يجب ألا يرتاب المؤمن في الطريق، وإن اعتورته عوائق وطال الطريق واستبطأ النصر وكثر زبد الباطل حتى خدع خفافيش البصائر. فللمؤمن مسلَّمات محكَمة يستهدي بها.

مقدمة

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه، أما بعد:

فإن ما نراه اليوم من صولة للباطل وما يتعرض له الإسلام والمسلمون من محن وشدائد واستضعاف وفساد وإفساد وصد عن سبيل الله قد أفرز عند بعض المسلمين ـ إن لم يكن أكثرهم ـ شعورا باليأس من ظهور الحق وانتصاره بل وصلت الحال ببعض الناس إلى الشك في وعد الله عز وجل بنصره لدينه والتمكين لأوليائه.

مسلَّمات في المعركة

ومعالجة لهذه الحال وإزالة لمثل هذا الشعور فلا بد من بيان المسلمات التالية في معركة الحق والباطل:

المسلمة الأولى: مقياس الحق

الحق ما كان عليه الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته الكرام والتابعون لهم بإحسان علما وعملا وحالا وسلوكا.

المسلمة الثانية: مقياس الفهم

ويعرف الحق بما ورد في القرآن الكريم والسنة الصحيحة من المعتقدات والأعمال بفهم الصحابة رضي الله عنهم والتابعين لهم. والرجال يُعرفون بالحق ولا يُعرف الحقُ بالرجال.

المسلمة الثالثة: ما دون الحق ضلال

إذا عُرف الحق بدليله فكل ما خالفه وضاده فهو باطل. وهذه قاعدة عظيمة قال سبحانه: ﴿فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ۖ فَأَنَّىٰ تُصْرَفُونَ﴾ [يونس:32] ويتراوح المخالف للحق من أهل الباطل حسب درجة مخالفته بين الكفر والابتداع والفسق، وقد يكون دون ذلك.

المسلمة الرابعة: التوفيق للفرقان والحرمان منه

من جعل القرآن الكريم والسنة المطهرة مصدره ونوره الذي يستضيء به، وصاحب ذلك إخلاص وتقوى فإن الله عز وجل يجعل له فرقانا يفرق به بين الحق والباطل ولا يلتبس عليه أمرهما. وعلى الضد من ذلك من استعاض عن الكتاب والسنة بالعقل أو الرأي أو الذوق أو السياسة أو أي مصدر بشري آخر فإنه لا يهتدي للحق بل يلتبس عليه الحق بالباطل ولا يوفق للفرقان الذي يفرق به بينهما، بل قد ينتصر للباطل يحسب أنه الحق.

المسلمة الخامسة: الحكمة من المدافعة

اقتضت حكمة الله عز وجل أن يكون الصراع والمدافعة بين الحق والباطل مستمرًّا، وأن يسلط سبحانه بعض المجرمين على أوليائه؛ يناصبونهم العداوة والمحاربة؛ وذلك لحِكم كثيرة وعظيمة ليظهر من خلال هذا الصراع أمور محمودة منها:

– أن تظهر عبوديات أوليائه في الرخاء والشدة وفي السراء والضراء وفي النعماء والبلاء.

– كما يتجلى الحق من خلال هذا الصراع للناس؛ الذين لم يعرفوه أو عرفوه بصورة مشوهة؛ وذلك أنه في حالة الصراع بين الحق والباطل تظهر للناس معالم الحق بصورة واضحة لم تكن لتظهر لولا هذا الصراع.

– وفي محاربة الباطل وأهله للحق وأهله يتقوَّى ارتباط أهل الحق بالحق ويشتد انتماؤهم إليه وتمسكهم به والتضحية في سبيله بصورة لم تكن لتوجد لولا هذا الصراع.

– يميز الله تعالى من خلال هذا الصراعِ الخبيثَ من الطيب، والمؤمنَ من المنافق؛ وفي هذا خير ومنفعة للمؤمن.

المسلمة السادسة: إدالة الباطل مؤقتة

إن تسليط الله عز وجل الباطل وأهله على الحق وأهله تسليط مؤقت لتظهر الحكم السابقة وغيرها من خلال هذا الصراع؛ وإلا فإن العاقبة في نهاية هذا الصراع لعباد الله المؤمنين.

ومن عرف الله عز وجل بأسمائه الحسنى وصفاته العلا أحسن الظن به سبحانه ولم يتطرق إلى قلبه أدنى شك في نصر الله عز وجل لأوليائه، وأن رحمته سبحانه ولطفه وحكمته ومقدرته تأبى أن يديل أهل الباطل على أوليائه دائما وأبدا؛ ومن ظن هذا فقد أساء الظن بربه سبحانه.

