بالتأمل في تاريخنا القريب وجدتُ أن هناك منعطفين خطيرين كانا بدايةَ تكريس الفصام بين أهل العلم وأهل الجهاد ، ثم ما تلاه من بُعدٍ عن شريعة الله عز وجل، وصيرورةِ القتالِ -إن وجد- لغاياتٍ أخرى غير غاية الجهاد في الإسلام ، وهي إعلاء كلمة الله عز وجل… فما هي هذه المنعطفات التي أدت إلى الافتراق بين أهل العلم وأهل الجهاد؟

الارتباط الوثيق بين العلم والجهاد

كنت قد كتبت مقالاً بينت فيه الارتباط الوثيق بين العلم والجهاد [ أمثلة رائدة في الجمع بين العلم وذِروة سَنام الإسلام ]، وأن قوام هذه الأمة بهذين الركنين العظيمين . وقد كان علماء الأمة في العصور السالفة قائمين بأمر الجهاد محرضين عليه ، حتى إنهم كانوا يقرِّعون الحكام المتخاذلين ، ويحذرونهم مغبةَ ترك الجهاد ، كما فعل شيخ الإسلام ابن تيمية مع سلطان مصر الملك الناصر محمد بن قلاوون ، حين تقاعس عن الخروج إلى بلاد الشام لصد الغزو التتري عليها في سنة سبعمائة للهجرة . فقد جاءه ابن تيمية من بلاد الشام يُذكِّره بأن بلادَ الشام داخلةٌ تحت سلطانه ، وأنَّ عليه أن يخرج بجنده لنجدة أهلها، وإلا ( أقمنا له سلطاناً يحوطه ويحميه ويستغله في زمن الأمن ). ثم لم يزل بهم كما يقول ابن كثير حتى جُردت العسـاكر إلى الشام ، ثم قال لهم : ( لو قُدِّر أنكم لستم حكامَّ الشام ولا ملوكه ، واستنصركم أهله وجب عليكم النصر، فكيف وأنتم حكامه وسلاطينه ، وهم رعاياكم وأنتم مسئولون عنهم )1(1) [ البداية والنهاية ( 14/15-17 ) ]..

من أسباب الافتراق بين أهل العلم وأهل الجهاد

وما زال ذلك الأمر موجوداً في الأمة بصورة أو بأخرى إلى أن جاءت هذه العصور المتأخرة فرأينا افتراقاً بين أهل العلم وأهل الجهاد ، ثم صار الأمر إلى فصامٍ مريرٍ بين الكتاب والسلطان في غالب بلاد المسلمين.

وبالتأمل في تاريخنا القريب وجدتُ أن هناك منعطفين خطيرين كانا بدايةَ تكريس ذلك الفصام الذي أشرنا إليه ، ثم ما تلاه من بُعدٍ عن شريعة الله ، وصيرورةِ القتالِ -إن وجد- لغاياتٍ أخرى غير غاية الجهاد في الإسلام ، وهي إعلاء كلمة الله.

يمثل أحد هذين المنعطفين بدايةَ تخلي كبار أهل العلم عن دورهم في قيادة جهاد الأمة ، وإنْ تمسك صغارهم بفكرة الجهاد ، ويمثل المنعطف الثاني انتقالَ قيادة الأمة إلى غير العلماء ؛ بحيث رضي أهل العلم أن يكونوا تابعين لا متبوعين .

المنعطف الأول : الحملة الفرنسية على مصر

أما الحدث الأول فهو حملة نابليون بونابرت على مصر ( 1312هـ- 1798م) . وموقف علماء الأزهر منها ومن ثورة الشعب المصري عليها ومقاومته لها . فإنَّ الذي وجدناه في تاريخ الجبرتي وغيره أن كبار علماء الأزهر لم يكن لهم دور في قيادةِ تلك المقاومة ولا تحريضِ الناس عليها . وإنما قادَ ثورةَ الشعب وبخاصة في القاهرة مجموعةٌ من صغار طلبة الأزهر وأوساطهم.

أما كبارهم فقد كانوا مشغولين بمعاونة المحتل في شؤون الحكم من خلال عضويتهم في الديوان الذي أنشأه نابليون بونابرت. وليتهم اكتفوا بذلك ، بل إنهم راحوا يصدرون المنشورات المضلِّلة التي تدعو الشعب صراحةً للاستسلام للغزاة والرضا بحكم الكافرين .

وانظر معي إلى هذا البيان الصادر عن كبار المشايخ ، والذي أثبته الجبرتي في تاريخه في حوادث أول جمادى الآخرة 1213: ( نصيحة من كافة علماء الإسلام بمصر المحروسة ، نعوذ بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن ، ونبرأ إلى الله من الساعين في الأرض بالفساد: نُعرِّف أهل مصر المحروسة أن طرف الجعيدية وأشرار الناس حرَّكوا الشرور بين الرعية وبين العساكر الفرنساوية بعد ما كانوا أصحاباً وأحباباً بالسوية ، وترتب على ذلك قتل جملة من المسلمين ونهبت بعض البيوت ، ولكن حصلت ألطاف الله الخفية وسكنت الفتنة بسبب شفاعتنا عند أمير الجيوش بونابرته وارتفعت هذه البلية، لأنه رجل كامل العقل عنده رحمة وشفقة على المسلمين ومحبة إلى الفقراء والمساكين ، ولولاه لكانت العساكر أحرقت جميع المدينة ونهبت جميع الأموال وقتلوا كاملَ أهل مصر ، فعليكم أن لا تحركوا الفتن ، ولا تطيعوا أمر المفسدين ولا تسمعوا كلام المنافقين ، ولا تتبعوا الأشرار ولا تكونوا من الخاسرين ،سفهاء العقول الذين لا يقرؤون العواقب لأجل أن تحفظوا أوطانكم وتطمئنوا على عيالكم وأديانكم ، فإن الله سبحانه وتعالى يؤتي ملكه من يشاء ويحكم ما يريد …)2(2) [ عجائب الآثار في التراجم والأخبار للجبرتي: ( 3/ 279)]..

واقرأ معي هذه النصيحةَ أيضاً : ( نصيحة من علماء الإسلام بمصر المحروسة : نخبركم يا أهل المدائن والأمصار من المؤمنين ويا سكان الأرياف من العربان والفلاحين ، أن إبراهيم بك ومراد بك وبقية دولة المماليك أرسلوا عدة مكاتبات ومخاطبات إلى سائر الأقاليم المصرية لأجل تحريك الفتنة بين المخلوقات ، وادعوا أنها من حضرة مولانا السلطان .. ونخبركم أن الطائفة الفرنساوية بالخصوص عن بقية الطوائف الإفرنجية دائماً يحبون المسلمين وملتَّهم ، ويبغضون المشركين وطبيعتهم، أحباب لمولانا السلطان قائمين بنصرته وأصدقاء له ملازمون لمودته وعشرته ومعونته ، يحبون من والاه ويبغضون من عاداه.. فننصحكم أيها الأقاليم المصرية أنكم لا تحركوا الفتن ولا الشرور بين البرية ، ولا تعارضوا العساكر الفرنسية بشيء من أنواع الأذية ، فيحصل لكم الضرر والهلاك ، ولا تسمعوا كلام المفسدين ، ولا تطيعوا أمر المسرفين الذين يفسدون في الأرض ولا يصلحون ، فتصبحوا على ما فعلتم نادمين..)3(3) [ عجائب الآثار : ( 3/ 280) ،حوادث جمادى الآخرة 1213 ]..

