في الــعشرين من ذي القعدة سنة 728 هـ تُوفيَ شيخ الإسلام ‏الإمام المجاهد؛ المجابِه للطغاة والطغيان؛ المجاهد للمحتلين والغزاة؛ ابن تيمية رحمه الله تعالى؛ توفي في سجن القلعة بدمشق وقد ضرب أمثلة نادرة في توافق فعله مع قوله ثباتًا في زمن المحنة، ووضوحًا في الرؤية زمن الضبابيّة.

الموقف الأول: ما يصنع أعدائي بي؟

أُلقيَ بابن تيمية في سجن القلعة بدمشق وظلّ فيه عامًا وبضعة أشهر، وقد ‏عُرض عليه إخراجه من السجن مقابل أن يتخلّى عن بعض فتاواه فأبى وكان يقول:‏ “ما يصنع بي أعدائي؟ إنَّ جَنّتي وبستاني في صدري، أين رحتُ فجنّتي معي ولا ‏تفارقني، إن حبسي خلوة، وإخراجي من بلدي سياحة، وقتلي شهادة”.

إبطال إرهاب العدوّ بقلبِ تهديداته إلى فُرص، ومِحَنه إلى مِنَح، هو فنّ لا تطيقه إلا النفوس الكبيرة والإرادات العظيمة. فالعدوّ لا يملك إلّا تهديد مخالفيه بأحد ثلاثة أمور؛ القتل والسجن والنفي؛ فعندما يتعامل المرء مع هذه الخيارات على أنها فرص لإدراك نعيم لا يفقهه الطغاة والغزاة، عندها تغدو التهديدات هشيمًا تذروه رياح العزائم الصادقة.

الموقف الثاني: الثغور خيرٌ من المجاورة في المساجد الثلاثة‏

يقول ابن تيمية: “المقام في ثغور المسلمين كالثغور الشاميّة والمصريّة أفضل من المجاورة ‏في المساجد الثلاثة، وما أعلمُ في هذا نِزاعًا بين أهل العلم، وقد نصّ على ذلك غير ‏واحد من الأئمة”.

فكيف إن كان الثغر هو أحد المساجد الثلاثة، فيكون الرباط فيه أعظم بكثير؟ وعلى هذا فإنّ الرباط في المسجد الأقصى المبارك والدفاع عنه، والمرابطة في الثغور التي تذود عنه أعظم بكثير من المجاورة والاعتكاف والعبادة في المسجد الحرام والمسجد النبوي.

الموقف الثالث: تحرير مفهوم الفتنة‏

يقول ابن تيمية: “الله يقول: (وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ)؛ ‏فمن ترك القتال الذي أمر الله به لئلَّا تكون فتنةٌ؛ فهو في الفتنة ساقط بما وقع فيه من ‏ريب قلبه ومرض فؤاده، وتركِه ما أمر الله به من الجهاد”.

فالجهاد؛ جهاد المحتلين والغزاة وجهاد المستبدين وجهاد الطغاة المجرمين ليس فتنة، وليس هو السبب في إراقة الدماء، وليس هو السبب في الفوضى، وليس هو السبب في تدمير البيوت والممتلكات، ولا السبب في تهجير الناس وحصارهم والتضييق عليهم؛ بل السبب في ذلك هو فعل الاحتلال وفعل الطغيان والاستبداد. وكم يحاول الغزاة وعملاؤهم، والطغاة وأعوانهم، قلب المفاهيم وتحميل الضحية جرم الجلّاد، وإيهام الناس بأنه المتسبب في بلائهم؛ فلا بد من تحرير حقيقة الفتنة على الدوام عند كل مواجهة، وبين يدي كل مجابهة يستنفد فيها الباطل وسعه للتلبيس على أهل الحقّ وتشويش الصورة عليهم.

الموقف الرابع: اقتلوني ولو كان القرآن على رأسي

في وقعة شقحب ـ وهي بلدة على تخوم دمشق ـ أو ما تعرف أيضًا بمعركة مرج الصُّفَّر، التي وقعت في اليوم الثاني من رمضان سنة 702هـ، الموافق للعشرين من نيسان “إبريل” سنة 1303م، بين المسلمين والمغول، وكانت من أشدّ المعارك وأعتاها؛ التبس الأمر على المسلمين في القتال، حيث إنّ التتار كانوا يُظهرون الإسلام ويرفعون رايات عليها شعارات إسلامية. عندها وقف ابن تيمية في جيش المسلمين من أهل الشام خطيبًا، وكان مما قاله كما ينقل ابن كثير في تاريخه: ” وكان يقول للناس: إذا رأيتموني من ذلك الجانب – أي جانب التتار- وعلى رأسي مصحف فاقتلوني، فتشجّع الناس في قتال التتار، وقوِيَت قلوبهم ونِيَّاتهم، وللَّه الحمد”.

هكذا بكلّ وضوح؛ من وقف في صفّ الغزاة والطغاة، وأعلن تأييدهم ودافع عنهم وعن باطلهم، فهو خائن مجرم، ولو نطق بآيات الله تعالى، ولبس العمامة والجبّة، وخاطب النّاس بـ”قال الله وقال رسول الله”.

الموقف الخامس: ابن تيمية والتثبيط الإعلامي والذباب الإلكتروني

يقول ابن تيمية: “السّلق بالألسنة الحادّة يكون بوجوه:‏

تارة يقول المنافقون للمؤمنين: هذا الذي جرى علينا بشؤمكم، فإنكم أنتم الذين دعوتم ‏الناس إلى هذا الدين، وقاتلتم عليه، وخالفتموهم.. فإنَّ هذه مقالة المنافقين للمؤمنين من ‏الصحابة.‏

وتارة يقولون: أنتم الذين أشرتم علينا بالمقام هنا، والثبات بهذا الثغر إلى هذا الوقت، ‏وإلاّ فلو كنَّا سافرنا قبل هذا لما أصابنا هذا.‏

وتارة يقولون: أنتم ـ مع قلّتكم وضعفكم ـ تريدون أن تكسِروا، وقد غرَّكم دينُكم.. ‏كما قال تعالى: (إِذْ يَقُولُ ٱلْمُنَٰفِقُونَ وَٱلَّذِينَ فِى قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَٰٓؤُلَآءِ دِينُهُمْ ۗ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى ٱللَّهِ فَإِنَّ ٱللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ).‏

وتارة يقولون: أنتم مجانين، لا عقل لكم، تريدون أن تهلكوا أنفسكم والناسَ معكم.‏

وتارة يقولون أنواعاً من الكلام المؤذي الشديد. وهم مع ذلك أشحَّة على الخير، أي ‏حِراص على الغنيمة والمال الذي قد حصَل لكم.”

هكذا هو إعلام الباطل وذبابه الإلكتروني، يجتهد في تحميل أهل الحق مسؤولية ما يفعله الغزاة والطغاة تارة، ويجتهد في تشويه صورة أهل الحقّ لاغتيالهم معنويًّا في نفوس الناس تارة أخرى، ويسلّط سهامه الحاقدة على القضايا العادلة بغية نزعها من نفوس أهلها وأبنائها تارة ثالثة.

هذا هو ابن تيمية وهو يتحدث عن واقع اليوم، وكأنه يعاين ما نحن فيه تشخيصًا ‏وعلاجا، ويهدي للثابتين في وجه الباطل المستعلي هذه المواقف ليزدادوا ثباتًا.‏

هذا هو ابن تيمية، الذي قال ابن الورديّ في رثائه يوم قضى نحبه مسجونًا مظلومًا قصيدة طويلة منها:

عـثـا فـي عـرضـه قـوم ســلاط

لـهـم مـن نـثـر جوهـره التـقـاط

تـوفـي وهـو مـحـبـوس فــريــد

ولـيـس لـه إلـى الـدنـيا انـبسـاط

قضـى نحــبًا ولـيـس لـه قـريـن

ولا لـنـظـيـره  لُــفَّ  الـقــمـاط

فــيــا  لله  مــاذا ضــمّ  لــحـــد

ويــا لله مــا غــطَّــى الـبســاط

وحبْسُ الدرِّ في الأصداف فخر

وعند الشـيـخ بالسـجن اغـتباط

سـيـظهر قصـدكم يا حـابـسـيـه

ونـيّـتـكم إذا نُـصِـب الـصـراط

المصدر

مدونة العرب، محمد خير موسى .

اقرأ أيضا

دور العلماء العاملين في تحقيق النصر والتمكين

الصفات المهمة للعلماء والدعاة المؤثرين في الأمة

حقيقة النصر بين الفرد والدعوة

العلماء ومسؤولية البلاغ

مهمة العلماء

التعليقات غير متاحة