لا زال الفهم السقيم للنصوص، وتلقيها بباديء الرأي والنظر الأول دون تدبر المقاصد والجمع بين أطراف الأدلة؛ سبب الانحراف العقدي والتفرق بين المسلمين.

مقدمة

أصيبت الأمة الإسلامية في القرون المتأخرة في أعزّ ما تملك وهو عقيدتها الصافية النقية التي جاء بها الرسول، صلى الله عليه وسلم، من عند الله عز وجل، وسار عليها صحابته رضوان الله عليهم، وتبعهم في ذلك ثلة من الأولين وقليل من الآخرين، ولا تزال طائفة من الأمة سائرة عليها كما أخبر بذلك الرسول، صلى الله عليه وسلم.

وهذه المصيبة العظيمة لها جذور تاريخية ترجع إلى القرون الأولى؛ فقد بدأت هذه المصيبة بمقتل الخليفة الراشد “عمر بن الخطاب” ـ رضي الله تعالى عنه ـ على يد مجوسي حاقد، ثم قتل ذي النورين عثمان بن عفان، رضي الله عنه، بمؤامرة دنيئة، ثم ظهر القول بنفي القدَر، ثم أُوقدت الفتنة بين المسلمين، ودار القتال بينهم، ثم خرجت “الخوارج” بمقولة شنيعة، ثم ظهر “التشيع” وازداد أهله غلوّاً وبُعداً عن الدين، وانتشر “الرفض” في بقاع شتى من العالم الإسلامي.

وفي كل مرة كانت هذه الانحرافات تجد من يتصدى لها من الرجال الأفذاذ الذين جمعوا بين العلم والعمل، والجهاد في سبيل الله، وكان هؤلاء يعملون على تنقية الأجواء الإسلامية من كل انحراف ومن كل دخيل.

وفي الأسطر التالية أثر يتحدث عن نموذج لانحراف خطير ظهر في هذه الأمة، وكيف تصدى لهذا الانحراف رجل تخرج من مدرسة الرسول، صلى الله عليه وسلم، التي تخرج منها أعظم الرجال.

نص الأثر والمناقشة

“عن ابن عباس رضي الله عنه قال: لما خرجت الحرورية اجتمعوا في دارٍ ـ على حِدَتهم ـ وهم ستة آلاف، وأجمعوا أن يخرجوا على علي بن أبي طالب وأصحاب النبي، صلى الله عليه وسلم، معه، قال: جعل يأتيه الرجل فيقول: يا أمير المؤمنين إن القوم خارجون عليك، قال: دعهم حتى يخرجوا فإني لا أقاتلهم حتى يقاتلوني وسوف يفعلون.

فلما كان ذات يوم قلت لعلي: يا أمير المؤمنين: أبرِد عن الصلاة فلا تفتني حتى آتي القوم فأكلمهم، قال: إني أتخوفهم عليك. قلت: كلا إن شاء الله تعالى، وكنت حسن الخلق لا أوذي أحدًا.

قال: فلبسْتُ أحسن ما أقدر عليه من هذه اليمانية، قال أبو زميل: كان ابن عباس جميلاً جهيرًا.

قال: ثم دخلت عليهم وهم قائلون في نحر الظهيرة. قال: فدخلت على قوم لم أر قط أشد اجتهادًا منهم، أيديهم كأنها ثفن (1ثَفِن: مفردها (ثفنة) بكسر الفاء: وهي ما ولى الأرض من كل ذات أربع إذا بركت، كالركبتين وغيرهما، ويحصل فيه غلظ من آثار البروك، وتجمع أيضًا على ثفنات (النهاية 1/215)) الإبل، وجوهُهم معلمة من آثار السجود، عليهم قمص مرحضة، وجوههم مسهمة من السهر.

قال: فدخلت. فقالوا: مرحبًا بك يا ابن عباس! ما جاء بك؟ وما هذه الحلة، قال: قلت ما تعيبون عليّ؟ لقد رأيت على رسول الله أحسن ما يكون من هذه الحلل، ونزلت ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْق﴾.

قالوا: فما جاء بك؟ قال: جئت أحدثكم عن أصحاب رسول الله، صلى الله عليه وسلم، ومن عند صهر رسول الله، صلى الله عليه وسلم؛ عليهم نزل الوحي، وهم أعلم بتأويله، وليس فيكم منهم أحد.

فقال بعضهم: لا تخاصموا قريشاً فإن الله تعالى يقول: ﴿بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ﴾، وقال رجلان أو ثلاثة لو كلمتهم.

قال: قلت أخبروني ما تنقمون على ابن عم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وختَنِه، وأول من آمن به، وأصحاب رسول الله معه؟

قالوا: ننقم عليه ثلاثاً.

قال: وما هنّ؟

قالوا: أولهن أنه حكّم الرجال في دين الله، وقد قال الله: ﴿إِنِ الحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ﴾، فما شأن الرجال والحكم بعد قول الله عز وجل.

قال: قلت: وماذا؟

قالوا: وقاتل ولم يَسْبِ ولم يغنم، لئن كانوا كفارًا لقد حلّت له أموالهم، ولئن كانوا مؤمنين لقد حرمت عليه دماؤهم.

قال: قلت وماذا؟

قالوا: محا نفسه من أمير المؤمنين. فإن لم يكن أمير المؤمنين فهو أمير الكافرين.

قال: قلت أعندكم سوى هذا؟ قالوا: حسبنا هذا.

قال: أرأيتم إن قرأت عليكم من كتاب الله المحكم، وحدثتكم من سنة نبيه، صلى الله عليه وسلم، ما لا تنكرون (ينقض قولكم) أترجعون؟

قالوا: نعم.

قال: قلت أما قولكم: حكّم الرجال في دين الله، فإن الله تعالى يقول: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ﴾، إلى قوله: ﴿يحكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ﴾. وقال في المرأة وزوجها: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَا﴾؛ أنشدكم اللَه أحكم الرجال في حقن دمائهم وأنفسهم، وإصلاح ذات بينهم أحق أم في أرنب ثمنها ربع درهم، وفي بُضع امرأة. وأن تعلموا أن الله لو شاء لحكم ولم يصير ذلك إلى الرجال.

قالوا: اللهم في حقن دمائهم، وإصلاح ذات بينهم.

قال: أخرجْتُ من هذه؟

قالوا: اللهم نعم.

قال: وأما قولكم قاتل ولم يسب ولم يغنم، أتسْبون أمَّكم عائشة، أم تستحلون منها ما تستحلون من غيرها، فقد كفرتم، وإن زعمتم أنها ليست أم المