الشجاعة خلق نفسي، ولكن له مواد تمدُّه منها الإخلاص لله -عز وجل- وعدم مراءاة الخلق، فإن المخلص الذي لا يريد إلا وجه الله وثوابه لا يُبالي بلوم اللائمين إذا كان في ذلك رضًا لرب العالمين؛ فيُقدم على قول الحق غير مبالٍ بانتقاد من انتقده في موضوعه أو لفظه أو فصاحته أو عدمها لا يعدُّ المدح من الناس شيئًا في جانب قيامه بالحق.
الأخلاق ومكانتها في الإسلام
الأخلاق الحميدة التي دعا إليها الإسلام كثيرة جدا، ويكفي أن يتخلق الداعية بكل خلق حسن ذكره الله -تبارك وتعالى- في القرآن الكريم، ودعا إليه وحمد أهله وأثنى عليهم؛ اقتضاء بالنبي -صلى الله عليه وسلم، فلقد تخلق بمكارم الأخلاق كلها كما أمره ربه في القرآن الكريم، ولذلك لما سئلت أمنا عائشة -رضي الله عنها- عن خلقه -صلى الله عليه وسلم- قالت للسائل: أتقرأ القرآن؟ قال: نعم. قالت: (كان خلقه القرآن).
الشجاعة من أهم الأخلاق التي يجب على الداعية أن يتخلق بها
تعريف الشجاعة
الشجاعة: لغة مصدر شَجُع فلان أي: صار شجاعًا، وهو مأخوذ من مادة شجع التي تدل على الجرأة والإقدام. قال ابن فارس: ومن ذلك قولهم الرجل الشجاع وهو المقدام، والشجعة من النساء الجريئة، وقال ابن منظور: شجع شجاعة اشتد ّ عند البأس، والشجاعة شدة القلب في البأس، والشجاعة اصطلاحا تنوعت فيها عبارات العلماء.
فقال الجاحظ: الشجاعة هي الإقدام على المكاره والمهالك عند الحاجة إلى ذلك، وثبات الجأش عند المخاوف مع الاستهانة بالموت.
وقال المناوي: الشجاعة هي الإقدام الاختياري على مخاوف نافعة في غير مبالاة.
وقال ابن حزم: الشجاعة هي بذل النفس للذود عن الدين أو الحريم أو عن الجار المضطهد، أو عن المستجير المظلوم، وعمن هضم ظلما في المال والعرض، وسائر سبل الحق سواء قل َّ من يعارض أوكثر.
وقال الجرجاني: الشجاعة هيئة حاصلة للقوة الغضبية بين التهور والجبن، بها يقدم على أمور ينبغي أن يقدم عليها، كالقتال مع الكفار ما لم يزيدوا على ضعف المسلمين.
الشجاعة والثبات عند اللقاء من صفات المؤمنين
وقد أمر الله -تبارك وتعالى- عباده المؤمنين بالشجاعة والثبات عند اللقاء، ونهاهم عن الجبن وحذرهم من تولية الأدبار فقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ * وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} (الأنفال: 15، 16)، وقال سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الأنفال: 45)، ومدح الله -سبحانه وتعالى- أصحاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- على شجاعتهم وجرأتهم، وإقدامهم على لقاء عدوهم فقال سبحانه: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ} (آل عمران: 173، 174).
الشجاعة من أهم أخلاق الأنبياء
والشجاعة من أهم أخلاق الأنبياء والمرسلين – عليهم الصلاة والسلام – وبفضلها بعد فضل الله – عز وجل – واجهوا قومهم وتحدوهم، وثبتوا في وجههم حتى بلغوهم رسالة ربهم، انظر إلى شجاعة أول رسول بعثه الله تعالى إلى أهل الأرض نوح -عليه السلام- يقول الله تبارك وتعالى: {وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْم إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ} (يونس: 71)، إن كان الأمر قد بلغ منكم مبلغ الضيق؛ فلم تعودوا تتحملون بقائي فيكم ودعوتي لكم، وتذكيري لكم بآيات الله؛ فأنتم وما تريدون، وأنا ماض ٍ في طريقي لا أعتمد إلا على الله، فعلى وحده توكلت، فهو حسبي دون غيره فأجمعوا أنتم أمركم وشركاءكم، وتدبروا مصادر أمركم وموارده، وخذوا أهبَّتكم متضامنين، ولا يكن أمركم عليكم غمة، بل ليكن الموقف واضحًا في نفوسكم وما تعتزمونه مقررا لا لبس فيه ولا غموض، ولا تردد فيه ولا رجعة، ثم اقضوا فنفذوا ما اعتزمت بشأني، وما دبرتم بعد الروية ووزن الأمور كلها والتصميم الذي لا تردد فيه، {وَلَا تُنْظِرُونِ} ولا تمهلوني للأهبة والاستعداد، فكل استعدادي هو اعتمادي على الله وحده دون سواه.
