سالك الطريق الى ربه تعالى ينبغي له التخلي عن المحرمات ليخلو القلب من نجاسات الذنوب، فإذا فعل مالَ قلبُه للتعبد وقبول الخير، وعندها يوغل في الخير ويترقى في الدرجات.
مقدمة
ترك المحرمات أمر أساس للنفس التي تريد التربية على دين الله؛ ففيه مغالبة للهوى المحرم والشهوة المحرمة. ومن ترك المحرمات زالت عنه العوائق المُغشِّية على ما في الفطرة من المعرفة والمحبة، فإذ به يجدها في قلبه؛ فإذا امتثل الأمر وقام بالفريضة وذاق طعم التعبد وجد لهذه الطاعة من الطعم واللذة والحلاوة ما يفوق شهوات الدنيا ولذّاتها بما لا يقارَن.
فتجد النفسُ من النعيم ما تركن إليه وتعيش به ومعه ومن أجله، وهو أمر مُعين على إكمال الطريق..
ومن هنا تستشرف النفس أن تذوق من النوافل بعد الفرائض، وينبغي لصاحبها أن يوردها تلك الرياض ويذيقها من تلك الطعوم.
تذوق أبواب الخير
منْ نوافـل الصّلاة
فيتذوق من صلاة النافلة بعد إتمام الفريضة.. وتطوف بصلاة الليل، وتجعل لنفسك وِردًا ثابتًا بالنهار، وليكن اثنتي عشرة ركعة من الرواتب قبل وبعد الفرائض والتي وعد الله تعالى رسوله، صلى الله عليه وسلم، أن مَن حافَظ الله عليها بنى الله تعالى له بيتًا في الجنة:
اثنتين قبل الفجر، وأربع قبل الظهر واثنتين بعده، واثنتين بعد المغرب، واثنتين بعد العشاء. (1روى مسْلمٌ في صحيحه 103 (728))
منْ نوافـل الصيام
ويتذوق من صيام النوافل ولو يوم كل عشرة أيام بمعدل ثلاثة أيام من كل شهر، جاء أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان لا يبالي صامها أول الشهر أو أوسطه أو آخره، وإن كان أغلب الأمر وسط الشهر لثنائه على فاعلها وترغيبه فيها.. أو صيام يوم كل سبعة أيام ، أو يحافظ على الإثنين والخميس، أو أفضل الصيام صيام «داود» عليه السلام، وهو صوم يوم وإفطار يوم.
تلّاءٌ لكتاب الله العزيز
ويتذوق من قراءة القرآن فيختم في كل أربعين يوم مرة، أو في كل ثلاثين، أو عشرين يومًا، أو سبعة أيام كما كان الصحابة يختمون، وتأسَّى بهم الأئمة كالإمام «أحمد» رحمه الله، وغيرُه.
منْ نوافـل الصّدقة
ويتذوق العبد طعم الصدقة النافلة بعد الزكاة الواجبة، وإن لم يكن من أهل الزكاة فيتصدق بما يستطيع ولا يحرم نفسه طعم العطاء وفضل الصدقة؛ قال بعض أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم: «لمّا أمرنا رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بالصدقة كنّا نحامل على ظهورنا فنجيء بالمد فنعْطيه رسول الله، صلى الله عليه وسلم». (2رواه مسْلمٌ في صحيحه 72 (1018)) الحديث.. والمعنى “نحمل على ظهرنا بالأجرة”.