المسلمة السابعة: نفي الظنون الخاطئة

يظن بعض الناس أنه بمجرد أنهم مسلمون وعلى الدين الحق فإن الله لا بد أن ينصرهم ولا يديل الباطل وأهله عليهم وإذا لم يروا هذا النصر والتمكين أو أبطأ مجيئه ساورتهم بعض الشكوك والظنون الفاسدة في وعد الله عز وجل بنصره لعباده المؤمنين وقد أَتي هؤلاء من أمرين خطيرين:

الأول: سوء ظنهم بوعد الله عز وجل القائل: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ [الروم: 47]

الثاني: إحسان الظن بأنفسهم وكأنهم سالمون من الذنوب المتسببة في إدالة المجرمين على المسلمين، ورأوا أنفسهم أنهم حققوا الإيمان الذي وعد الله عز وجل أهله بالتمكين وغفلوا عن سنن الله عز وجل في التغيير التي بينها سبحانه في كتابه كقوله سبحانه: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ﴾ [الرعد:11] وكقوله: ﴿أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُم مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُم مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّىٰ هَٰذَا ۖ قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنفُسِكُمْ ۗ إِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [آل عمران : 165]

المسلمة الثامنة: تحقيق مكر الله بأعدائه

إن في ترك الله عز وجل لأعدائه المبطلين يتسلطون على أوليائه برهة من الزمن تحققًا لسنة الله عز وجل التي بينها لنا في كتابه الكريم، ألا وهي سنة المكر والإملاء والاستدراج لأعدائه المبطلين، وأن مكرهم سيعود عليهم وأنهم وهم يمكرون فإن الله عز وجل يمكر بهم في الوقت نفسه وهم لا يشعرون؛ قال سبحانه: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا * اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ ۚ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ ۚ فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ ۚ فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا ۖ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا﴾ [فاطر:42-43]، وقال سبحانه: ﴿وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ ۚ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا ۚ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ﴾ [آل عمران: 178]، وقال عز وجل: ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ ۗ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَىٰ جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ﴾ [الأنفال: 36].

وماذا يساوي مكرهم وكيدهم مقابل مكر الله عز وجل الذي لا يقف أمامه شيء..؟!

ومن شدة مكر الله بالمجرمين أنه يسري عليهم وهم لا يشعرون؛ وذلك ليسوقهم الله عز وجل بهذا المكر والإملاء إلى نهايتهم المحتومة قال سبحانه: ﴿وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ﴾ [النمل:50-5].

المسلمة التاسعة: فَهْم حقيقة الانتصار

يغلط كثير من الناس في فهمهم لحقيقة الانتصار في معركة الحق مع الباطل؛ حيث يحصرونه في الانتصار الحسي في ميادين القتال والتمكن من بلاد الخصم ومقدراته، وينسون جانبا مهما في انتصار الحق على الباطل وأهله؛ وذلك بعلو حجة أهل الحق وتهافت حجج أهل الباطل، وبثبات أهل الحق على دينهم وعدم التزعزع عن مبادئهم أيام النوازل الشداد.

فثبات أهل الحق من الدعاة والمجاهدين على دينهم وعدم التنازل عن شيء منه هو في الحقيقة انتصار عظيم ولو كانوا في غياهب السجون ولو قتلوا وشردوا. وأكبر مثال على ذلك ما قصه الله عز وجل علينا في كتابه الكريم عن أصحاب الأخدود الذين استعلوا على حب الدنيا وآثروا مرضاة الله عز وجل وثبتوا على دينهم وصبروا على الحريق الذي مزق أجسادهم وهم ثابتون فهذا والله هو الانتصار الحقيقي والذي يبلغ ذروته يوم القيامة حينما يوفَوْن أجورهم على ثباتهم بجنات لهم فيها نعيم مقيم قال الله عز وجل عنهم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ﴾ [البروج: 11]، فأي فوز وأي نصر أكبر من هذا.

المسلمة العاشرة: زهوق الباطل

لقد حقت كلمة الله عز وجل على أن الباطل زاهق وذاهب، ولو أزبد فإنه إلى جفاء، وأن البقاء والمكث الذي ينفع الناس إنما هو للحق قال تعالى: ﴿أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَّابِيًا ۚ وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ ۚ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً ۖ وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ۚ كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ﴾ [الرعد: 17]، وقد أكد الله عز وجل هذا المعنى في أكثر من موطن في كتابه العزيز فقال سبحانه: ﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ۚ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾ [الإسراء: 81] وقال تعالى: ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ ۚ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ﴾ [الأنبياء: 18]، وقال عز وجل: ﴿قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ﴾ [سبأ: 487].

خاتمة

تلك بعض من المسلَمات الأساسية التي يستهدي بها المؤمن في طريقه، نذكره بها من أجل الثبات وعدم الريبة ولا التراجع، ولنفي الشك والإحباط، ونفي اليأس والانسداد؛ فالأمور ليست كذلك. وفي أقدار الله تعالى من الخير فوق ما يتصور العباد.

أسأل الله عز وجل أن يهدينا للحق ويثبتنا عليه، وأن يجعلنا من أنصاره الذين: ﴿يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ ذَٰلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ ۚ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾ [المائدة: 54].

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة