لما كان المكرم والمحبوب إلى الله عز وجل هو المؤمن التقي، والمهان المبعد هو الكافر والمعرض عن الله ، فإن هذا يلزم عليه أن يكون الحب في الله والبغض والمعاداة في الله ؛ فلا يحب ولا يوالي إلا المحبوب لله من عباده المتقين، وما هم عليه من توحيد وطاعة. ولا يبغض ويعادى إلا الممقوت عند الله عز وجل من عبيده المستنكفين عن عبادته سبحانه وطاعته، وما هم عليه من كفر ومعصية.
الميزان الإلهي للحب والبغض
وهذا الميزان يقضي على كل ميزان آخر قد يتعارف عليه الناس، ويجعلونه أساسا في حبهم وبغضهم، وولائهم وبرائهم؛ كالجنس، والوطن، واللون، والمال، والجاه، وغيره من أعراض هذه الدنيا الزائلة .
يقول شيخ الإسلام رحمه الله: (وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال لقبيلة قريبة منه: «إن آل أبي فلان ليسوا بأوليائي، إنما وليي الله وصالح المؤمنین»1(1) مسلم (215)، البخاري (5990). فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن موالاته ليست بالقرابة والنسب ، بل بالإيمان والتقوى. فإذا كان هذا في قرابة الرسول صلى الله عليه وسلم فكيف بقرابة جنکسخان الكافر المشرك؟! وقد أجمع المسلمون على أن من كان أعظم إيمانا وتقوى كان أفضل ممن هو دونه في الإيمان والتقوى، وإن كان الأول أسود حبشيا، والثاني علويا أو عباسيا)2(2) مجموع الفتاوی 28/543 ..
ولما سأل نوح صلى الله عليه وسلم ربه لابنه وقال: (رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي) [هود: 45] قال الله عز وجل: (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ۖ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ) [هود: 46].
يعلق سید قطب رحمه الله على هذه الآيات فيقول: (.. فالأهل – عند الله وفي دینه و میزانه – ليسوا قرابة الدم، إنما هم قرابة العقيدة، وهذا الولد لم يكن مؤمنا، فليس إذن من أهله وهو النبي المؤمن. جاءه الرد هكذا في قوة وتقرير وتوكيد..(قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ۖ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ۖ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ۖ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ) [هود: 46].
إنها الحقيقة الكبيرة في هذا الدين: حقيقة العروة التي ترجع إليها الخيوط جميعا؛ عروة العقيدة التي تربط بين الفرد والفرد ما لا يربطه النسب والقرابة (إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ۖ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ) ، فهو منبت منك وأنت منبت منه، ولو كان ابنك من صلبك، فالعروة الأولى مقطوعة، فلا رابطة بعد ذلك ولا وشيجة)3(3) في ظلال القرآن 1879/4، 1880.
واقعنا مع هذا الميزان المستقيم
إن النظرة السريعة إلى واقع كثير من الناس اليوم في ضوء الميزان الإلهي للحب والبغض، والولاء والبراء لتكشف لنا ذلك البعد الشديد عن هذا الميزان المستقيم، والاستعاضة عنه بموازین جاهلية جائرة، جعلوها معيارا للحب والبغض، والولاء والبراء ، ومن أخطرها:
أولا:- القومية العربية
وذلك بجعل الجنس العربي هو میزان الحب والبغض؛ فمن كان عربيا – سواء فردا أو مجتمعا أو دولة أو ثقافة وفكرا . فهو المكرم والمحبوب، وله الولاء والنصرة مهما كانت عقيدته وفكره، ولو كان نصرانيا أو يهوديا أو باطنيا أو شيوعيا ملحدا؛ فما دام أنه عربی فله عندهم المحبة والنصرة عموما. وفي المقابل: فكل العداوة والكره لكل من ليس عربيا، ولو كان مسلما صالحا.
ثانيا:- الوطنية
وهذه أيضا من موازين الجاهلية التي تجعل الانتماء إلى الوطن الواحد هو معیار ومیزان الحب أو البغض؛ بحيث يكون الولاء والمحبة والنصرة لكل من يعيش تحت مظلة الوطن الواحد – ولو كان كافرا أو منافقا – كما يكون له الرفعة والإكرام والتقديم على من سواه ممن ليس من أبناء الوطن – ولو كان مسلما صالحا تقيا – ولا يخفى ما في هذا الميزان الجاهلي من مصادمة للميزان الإلهي في المحبة والعداوة والتكريم والإهانة.
الولاء للوطن مقدما على الولاء للإسلام والمسلمين
ومعيار الوطنية هذا هو ما تتبناه اليوم كل دولة مع شعبها، ويساهم الإعلام المضلل في إذكائها وتزيينها في عقول الناس وقلوبهم بحجة أن حب الوطن قد جبلت عليه النفوس، وأن ذلك يثمر الوحدة والتماسك. وهذا حق أريد به باطل. نعم إن حب الوطن والمكان الذي نشأ فيه الإنسان لا يلام عليه أحد، ولكن ليس نزاعنا في هذه المسألة، وإنما النزاع المرفوض أن يكون الولاء للوطن مقدما على الولاء للإسلام والمسلمين، وأن تكون الوحدة على غير العقيدة. أما إذا كان المواطن مسلما صالحا فهذا نور على نور، ولا تثريب على من وجد ميلا أكثر إلى المسلم الصالح من قرابته ؛ سوءا كانت هذه القرابة أسرة أو قبيلة أو وطنا. أما أن يجد ميلا ومحبة إلى أهل الكفر والنفاق لأنهم من أبناء وطنه فهذا هو المرفوض في ميزان الله عز وجل؛ قال سبحانه: (لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ ۖ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ۚ أُولَٰئِكَ حِزْبُ اللَّهِ ۚ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) [المجادلة: 22].
وفي مقال بعنوان: (فقه المواطنة بين الأصول التاريخية وهدي الإسلام) يتحدث الدكتور: أحمد محمود السيد، فيقول: (في هذه الأيام يتردد لفظ (المواطنة) على ألسنة الساسة المهتمين بالعمل السياسي، ودعاة العلمانية، وأنصار المنهج العلماني بوجه عام، ولا غضاضة في هذا ولا عجب، حتى وإن ادعى هؤلاء أنه لا يتعارض مع الإسلام، أو أن الإسلام قد عمل به وأسسه، بل العجب كل العجب أن ينبري بعض الشيوخ وعلماء الشريعة لإثبات أنه مبدأ إسلامي أصيل، وأن مضمون هذا المفهوم مماثل لما جاء به الشرع الحنيف!
والأدهى من ذلك أن السيناريو نفسه يتكرر كما حدث في الستينيات مع الاشتراكية .
هناك من كتب عن «المواطنة في الإسلام»، و «المواطنة عند رسول الله»، و«المواطنة في الشريعة الإسلامية»، و«المواطنة مبدأ إسلامي أصيل»، و«مبدأ المواطنة أهم دروس الهجرة»، وهناك من استدل بآيات قرآنية وتفسيرات حاول أن يلوي فيها أعناق الآيات لكي تعبر عن مفهوم المواطنة الغربي، مؤكدا تطابقها مع تفسير القرآن!
فهل عادت أيام الاشتراكية من جديد؟! وهل عاد الذين يجيدون تفصيل الإسلام على المقاسات والموديلات مهما اختلفت أنواع القماش وأحجام وأوزان الناس؟!
تعالوا معي نتفهم معنى المواطنة في دولة المنشأ لنعرف إن كانت تصلح کمبدأ إسلامي أم لا.
يعرف قاموس المصطلحات السياسية «المواطنة» بأنها: مكانة أو علاقة اجتماعية تقوم بين شخص طبيعي، وبين مجتمع سياسي (الدولة)، ومن خلال هذه العلاقة يقدم الطرف الأول الولاء، ويتولى الطرف الثاني الحماية، وتتحدد هذه العلاقة بين الشخص والدولة بالمساواة أمام القانون «الوضعي» في ظل هيمنة الدولة القومية.
ويعبر مفهوم المواطنة بمعناه الحديث عن تطور شديد التعقيد، صاغته أوروبا الغربية في القرن التاسع عشر خلال عمليات تاريخية واجتماعية وسياسية تم فيها الانتقال من الحق الإلهي المقدس إلى حق المواطن، ومن هيمنة الكنيسة إلى هيمنة الدولة، وتحول الانتماء العرقي أو الديني إلى انتماء لمجتمع مدني سیاسي يعتمد على الإرادة العقلانية.
أسس المواطنة ومرتكزاتها
والمواطنة كمفردة من مفردات النظام السياسي الغربي – الذي انتشر في أوروبا ومنها إلى أمريكا ثم بقية أنحاء العالم بعد ذلك – ترتكز على مجموعة عناصر أساسية أهمها:
1- إحلال عبادة مفهوم الدولة بديلا عن موضوع عبادة الإله .
2- إعلاء وتقديم الولاء للدولة على أي ولاء آخر، حتى ولو كان الدين .
3- إحلال الرابطة القومية محل الرابطة الدينية كأساس لتجانس الجماعة السياسية.
4 – تحويل الفرد من مقولة دينية إلى مقولة سياسية .
5 – فصل العلاقة السياسية عن العلاقة الدينية .
6- صبغ الوجود الديني بطابع النسبية والذاتية .
7- إخضاع التعامل السياسي للمنطق الفردي المطلق.
8- رفض القيم والأخلاق الكاثوليكية في عملية بناء الدولة أو رسم السياسة العامة.
9- رفض تدخل رجال الدين في كل ما له صلة بالسلطة الزمنية .
10- إطلاق التسامح الديني، وحرية الاعتقاد طالما أنه لن يتدخل في شؤون الحكم.
11 – الحرية هي القيمة العليا التي تعلو على سائر القيم، بما فيها حرية الارتداد عن الدين.
12 – تأكيد الكيان المستقل للفرد.
13 – إعلاء العقل على اللاهوت.
هذه العناصر تظهر بوضوح الحل الذي وضعه الأوروبيون لإشكالية العلاقة بين الدين والدولة من خلال (المواطنة) وفكرة الدولة القومية، وهو الحل الذي شكل الأساس الذي قامت عليه ظاهرة الدولة القومية التي خلقها الأوروبيون أنفسهم كأداة للتخلص من طغيان السلطة الدينية وتجاوزات الكنيسة الكاثوليكية الغربية، ولذلك قامت الدولة القومية على مبدأ الفصل بين الدين والدولة بمعنی عدم توظيف الدين في خدمة السياسة، وعدم توظيف السياسة في خدمة الدين، ورفض تدخل المؤسسات الدينية في كل ما له صلة بالعلاقة بين الوطن والدولة، وجعل نشاط القوى الدينية قاصرا على الجوانب الروحية دون الحياة السياسية، وتخليص النشاط الديني من الدوافع والمطالب السياسية .
المواطنة والتحيز الديني أو المذهبي للأغلبية الحاكمة
لقد آثرت أن أرجع إلى الأصول التاريخية للمواطنة قبل أن أتعرض لتطبيقاتها في عصرنا الحالي حتى أوضح موقفها من الدين قديما، ثم أقارنه بما هي عليه حديثا ؛ لأن هذا المعنى للمواطنة قد تغير فأصبح ظاهره عدم التمييز الديني، لكن باطنه التحيز الديني أو المذهبي للأغلبية الحاكمة، كما يحدث مع الأحزاب الديمقراطية المسيحية في أمريكا وفي الحكومات الأوروبية. فعلى الرغم من هذا الفصل المعلن بين الدين والدولة في النظم العلمانية القائمة على المواطنة، إلا أن الدين في وقتنا الحاضر يلعب دورا كبيرا في الأنظمة العلمانية المعاصرة، وأكبر مثال على ذلك : النظام العلماني في إسرائيل، والنظام العلماني في الهند؛ فالإطار العلماني – القائم على الديمقراطية، والانتخاب الحر، والأحزاب، والمواطنة، والقومية، وغيرها من مفاهيم النظام السياسي العلماني بشعاراته البراقة والمزيفة – هو السائد، لكنه يحمل بين طياته التمييز الديني، أو المذهبي ؛ فاليهود مواطنون من الدرجة الأولى في دولتهم ؛ يتميزون في الحقوق والواجبات والمخصصات عن غيرهم من المسلمين والنصارى وبقية الأديان، ويظهر هذا بوضوح في القوانين الحاكمة للسياسة والمجتمع، فضلا عن المكانة الطبقية لليهود التي تتجلى في الممارسات اليومية الحياتية داخل الدولة.
أما الهند فهي تتباهى بأن نظامها علماني قائم على المساواة بين مواطنيها، والحقيقة عكس ذلك؛ فالهندوس – أتباع الديانة الغالبة فيها . له كل الامتيازات والمخصصات والسيادة على مقاليد الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فضلا عن التشريعات والقوانين التي لا تعبر إلا عن عقيدتهم ، ولا تنتصر إلا لدينهم، ولا تغلب إلا فكرهم.
فالمواطنة كمبدأ سياسي لا تعمل بعيدا عن النظرية السياسية الغربية التي صاغتها، ولا يمكن أن تقطع من سياقها ليتم تفعيلها في نظام آخر مختلف عقائديا واجتماعيا وتاريخيا؛ فالنظام السياسي الإسلامي يقوم على مجموعة مبادئ تعمل معا لتحقيق مبادئ الإسلام وهديه من خلال منظومة من الآليات مثل: الإمامة – أهل الحل والعقد – الشورى – الخلافة … إلخ، والتميز فيها يكون للمسلم فلا يستوي المؤمنون والكافرون، وإذا كان معيار التفضيل هو التقوى كما في الحديث: «لا فرق لعربي على أعجمي إلا بالتقوی»، فإن هذه التقوى معناها الإسلام والإيمان الخالص، وهذا ليس معناه ظلم المخالفين في العقيدة، لكنهم في ظل الدولة الإسلامية يتعاملون من خلال العهود والمواثيق التي تحفظ لهم حقوقهم، وتحفظ للدولة الإسلامية ما تفرضه عليهم من واجبات)4(4) انظر موقع (أنا المسلم) ..
ثالثا:- الجاه والشهرة والمال
ما أكثر اليوم من يجعل الجاه والشهرة والمال موازين الحب والتكريم والرفعة والتعظيم، دون النظر إلى الدين والصلاح والأخلاق. وهذا هو میزان الجاهلية الأولى الذي أخبرنا الله عز وجل عنه بقوله: (وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَٰذَا الْقُرْآنُ عَلَىٰ رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ) [الزخرف: 31].
يقول الأستاذ محمد فهمي: (كم من أعمال يقف لها الناس تقديرا ، ويجعلون صاحبها رمزا عظيما من الرموز، ويمنحونه الألقاب والنياشين، ولكن حين نذهب ونبحث عن قيمة تلك الأعمال التي عظمها الناس في ميزانهم، ونقيسها بميزان الآخرة، نرى تلك الأعمال لا قيمة لها!
كثيرا ما رأينا ونرى أفرادا أهانوا دينهم، واستخفوا بساحة العقيدة ، ولوثوا عقول الناس بنتاجهم الثقافي، أو أناسا أمضوا حياتهم في الغي والمنكرات، وكانت أعمالهم سببا في إفساد أجيال وأعداد كبيرة من الناس، ولم يعلنوا توبة أو تراجعوا عما عملوه أو قالوه. لكنهم على الرغم من ذلك يوصفون بأنهم عظماء ورواد! ويوضعون على قمة العظماء في المجتمع، ومكان القدوة الذي تدعى الأجيال للسير على نهجهم، واقتفاء أثرهم.
الجاهلية وإزاحة معيار العقيدة والحلال والحرام في تقدير العظماء
وانظر مثلا في كثير من المجتمعات . حين يشاد بمسيرة التقدم في بعض البلاد – من يوضع على رأس أعلام الصورة الحضارية المعاصرة للمجتمع؟ وسوف نجد كثيرا من أهل المجون والغناء، أو المصابين بلوثات العلمانية والإلحاد، الذين امتلأت آراؤهم وأفكارهم وأعمالهم بالطعن واللمز والغمز في الدين وشرائعه والمتمسكين به.
لقد أصاب مقياس العظمة والعظماء لدى كثير من الناس خلل كبير، وانحراف خطير، يحتاج إلى وقفة ومراجعة من العقلاء ليعيدوا للمجتمع المعايير الصحيحة والحقيقة التي تحسب على أساسها العظمة، ويستحق على أساسها الأفراد أن يكونوا رموزا في مجتمعاتهم المسلمة، أو عظماء يسجل تاريخهم ليقتدى بهم.
معايير الجاهلية تؤدي إلى اضطراب في هوية المجتمع وأصالته وخصائصه
يأتي معيار العقيدة على رأس المعايير المهمة في تقدير العظماء، ووضع الأفراد في منازل القدوة والرفعة في المجتمع المسلم. وإهمال هذا المعيار أو إزاحته تؤدي إلى اضطراب في هوية المجتمع وأصالته وخصائصه وعوامل الانتماء فيه، وخصوصا في هذا العصر الذي صار لكثير من الأفكار والتيارات الضالة تأثير كبير بسبب وسائل الاتصال الحديثة، وأقرب مثال على خطورة هذا المعيار على المجتمع هو رفع كثير من وسائل الإعلام لبعض الشيعة إلى منزلة التقديس والتعظيم، بل تجرأ بعض الناس على ميزان العقيدة، وكسر أصوله من أجل أن يسوغ لنفسه وضع بعض الشيعة في مكانة قد لا يعترفون بها لأحد من أهل السنة ، وقد صار لهذا تأثير كبير في أوساط الناس البعيدين عن معرفة الفوارق العقدية بين أهل السنة وفرق الشيعة.
ومثل هذا الخلل الناتج عن إزاحة معيار العقيدة في تقدير العظماء يقع في الأوساط الثقافية والفنية ؛ حين تجد في المجال الأدبي مثلا من يتعرض لأصول العقيدة المجمع على قداستها وحرمتها في قصيدة أو رواية، وعلى الرغم من ذلك ينال الجوائز التقديرية، وجوائز الدولة والأوسمة من الدرجة الرفيعة.
ومعیار الحلال والحرام هو معیار آخر له دوره وأهميته في تقدير العظماء، أو تقدير أعمالهم ؛ لما في ذلك من صيانة لأركان المجتمع المسلم الدينية والاجتماعية والأخلاقية والاقتصادية وغيرها، وحماية لمثله العليا ومبادئه من الضياع، لقد تم إهمال هذا المعيار شيئا فشيئا على مدى سنوات طويلة، حتى انقلبت الأوضاع وصار اليوم ينكر علنا على ما يحاول جعله معیارا في وزن الأعمال والرجال، وتقدير مكانتهم في المجتمع، بدعاوى شتی خادعة ؛ كأن يقال مثلا: لا شأن للحرام والحلال بعملية الإبداع، أو يقال: إن الفن ليس حراما)5(5) موقع المسلم (الركن العلمي)..
رابعا:- الإنسانية
هذه الدعوة الماكرة تريد إلغاء الدين في ميزان التفاضل والتكريم، وتريد فرض الروابط الجاهلية والانطلاق منها في الأخوة الإنسانية.
وقد أجاد الأستاذ محمد قطب -رحمه الله تعالى – في بيان حقيقة الدعوة إلى الإنسانية وأهدافها الخبيثة، فكان مما قال: (الإنسانية – أو العالمية كما يدعونها أحيانا ۔ دعوی براقة، تظهر بين الحين والحين، ثم تختفي لتعود من جديد! يا أخي! كن إنساني النزعة .. وجه قلبك ومشاعرك للإنسانية جمعاء.. دع الدین جانبا فهو أمر شخصي .. علاقة خاصة بين العبد والرب محلها القلب. لكن لا تجعلها تشكل مشاعرك وسلوكك نحو الآخرين الذين يخالفونك في الدين .. فإنه لا ينبغي للدين أن يفرق بين البشر .. بين الإخوة في الإنسانية ! تعال نصنع الخير لكل البشرية غير ناظرين إلى جنس أو لون أو وطن أو دين!
دعوی براقة كما ترى .. يخيل إليك حين تستمع إليها أنها تدعوك للارتفاع فوق كل الحواجز التي تفرق بين البشر على الأرض؛ تدعوك لترفرف في عالم النور.. تدعوك لتكون كبير القلب، واسع الأفق، کریم المشاعر.. تنظر بعين إنسانية، وتفکر بفکر عالمي، وتعطي من نفسك الرحبة لكل البشر على السواء، بدافع الحب الإنساني الكبير!
أي رفعة، وأي سمو، وأي نبل، وأي عظمة في القلب والفكر والشعور!
الإنسانية والرصيد الحقيقي من الواقع
ولكن مهلا! انتظر حين يخفت الرنين الذي تحدثه الكلمات والعبارات ، وفتش عن الحقيقة بعيدا عن العواطف والانفعالات، وانظر أين تجد هذه الشعارات مطبقة في واقع الأرض؟! هل لها رصيد حقيقي من الواقع أم أنها شعارات زائفة لأمر يراد؟!
ثم انظر إلى تلك العبارة الماسونية: «اخلع عقیدتك على الباب كما تخلع نعليك»!
ألا ترى شبها بين هذه الدعوة وتلك؟ أما ترى أنهما قريبتان؟ بل شقيقتان؟!
وفي القديم، حين كان الدین قويا لا يقوون على مواجهته، لم يكونوا يجرؤون على التلفظ بمثل هذه العبارة، بل كانوا ينافقون ليصلوا إلى أغراضهم من إغواء الآخرين. (وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَىٰ شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ) [البقرة: 14].
(وَقَالَت طَّائِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [آل عمران: 72] ولكنهم اليوم آمنون، فلا حاجة بهم إلى التظاهر بالإيمان بما أنزل على المؤمنين .. بل إنهم لينشرون الإلحاد اليوم بجسارة في كل الأرض …
ولكن أناسا قد يخدعون بدعوى الإنسانية لما فيها من بريق ، فيؤمنون بها أو يدعون إليها غافلين عن الحقيقة التي تنطوي عليها، وقد لا يصدقون أصلا أنها دعوى إلى التحلل من الدين يبثها الشياطين في الأرض لأمر يراد.
فلنصدق – مؤقتا – أنها دعوی مخلصة للارتفاع بالإنسان عن كل عصبية تلون فكره أو سلوكه أو مشاعره، ليلتقي بالإنسانية كلها لقاء الصديق المخلص الذي يحب الخير للجميع ..
فلنصدق ذلك في عالم المثل .. في عالم الأحلام.. فما رصيد هذه الدعوة في عالم الواقع؟!
ما رصيدنا في العالم الذي تجتاحه القوميات من جانب، والعصبيات العرقية والدينية والسياسية والاجتماعية من كل جانب؟
فلنأخذ مثالا واحدا من العالم المعاصر .. من المعاملة التي يلقاها المسلمون في كل مكان في الأرض يقعون فيه في حوزة غير المسلمين، أو في دائرة نفوذهم من قريب أو من بعيد.
فلننظر إلى الإنسانية التي يعاملون بها، والسماحة التي يقابلون بها ، وسعة الصدر، وحب الخير الذي ينهار عليهم من كل مكان؟……
إن الذين يُحاربون اليوم بدعوى الإنسانية هم المسلمون!
يحاربون بها من طريقين، أو من أجل هدفين:
الهدف الأول: هو إزالة استعلاء المسلم الحق بإيمانه الناشئ من إحساسه بالتميز عن الجاهلية المحيطة به في كل الأرض، لكي تنبهم شخصيته وتتميع.
والهدف الثاني: هو إزالة روح الجهاد من قلبه ليطمئن الأعداء ويستريحوا !!…
فباسم الإنسانية يقال للمسلم الحق: يا أخي لا تعتزل الناس! إن الإنسانية كلها أسرة واحدة، فتعامل مع الأسرة كفرد منها، ولا تميز نفسك عنها ! وشارك في النشاط الإنساني ومظاهر الحضارة الإنسانية !…
تلك هي القضية ! إن تمسك المسلم بإسلامه شيء يغيظ أعداء الإسلام بصورة جنونية .. ولا يهدأ لهم بال حتى يذهبوا عنه ذلك التمسك ويميعوه – ومن وسائل ذلك كما أسلفنا دعوى الإنسانية والعالمية . فإذا تميع بالفعل، ولم تعد له سمته المميزة له، احتقروه كما احتقرت أوروبا الأتراك بعد أن أزال أتاتورك إسلامهم «وغربهم»!
إن أشد ما يخشاه أعداء الإسلام من الإسلام هو روح الجهاد الكامنة فيه … ودعوى الإنسانية من أسلحة الحرب الموجهة ضد روح الجهاد عند المسلمين .
يا أخي! لقد تغيرت الدنيا ! لا تتكلم عن الجهاد أو إن كنت لا بد فاعلا فتكلم عن الجهاد الدفاعي فحسب! ولا تتكلم عنه إلا في أضيق الحدود! فهذا الذي يتناسب اليوم مع (الإنسانية المتحضرة)! لقد كانت للجهاد ظروف تاريخية وانقضت ! أما اليوم فقد أصبحت الإنسانية أسرة واحدة! وهناك قانون دولي وهيئات دولية تنظر في حقك وتحل قضاياك بالطرق الدبلوماسية ! فإذا فشلت تلك الهيئات في رد حقك المغتصب فعندئذ لك أن تقاتل دون حقك، ولكن لا تسمه جهادا ! فالجهاد قد مضى وقته ! إنما سمه دفاعا عن حقوقك المشروعة!
أما نشر الدعوة فإياك أن تتحدث فيه عن الجهاد! هناك اليوم وسائل إنسانية لنشر الدعوة فاسلكها إن شئت .. هناك الكتاب والمذياع والتلفاز والمحاضرة والدرس.. إياك إياك أن تتحدث عن الجهاد فتكون مضغة في أفواه المتحضرين!
والإسلام صريح في توجيه أتباعه إلى التميز عن أحوال الجاهلية ، التميز بنظافة السمت، ونظافة الأخلاق، ونظافة السلوك، والاستعلاء بالإيمان على كل مصدر ليس إسلاميا أو متعارض مع الإسلام، حتى لو لحقت بهم هزيمة مؤقتة أو ضعف طارئ: ( وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ) (آل عمران: 139). ومصدر التميز هو الإحساس بأنهم على الهدى وغيرهم على الضلال، وأن المنهج الذي يعيشون به هو المنهج الأعلى لأنه المنهج الرباني، والذي يعيش عليه غيرهم هو المنهج الأدنى لأنه منهج جاهلي؛ فهو ليس تميزا مبنيا على الجنس ولا اللون ولا الجاه ولا الغنى ولا القوة ولا أي معنى من المعاني الأرضية التي تعتز بها الجاهلية وتستعلی بها على الناس، إنما التميز المستمد من معرفة المنهج الرباني واتباعه …)6(6) مذاهب فكرية معاصرة ص 510 – 524 باختصار ..
الهوامش
(1) مسلم (215)، البخاري (5990).
(2) مجموع الفتاوی 28/543 .
(3) في ظلال القرآن 1879/4، 1880
(4) انظر موقع (أنا المسلم) .
(5) موقع المسلم (الركن العلمي).
(6) مذاهب فكرية معاصرة ص 510 – 524 باختصار .
اقرأ أيضا
حدود الولاء المكفر .. حفظا للأمة ومنعا للغلو
أثر الدعوة والجهاد على عقيدة الولاء والبراء في نفس الداعية