ومن الناس من يجعل لنفسه مالًا ثابتًا للصدقة كنسبة من راتبه أو دخله كل شهر، وآخَر يحب أن يتصدق كل يوم فلا يمر يوم إلا وقد تصدق ولو بالقليل فيكتب في المصّدّقين، رجاء فيما كتب الله لأصحاب الصدقة؛ إذ أخبر رسول الله، صلى الله عليه وسلم، أن الصدقة تطفيء غضب الرب (3روى الطّبرانيّ في المعْجم الكبير (8014))، وأنها تطفيء حرّ القبور (4روى الطّبرانيّ في المعْجم الكبير (787))، وأن المرء في ظل صدقته يوم القيامة (5روى أحْمدٌ في مسْنده (17333))، وأنها تقع في يد الله قبل أن تقع في يد الفقير فيربيها تعالى لصاحبها ويضاعفها له (6روى البخاريّ في صحيحه (1410))، وأن العبد يداوي بها مريضه (7روى أبو داود في المراسيل (105)) ، ويدفع بها البلاء المترتب على ذنوبه (روى البيْهقيّ في السّنن الكبير (7907))، وأنها تقي مصارع السوء (8روى الطّبرانيّ في المعْجم الكبير (8014))
كما يرجو أن ينفث كل يوم عن مؤمن همًّا أو ينفث عنه كربًا أو يمسح دمعة يتيم أو يعف امرأة محتاجة وغير ذلك كثير.
مسبّحون مع المـلائكـة
ويتذوق من الذكر والتسبيح لفضله العظيم؛ فهو خفيف العناء، ثقيل الميزان، حبيب إلى الرحمن، يملأ الصحيفة خيرًا.
وبعض الجهال يظن أن ذكر اسم الله تعالى هو ترديد لفظ الجلال «الله» فقط، ولكن بيان معنى الذكر بينه رسول الله، صلى الله عليه وسلم، بوحي الله له؛ ولهذا أنقل عن شيخ الإسلام بيان بعض الأذكار وبيان أنها وأمثالها المقصودة من ذكر الله تعالى في جمل تامة تدل على التنزيه أو التحميد أو التكبير أو الإفراد بالألوهية، لا اله الا الله، «التهليل»، أو اقتران بعض جملها ببعض.
“وقوله: ﴿قد أَفْلح من تزكّى * وَذكر اسْم ربه فصلى﴾ [الْأَعْلَى:14-15] وَقَوله: ﴿فسبح باسم رَبك الْعَظِيم﴾ [الْوَاقِعَة: 74] وَنَحْو ذَلِك لَا يقتضى ذكره مُفردا (9يعني أن يقول الله الله)؛ بل فِي “السّنَن” أَنه لما نزل قَوْله: ﴿فسبح باسم رَبك الْعَظِيم﴾ قَالَ: «اجْعَلُوهَا فِي ركوعكم» وَلما نزل قَوْله: ﴿سبح اسْم رَبك الْأَعْلَى﴾ قَالَ: «اجْعَلُوهَا فِي سُجُودكُمْ». فشرع لَهُم أَن يَقُولُوا فِي الرُّكُوع: «سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيم» وَفِي السُّجُود «سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى». وَفِي الصَّحِيح أَنه كَانَ يَقُول فِي رُكُوعه: «سُبْحَانَ رَبِّي الْعَظِيم» وَفِي سُجُوده «سُبْحَانَ رَبِّي الْأَعْلَى» وهذا هو معنى قوله: «اجْعلوها فِي ركوعكم وسجودكم» بِاتِّفَاق الْمُسلمين..
فـ “تسبيح اسْم ربه” الْأَعْلَى و”ذكر اسْم ربه” وَنَحْو ذلك هو بالْكلَام التَّام الْمُفِيد كَمَا فِي الصَّحِيح عنه صلى الله عليه وسلم: أَنه قَال: «أفضل الْكَلَام بعد الْقُرْآن أَربع، وهن من الْقُرْآن: سُبْحَانَ الله وَالْحَمْد لله وَلَا إِلَه إِلَّا الله وَالله أكبر». وفي الصَّحِيح عنه صلى الله عليه وسلم أَنه قال: «كلمتان خفيفتان على اللِّسَان ثقيلتان فِي الْمِيزَان حبيبتان إِلَى الرَّحْمَن: سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ الله الْعَظِيم».
وفي الصَّحِيحَيْن عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قال: «من قَالَ فِي يَوْمه مائَة مرّة: لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ لَهُ الْملك وَله الْحَمد وَهُوَ على كل شَيْء قدير، كتب الله لَهُ حرْزا من الشَّيْطَان يَوْمه ذَلِك حَتَّى يُمْسِي وَلم يَأْتِ أحد بِأَفْضَل مِمَّا جَاءَ بِهِ إِلَّا رجل قَالَ مثل مَا قَالَ أَو زَاد عَلَيْهِ». و «من قَالَ فِي يَوْمه مائَة مرّة: سُبْحَانَ الله وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ الله الْعَظِيم، حطت عَنهُ خطاياه وَلَو كَانَت مثل زبد الْبَحْر». وفي الْموطَّأ وغيره عن النَّبِي صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: «أفضل ما قلته أَنا والنبيون من قبلي: لَا إِلَه إِلَّا الله وَحده لَا شريك لَهُ لَهُ الْملك وَله الْحَمد وَهُوَ على كل شَيْء قدير»
وَفِي سنَن ابْن مَاجَه وَغَيره عَنهُ صلى الله عَلَيْهِ وَسلم أَنه قَالَ: «أفضل الذّكر لَا إِلَه إِلَّا الله وَأفضل الدُّعَاء الْحَمد لله».
وَمثل هَذِه الْأَحَادِيث كَثِيرَة فِي أَنْوَاع مَا يُقَال من الذّكر وَالدُّعَاء.
وَكَذَلِكَ مَا فِي الْقُرْآن من قَوْله تَعَالَى: ﴿وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لم يذكر اسْم الله عَلَيْهِ﴾ [الْأَنْعَام:121] وَقَوله: ﴿فَكُلُوا مِمَّا أمسكن عَلَيْكُم واذْكُرُوا اسْم الله عَلَيْهِ﴾ [الْمَائِدَة:4] إِنَّمَا هُوَ قَول: بِسم الله”. (10مجموع الفتاوى. ج10، صـ 230)
الانْخلاع منْ الحظّ والقيام بالحقّ
ينبغي للمتعبد أن يذوق طعم الانخلاع من الحظوظ والخروج عن مقتضيات الطبع؛ فيستحضر النيات في المباحات ويعمل على وجه التعبد، بُخلا منه بعمره، وبُخلا بعمله أن يفنى بفنائه ويموت بموته، ﴿مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ﴾ [النّحْل:96]، بل يريد أن يجعل أعماله المباحات تعبدات،؛ فيستحضر النية في أعماله وأقواله، ويتعامل مع ربه تعالى بعمقٍ في عبادته؛ فلا يخرج من عبادته في الصلاة وغيرها إلى حظ نفسه بل إلى عبادة أخرى، فيتقلّب من عبادة إلى عبادة ويكون ربه تعالى حاضرًا في حسّه مقصودًا ومرادًا من وراء كل عمل؛ فلا يغيب عنه، ولا يفتر عن ذكره بقلبه وعمله، وهذا غير الذكر باللسان.
إن استحضار النيات يجعل للعبد عمقًا في عبوديته لله تعالى فيكون سره حاضرًا وقاصدًا لربه تعالى، وهذه العبودية العميقة تكون زخمًا للعبد يثبّته الله تعالى به في البلاءات والشدائد، عافانا الله وإياكم، ويعينه على قطع الطريق، وليرفعه تعالى بهذه العبودية درجات في الجنة عالية، نسأل الله تعالى النجاة ورفعة الدرجات.
معـونـةٌ.. تجدّ في الطّريق على سلم العبودية
الإكثار من التعبد والذكر وقراءة القرآن حتى يصفو قلبك ويكون لكل آية من القرآن موضعها وانفعالها في قلبك.
ثم يتعلق العبد بالله عز وجل حتى يسعد وينعم بذكره وعبادته، وتتحول العبادة من تعب إلى تنعم..
ثم يتعلق قلبه ويتأثر أكثر ويشتاق إلى الآيات التي تصف ربه أو فيها ذكر أسمائه والتعريف به أو ذكر أفعاله حتى يصير ارتباط قلبه بالله تعالى شديدًا، ويملأ حب الله حياته حتى أنه لا يستطعم من الدنيا شيئًا..