إذا أجاب العالم تقية، والجاهل يجهل ، فمتي يتبين الحق؟

وبغض النظر عما في هذين المنشورين من ركاكةٍ في العبارة وضعفٍ في الأسلوب ، فإنهما يعطيان القاريءَ فكرة عن الطريقة التي كان يفكر بها ، ويتحدث بها كبار المشايخ في ذلك الوقت . هذا وقد حاول المؤرخ عبد الرحمن الرافعي في كتابه “تاريخ الحركة القومية وتطور نظام الحكم “( 1/ 310 ، وما بعدها ) أن يعتذر عن أولئك المشايخ بأن تلك البيانات قد أمليت على لسانهم تحت تأثير الضغط والإرهاب ، أو أن الشيخ محمد المهدي سكرتير الديوان –وقد كان مقرباً من الفرنسيين- هو الذي كان يتولى صوغ المنشورات التي يريد نابليون إذاعتها على لسان الديوان في قالب عربي مسجع . ونحن مع اعترافنا بأن الإكراه يصح أن يكون عذراً للمسلم في بعض المواطن ، إلا أنه لا يخفى أن العلماء ليسوا كغيرهم من عامة المسلمين ، وأن عليهم أن يأخذوا بالعزيمة لا بالرخصة ، كما قال الإمام أحمد حين طُلب منه أن يقول بخلق القرآن ، ولو تقيَّة حتى يدفع عن نفسه الحبس والتعذيب : ( إذا أجاب العالم تقية، والجاهل يجهل ، فمتي يتبين الحق؟ )4(4) [الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي : ( 1/ 183)] ..

وقد كان يمكن لأولئك المشايخ إذْ لم يتمكنوا من الصدع بالحق ألا يدافعوا عن الباطل ، أو على الأقل كان يمكنهم أن ينصحوا العامة بالتزام الهدوء والسكينة بطريقة خير من هذه الطريقة ، فإن للنصح والإرشاد –كما يقول الرافعي نفسه : ( أساليب أرقى من تلك البيانات المملوءة نفاقاً وسخفاً).

ولما كانت الأمة لا زالت فيها بقية من خير فإنها لم تستمع -كما يقول الأستاذ محمود شاكر رحمه الله- ( للمشايخ المدجنين في الديوان لمهادنة الغازي ، واستمعت لصغار طلبة العلم في الأزهر الذين رفضوا نصيحة المشايخ الكبار بمهادنة الفرنسيين، رفضوها طاعة لله ورسوله صلى الله عليه وسلم ، وقامت ثورة القاهرة والأقاليم )5(5) [رسالة في الطريق إلى ثقافتنا ص : 105] ..

المنعطف الثاني : ثورة 1919

وإذا كانت ثورة أهل مصر ضد الفرنسيين قد قادها صغار طلبة العلم في الأزهر ، فإن ثورة 1919 قد شهدت أول تخلٍ لأهل العلم عن قيادة الأمة ، فقد استولى على قيادة الثورة العلمانيون، وشارك فيها كثيرٌ من رجال الأزهر ، ولكنهم كانوا تابعين لا متبوعين ، بل تخلَوْا عن اعتبار مقاومة المحتَلِّ جهاداً من أجل إعلاء كلمة الله ، أو دفاعاً عن جزءٍ من دار الإسلام ، ليتم التحول إلى فكرة المقاومة الوطنية التي تكاد تلغي الفوارق بين الدين الحق وما سواه من الملل والمعتقدات ، فصاروا يتخذون من تعانق الهلال والصليب رمزاً للثورة ، وصار المشايخ يخطبون في الكنائس والقساوسة يخطبون في المساجد ، على نحو ما ذكره الشيخ الباقوري في مذكراته عن الشيخ علي سرور الزنكلوني والقمص سرجيوس ، من أنهما كانا يتناوبان الحديث على منبر الأزهر داعييْن للثورة ضد الانجليز ، وأنهما كانا إذا حضرا يتلقاهما طلاب الأزهر بنشيد يقولون فيه : الشيخ والقسيس قسيسان **وإن تشأ فقل هما شيخان6(6) [ بقايا ذكريات  : أحمد حسن الباقوري ص :21]..