ماذا كان وراء نوح من القوة والعدة؟
الله أكبر: إنه التحدي الصريح المثير الذي لا يقوله القائل إلا وهو مالئ يديه من قوته، واثق كل الوثوق من عدته حتى لا يغري خصومه بنفسه، ويحرضهم بمثيرات القول على أن يهاجموه، فماذا كان وراء نوح من القوة والعدة؟ وماذا كان معه من قوى الأرض جميعا؟ لقد كان معه الإيمان، الإيمان القوة التي تتصغار أمامها القوى، وتتضاءل أمامها الكثرة، ويعجز أمامها التدبير، وكان وراءهـ الله الذي لا يدع أولياءه لأولياء الشيطان، إنه الإيمان بالله وحده ذلك الذي يصل صاحبه بمصدر القوة الكبرى المسيطرة على هذا الكون بما فيه ومن فيه، فليس هذا التحدي غرورا، وليس كذلك تهورا، وليس انتحارا؛ إنما هو تحدي القوة الحقيقية الكبرى للقوى الهزيلة الفانية التي تتضاءل وتتصاغر أمام أصحاب الإيمان.
شجاعة هود عليه السلام
وتأمل أيضًا شجاعة هود -عليه السلام- وهو يواجه قومه ويتحداهم بعد أن هددوه بأنهم يخافون عليه من آلهتهم أن تصيبهم بسوء إن لم تكن قد أصابته {قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ} (هود: 54) فماذا كان جوابه -عليه السلام- قال: {إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ * مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِي * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ} (هود: 54 – 57)
وإن الإنسان ليدهش لرجل فرد يواجه قومًا غلاظًا شدادًا حمقى يبلغ بهم الجهل أن يعتقد أن هذه المعبودات الزائفة تمس ّ رجلًا فيهذي، ويرى في الدعوة إلى الله الواحد هذيانًا من أثر المس، إن الإنسان ليدهش لرجل يواجه هؤلاء القوم الواثقين بآلهتهم المفتراة هذه الثقة فيسفهم عقيدتهم، ويقرعهم عليهم، ويؤنبهم، ثم يهيج ضراوتهم بالتحدي لا يطلب مهلة ليستعد استعدادهم، ولا يدعهم يتريثون فيفتر غضبهم.
الإيمان بالله والثقة بوعده
إن الإنسان ليدهش لرجل فرد يقتحم هذا الاقتحام على قوم غلاظ شداد، ولكن الدهشة تزول عندما يتدبر العوامل والأسباب إنه الإيمان والثقة، والاطمئنان.
الإيمان بالله، والثقة بوعده، والاطمئنان إلى نصره، الإيمان الذي يخالط القلب فإذا وعد الله بالنصر حقيقة ملموسة في هذا القلب لا يشك فيها لحظة؛ لأنها ملء يديه وملء قلبه الذي بين جنبيه، وليست وعدا للمستقبل في ضمير الغيب؛ إنما هي حاضر واقع تتملاه العين والقلب..
الشجاعة خلق جميع الأنبياء والمرسلين
ولم تكن هذه الشجاعة قاصرة على فرد أو فردين من أنبياء الله ورسله، ولكنها كانت خلق جميع الأنبياء والمرسلين كما قال الله -تبارك وتعالى- عنهم: {الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} (الأحزاب: 39).
يقول ابن كثير -رحمه الله- في تفسير هذه الآية: يمدح الله -تبارك وتعالى- الذين يبلغون رسالات الله أي: إلى خلقه، ويؤدونها بأماناتها، ويخشونه أي: يخافون الله – عز وجل – وحده، ولا يخافون أحد ًا سواه، فلا تمنعهم سطوة أحد عن إبلاغ رسالات الله تعالى {وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا} أي: وكفى بالله ناصرا ومعينا، ثم يقول ابن كثير – رحمه الله -: وسيد الناس في هذا المقام، بل وفي كل مقام محمد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فإنه قام بأداء الرسالة وإبلاغها إلى أهل المشارق والمغارب إلى جميع أنواع بني آدم، وأظهر الله تعالى كلمته ودينه وشرعه على جميع الأديان والشرائع؛ فإنه قد كان النبي قبله إنما يبعث إلى قومه خاصة، وأما هو -صلى الله عليه وسلم- فإنه بعث إلى جميع الخلق عربيهم وعجمهم كما قال تعالى: {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا} (الأعراف: 158). ثم ورث مقام البلاغ عنه أمته من بعده فكان أعلى من قام بها بعده أصحابه -رضي الله عنهم- بلغوا عنه، كما أمرهم به في جميع أقواله وأفعاله وأحواله في ليله ونهاره، وحضره وسفر، وسره وعلانيته، فرضي الله عنهم وأرضاهم ثم ورثه كل خلف عن سلفهم إلى زمننا هذا، فبنورهم يقتضي المقتدون، وعلى منهجهم يسلك الموفقون، فنسأل الله الكريم المنان أن يجعلنا من خلفهم بإحسان.
الشجاعة والإخلاص متلازمان
والشجاعة والإخلاص متلازمان؛ فكلما أخلص الداعية نيته، واحتسب عند الله جهده ودعوته كلما كان جريئًا على تبليغ دين الله عز وجل، يقول العلامة السعدي -رحمه الله-: الشجاعة خلق نفسي، ولكن له مواد تمدُّه منها الإخلاص لله -عز وجل- وعدم مراءاة الخلق، فإن المخلص الذي لا يريد إلا وجه الله وثوابه لا يُبالي بلوم اللائمين إذا كان في ذلك رضًا لرب العالمين؛ فيُقدم على قول الحق غير مبالٍ بانتقاد من انتقده في موضوعه أو لفظه أو فصاحته أو عدمها لا يعدُّ المدح من الناس شيئًا في جانب قيامه بالحق. أما المرائي المتزيّن للناس، الواقف في همته على مدحهم وذمهم، فما أسرع خوره في المقامات الرهيبة، وما أعظم هلعه وهيبته إذا رماه الناس بأبصارهم، وما أقل ثبوته عند اعتراض المعترضين، وذم الذَّامين، والسبب في هذا أنه جعل تعظيم الخلق ومدحهم وثناءهم نُصب عينيه، وقبلة قلبه، وهو غايته التي يطلب.
ومعلوم أن من كانت هذه حاله أن أقواله وأفعاله تقع على هذا النحو الذي ينحو، والطريقة التي إليها يصبو، ومع ذلك لو قام في مقام من مقاماته الوضيعة؛ لكانت أقواله وأفعاله قليلة البركة، غير مأمون من ثبوته عليها، ولو تأملت الغاية التي يسعى إليها وهي إرادة تعظيم الخلق؛ لوجدت هذا التعظيم أو الثناء، إذا فرض وجوده نفاقًا وتزينًا، واتباعًا للأغراض المتنوعة، فما أسرع ما ينقطع ويتبدّل بضدّه. أما المخلص لله -عز وجل- القاصد لوجهه الذي غرضه نفع عباد الله، فإن الله يجعل في أعماله وكلامه الخير والبركة، ولو قُدّر أن يعترضه في هذا الطريق لوم اللائمين، وطعنهم، فيا سرعان ما يزول {فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ} (الرعد: 17).
الشجاعة هي الصبر والثبات والإقدام مع الحكمة
ومن الجدير بالذكر أنه ليس من الشجاعة أن يحرص الداعية على أن يقول كلمته، مهما ترتَّب عليها من المضارّ والمفاسد، وليس من الشجاعة أن يقف الداعية على منبره يسبّ ويشتم، ويشهّر، ويجرح معتقدًا أن ذلك من الشجاعة، وأنه بذلك من أفضل المجاهدين يبلّغ رسالة ربه ولا يخاف في الله لومة لائم، وهذا فهم خاطئ؛ لأن هذا التصرف إنما هو من التهور المذموم، لأن الشجاعة المحمودة – كما سبق في تعريفها- إنما هي بين الجُبن والتهوُّر. يقول الإمام السعدي -رحمة الله عليه: حقيقة الشجاعة هي الصبر والثبات والإقدام على الأمور النافع تحصيلها أو دفعها، وتكون في الأقوال وفي الأفعال.
فأصلها في القلب، وهو ثباته وقوته، وسكونه عند المهملات والمخاوف، وثمرته الإقدام في الأقوال والأفعال، وعند القلق والاضطراب، وكماله وزينته أن يكون موافقًا للحكمة، فإنه إذا زاد عن حدّ الحكمة؛ خُشي أن يكون تهورًا وسفهًا وإلقاء باليد إلى التهلكة، كم من داعية مُنع من منبره بكلمة قالها، وكم من داعية ذي جمهور غفير نفع الله به، حرم نفسه من جمهور وحرم جمهوره منه بكلمة عفوية صدرت منه، ظنّ أن قولها شجاعة وكان في الحقيقة تهورًا، فعلينا أن نفقه أن الأخلاق الحميدة دائمًا وسط بين المذموم والمحمود، يقول الشيخ -رحمه الله-: فإذا زاد عن حدّ الحكمة خُشي أن يكون تهورًا وسفهًا وإلقاء باليد إلى التهلكة، وذلك مذموم كما يذم الجبن يذم التهور، فالشجاعة خلق فاضل متوسط بين خلقين رزيلين وهما الجبن والتهور.
الإيمان بالله وقوة التوكل عليه، وكمال الثقة به مددٌ للداعية يشجعه على الشجاعة والإقدام
وإذا كان الإخلاص مددٌ للداعية يشجعه على الشجاعة والإقدام، وتبليغ دين الله عز وجل؛ فإن مما يمدّ هذا الخلق أيضًا الإيمان بالله -عز وجل- وقوة التوكل عليه، وكمال الثقة به سبحانه، وأن يعلم الداعية أن ما أصابه لم يكن ليخطئه وما أخطأه لم يكن ليصيبه، كما أن مما يمد الداعية بالشجاعة الإكثار من ذكر الله -عز وجل- والثناء عليه كما في قوله سبحانه: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (الأنفال: 45).
فمتى قوي العبد بالله وبقضائه وقدره وقوي يقينه بالثواب والعقاب، وتمّ توكله على الله، وثقته بكفاية الله، وعلم أن الخلق لا يضرون ولا ينفعون، وأن نواصيهم بيد الله عز وجل، وعلم الآثار الجليلة الناشئة عن الشجاعة متى تمكنت هذه المعارف من قلب الداعية قوي قلبه، واطمأن فؤاده، وأقدم على كل قول وفعل ينفع الإقدام عليه، ولا بد لمن كانت هذه حاله أن يمده الله بمدد من عنده لا يدركه العبد بحوله ولا قوته، فإن من كان الله معه فلا خوف عليه، ومن كان الله معه هانت عليه المصاعب، ودفع الله عنه المكاره يقول الله تعالى: {كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} (البقرة: 249) انظر إلى حالة نبينا -صلوات الله وسلامه عليه- وقد أحاطت به المخاوف المزعجة وهو في الغار، والأعداء منتشرون في طلبه، وأبو بكر يقول: يا رسول الله لو نظر أحدهم تحت قدميه لأبصرنا، فما كان منه -صلى الله عليه وسلم- إلا أن قال لصاحبه: ((يا أبا بكر، ما ظنك باثنين الله ثالثهما، يا أبا بكر لا تحزن إن الله معنا)).
ثبات رسول الله وشجاعته
وانظر إلى جميع مقاماته -صلى الله عليه وسلم- في الدعوة وجهاد الأعداء وهو صادع بأمر الله، معلن بدعوته للقريب والبعيد والعدو والصديق، لا تصده معارضة الأعداء ولا قلة الأنصار والأولياء، لم يفتر ولم يضعف، ولم يلن ولم يخف مخلوقًا، ولم يثنه خذلان الخاذلين، ولا لوم اللائمين، بل ثبت -صلى الله عليه وسلم- على الدعوة والجهاد المستمر أعظم من ثبوت الرواسي، وهو مع ذلك مطمئنّ الضمير، ثابت الجأش، واثقًا بوعد الله، مستبشرًا بنصر الله حتى أنجز الله ما وعده، وأكمل دينه، وأعز جنده، وهزم أعداءه، وجعل له العاقبة الحميدة، وتبعه على ذلك خلفاؤه وأصحابه فمضوا على ما مضى عليه نبيهم بإيمان ويقين وثبات كامل، وقوة في الدين؛ حتى فتحوا الأمصار ودانت لهم الأقطار، وأظهر الله بهم الدين، وأتم نعمته على المؤمنين {فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ} (الجاثية: 36، 37)
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المصدر
كتاب: “أصول الدعوة” جامعة المدينة العالمية، ص343-350.