ويستوحش من مخالطة الناس إلا أن يكون بينهم بأمر الله أن يكون هناك..
وتصبح غاية حياته أن يفوز بالقرب من الله فتصبح كل لحظة في الدنيا تمر عليه وهو مسافر فيها بقلبه إلى الله، لا تمر عليه لحظة إلا وهو يقترب أكثر فيقرّبه الله، ويقترب الله من قلبه، وهذا حق على مذهب أهل السنة «والله يقْرب منْ خلْقه كما يشاء». (11قال الذّهبيّ في «العلوّ للعليّ الغفّار»: «روى شيْخ الْإسْلام أبو الْحسن الهكاريّ والحافظ أبو محمّد الْمقْدسيّ بإسْنادهمْ إلى أبي ثوْرٍ وأبي شعيْبٍ، كلاهما عنْ الإمام محمّد بْن إدْريسٍ الشّافعيّ ناصر الحديث رحمه الله تعالى، قال: القوْل في السّنّة الّتي أنا عليْها ورأيْت عليْها الّذين رأيْتهمْ، مثْل سفْيان ومالكٍ وغيرهما، الْإقْرار بشهادة أنْ لا إله إلّا الله وأنّ محمّدًا رسول الله، وأنّ الله على عرْشه في سمائه، يقْرب منْ خلْقه كيْف شاء، وينْزل إلى السّماء الدّنْيا كيف شاء»)
خاتمة
مثل هذا لا حظَّ له في نفسه؛ فلا “يقول” إلا بأمر الله ولا “يترك” إلا بأمره ولا “يحب” شيئًا لأنه يحبه ولكن بحب مولاه له، وبالقدْر الذي يحبه الله، ومن الوجه الذي يحبه الله. ولا يبغض شيئًا لمجرد أن طبعه ينفر عنه ولكن لأن الله يبغضه أو أذن له.
هذا القلب محل للعلم. وهو قلب ليس فيه إرادة إلا الإرادة الشرعية الإلهية؛ أي يطابق مراده مراد الله تعالى. قلب يكون قلقه وجزعه خشية ألا يفوز بالقُرْب، أو أن يأتي أمرًا يوحش ما بينه وبين ربه، أو يغفل لحظة فيتأخر المحب عن حبيبه. غايته في الدنيا هي عبادة الله والقرب منه، وأن يمن الله عليه بالقرب في الآخرة، وهو جزاء مرجو على إخلاص عبوديتهم لله تعالى وإيغالهم فيها.
وهؤلاء هم الذين يعرفون معنى القرب في الآخرة.
……………………………..
الهوامش
- روى مسْلمٌ في صحيحه 103 (728).
- رواه مسْلمٌ في صحيحه 72 (1018).
- روى الطّبرانيّ في المعْجم الكبير (8014) .
- روى الطّبرانيّ في المعْجم الكبير (787) .
- روى أحْمدٌ في مسْنده (17333).
- روى البخاريّ في صحيحه (1410).
- روى أبو داود في المراسيل (105).
- روى الطّبرانيّ في المعْجم الكبير (8014).
- يعني أن يقول الله الله.
- مجموع الفتاوى. ج10، صـ 230
- قال الذّهبيّ في «العلوّ للعليّ الغفّار»: «روى شيْخ الْإسْلام أبو الْحسن الهكاريّ والحافظ أبو محمّد الْمقْدسيّ بإسْنادهمْ إلى أبي ثوْرٍ وأبي شعيْبٍ، كلاهما عنْ الإمام محمّد بْن إدْريسٍ الشّافعيّ ناصر الحديث رحمه الله تعالى، قال: القوْل في السّنّة الّتي أنا عليْها ورأيْت عليْها الّذين رأيْتهمْ، مثْل سفْيان ومالكٍ وغيرهما، الْإقْرار بشهادة أنْ لا إله إلّا الله وأنّ محمّدًا رسول الله، وأنّ الله على عرْشه في سمائه، يقْرب منْ خلْقه كيْف شاء، وينْزل إلى السّماء الدّنْيا كيف شاء».