
وبينما هذا المخلوق له أمر بأن يخرج من نفس المكان.. بنفس الدقة.. في نفس الزمن.. يكون لمخلوق آخر أمر آخر بتغير محدود كالنبات.. ولمخلوق ثالث أمر خاص له أن يتغير تغيرا لحظيا هائلا كموج البحر وكحركة الحيوان والإنسان.. والأقدار تجري بهذا وبهذا؛ فـهذا له قدَر، وذاك له قدَر، والآخر له قدَر كذلك..
السنن المنتظمة والقوامة
فهذه السنن المنتظمة لها قدَرها المتكرر، اليومي واللحظي، بأن تبقى على هذا الانتظام الدقيق.
وعندنا في المفهوم الإسلامي وفي مفهوم أهل السنة أن هناك قدر مكتوب، وأن له مراتب في الكتابة؛ فـقبل أن يخلق الله سبحانه وتعالى السماوات والأرض قدر المقادير وكتبها، وعندما يكون الإنسان في بطن أمه فله قدَره الذي يكتب له، وهو الجزء الخاص به من القدر الأول والأشمل، وفي ليلة القدْر هناك قدَر سنوي ينزل، ثم هناك قدر يومي .. كما أن هناك قدر لحظي؛ فثمة قدَر خاص بكل حركة وسكنة.
ولهذا شرع لنا من الأذكار والأدعية ما يحفظ هذا المعنى، ويحفظ له حيويته، ويذكر به على فترات متقاربة.. أكثر من مرة في اليوم مع أحداث لو تُركت على سجيتها لكانت روتينية محضة، لكن شرع لنا ربنا سبحانه على لسان المعصوم صلى الله عليه وسلم أن نذكره تعالى بما يحفظ تدفق وحيوية هذا المعنى العميق..
ـ وانظر إلى قوله تعالى: ﴿وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ ۚ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ ۚ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ﴾ [الأنعام: 59].
والرطب واليابس والحبة التي تتدحرج في باطن الأرض والورقة الساقطة هذه أمور ليست ثابتة ولا جامدة بل هي أمور متحركة في كل لحظة وهي بآلاف آلاف الأعداد والحركات، وهناك قدَر أن تسقط هذه الورقة هكذا فتقع في هذا المكان المحدد والمكتوب، وإحصاؤها ـ على فرض أنها ثابتة ـ أمر مذهل فما بالك وهي متحركة ودائمة الحركة، ومع هذا فكل حركة بإذن وقدَر خاص لكل شيء منها على حدة، يحيط بها علم الله تعالى ولا تخرج عن إذنه وقبضته ولا تتحرك إلا بإذنه وعلمه.
ـ وانظر إلى قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ [الرحمن: 29].
وعندما يدرك العبد هذا المعنى فسيعلم معنى اسم الله «القيوم»؛ فالله سبحانه وتعالى قائم على خلقه، وعلي كل ما في الوجود..
إن هذا التصور لا بد أن يكون بهذه الحيوية الدافقة حتى نتصور معنى «ناصيتي بيدك»، وندرك أن كل ما فينا وكل ما بداخل جسدنا إنما هو بأمر يخصه، فكما هو مِلْك له فهو قيوم عليه، فلا يتم هضم شيء إلا بأمر وإذن، ولا تنتظم خلية في مكانها إلا بأمر وقدر، ولو شاء ربك لخلية أن تنقسم انقساما غير منتظم أو غير معتاد لكان مرضا خطيرا؛ فكل بقدر.. وكل لحظة كذلك بقَدر.
فعندما يقول العبد «ناصيتي بيدك» فلا يقولها على وجه أنها كلام عام للتبرك، بحيث يكون لسان حال القائل يَشي بأنه يقول أمرا لا يعطيه حقه من التصور ومن الإدراك والعمق، والواجب أن نعلم أن هذه حقيقة يجب أن نفهمها، وأن نتصورها بعمقها، وأن نقولها بهذا التصور، وأن نتذوقها ونجد مذاقها في نفوسنا، وأن نرى من خلالها أن كل ما فينا من باطن جسدنا وظاهره، وحالنا وحال أولادنا، وحال مساكننا وأعمالنا وأهلنا وغيرها من جميع أمورنا الخاصة والعامة، وأمور الخلق جميعا مؤمنهم وكافرهم، أنما هي بقدر، وبأمر رباني خاص لكل ذرة ولكل مخلوق في هذا الوجود، وفي كل لحظة بذاتها..
فالطعام بقدَر، والشراب والملبس والمسكن والمبيت وكل لحظة بقدر، حتى إن نزل بلاء فإنه ينزل بقدَر وبقدْر، ويرفع بقدَر وبقدْر، فـالله سبحانه وتعالى لم يغِبْ عن الناس.
فإنه سبحانه وتعالى لا يغيب عنك، والله سبحانه وتعالى لم يخلقك ثم يتلقاك يوم القيامة وما بين ذلك لا علاقة له بك بل تعمل خلالها كآلة لا يتدخل الله تعالى فيها ـ حاشاه سبحانه وتعالى، فهذا تصور مضطرب وخطأ.
إنما التصور الحقيقي والصحيح هو أن الله سبحانه وتعالى «قيوم»، فلم تدب على الأرض إلا بإمساكه لك وبإمساك الأرض لك وبإمساك السماوات لك، وبأمر خاص بك، بفلان ابن فلان، لحظة بلحظة.
وهذا هو شأن الإله؛ ألا يترك ذرة إلا وهو ويعلمها يحفظها ويقيمها ويمسكها، في كل وقت بوقته لحظة بلحظة، محفوظة بأمر الله.. كما يشير شيخ الإسلام إلى ما نأكل من غذاء، ثم يأتي كل جزء منه فيذهب إلى كل خلية بحسبها وكل موضع في جسدك بحسب احتياجاته؛ فيذهب مهضوما إلى العين بطريقة، وإلى العظم بطريقة، ويغذي الدم بطريقة، ويغذي اللحم بطريقة.
فـ :
“هو الذي يوصل الغذاء إلى كل جزء من البدن على حدة، وعلى مقداره وصفته المناسبة له، وكذلك من الزرع”. (1مجموع الفتاوى، جـ5، ص 479 -480)
وهكذا في كل أكلة، ثم كل إنسان هكذا، بل كل حيوان، بل الزرع كذلك، بل الجماد، ولا يشغله تعالى شأن عن شأن .
خاتمة
إن كلمة « ناصيتي بيدك» عندما تقال، يجب أن تقال بكل هذا العمق الذي جاء في الكتاب وجاء في السنة، فإن غاب عنك هذا العمق الرباني فقد خسرت كثيرا.
…………………………
الهوامش:
- مجموع الفتاوى، جـ5، ص 479 -480.