الدعوة إلى اتحاد الإسلام والنصرانية من محراب الأزهر

بل ذكر المفتي الشيخ محمد بخيت المطيعي أنه في أحد تلك المؤتمرات قام المدعو مصطفى القاياتي -وكان مدرساً بالأزهر- بوضع الصليب في محراب الجامع الأزهر ، ثم قام خطيباً فدعا إلى اتحاد الإسلام والنصرانية ، ودعا الحاضرين إلى صلاة ركعتين جميعاً مع وضع الصليب في المحراب ، وكبَّر وصلَّى ركعتين، والصليب أمامه يصلى لله وله معاً في زعمه7(7) [ نقل ذلك عن الشيخ المطيعي ،الشيخ أحمد بن الصديق الغماري في كتابه : ” مطابقة الاختراعات العصرية لما أخبر به سيد البرية” ص: 84 ] ..

وذكر الغماري أيضاً في نفس الموضع عن هذا القاياتي أنه كان يقول : إن سعد زغلول أفضل من النبي صلى الله عليه وسلم ، وإنه رسول الوطنية ، وإنه جاء بما لم يأتِ به النبي صلى الله عليه وسلم.

حكام وكلاء عن الاستعمار والمحتل

وقد كان المأمول بعد تحرر بلاد المسلمين من الاحتلال الغربي أن تعودَ لدينها وتحتكمَ إلى شريعة ربها.  لكن الذي حدث أن الاستعمار -كما يقول العالم الجليل الشيخ محمد أبو زهرة رحمه الله- قد ترك مرضاً عضالاً في نفوس حكام المسلمين ، الذين رباهم على سمعه وبصره ، فكانوا به متعلقين ( ولم يكن للإسلام في قلوبهم وتفكيرهم موضع ، فخرجت الأقاليم الإسلامية من الاستعمار العسكري ، لتقع في الاحتلال الفكري والنفسي )8(8) [ من بحث بعنوان : ” الوحدة الإسلامية” للشيخ أبي زهرة ، منشور ضمن كتاب : ” بشائر النصر ووسائله “، وهو هدية مجلة الأزهر لشهر جمادى الأولى 1445هـ ،ص: 315]..

هدانا الله وإياكم إلى صراطه المستقيم.

الهوامش

(1) [ البداية والنهاية ( 14/15-17 ) ].

(2) [ عجائب الآثار في التراجم والأخبار للجبرتي: ( 3/ 279)].

(3) [ عجائب الآثار : ( 3/ 280) ،حوادث جمادى الآخرة 1213 ].

(4) [الآداب الشرعية لابن مفلح الحنبلي : ( 1/ 183)] .

(5) [رسالة في الطريق إلى ثقافتنا ص : 105] .

(6) [ بقايا ذكريات  : أحمد حسن الباقوري ص :21].

(7) [ نقل ذلك عن الشيخ المطيعي ،الشيخ أحمد بن الصديق الغماري في كتابه : ” مطابقة الاختراعات العصرية لما أخبر به سيد البرية” ص: 84 ] .

(8) [ من بحث بعنوان : ” الوحدة الإسلامية” للشيخ أبي زهرة ، منشور ضمن كتاب : ” بشائر النصر ووسائله “، وهو هدية مجلة الأزهر لشهر جمادى الأولى 1445هـ ،ص: 315].

المصدر

صفحة الدكتور عبد الآخر حماد على منصة الفيس بوك، 24/ 6/ 1445هـ- 6/ 1/ 2024م.

اقرأ أيضا

أمثلة رائدة في الجمع بين العلم وذِروة سَنام الإسلام

الأسوة الحسنة في رسول الله ﷺ أصلها في الجهاد

القاضي ابن الخشاب والدفاع عن مقدسات الأمة الإسلامية

دور العلماء العاملين في تحقيق النصر والتمكين

مخاطر ترك الجهاد في سبيل الله

الجهاد هو الجهاد

التعليقات غير متاحة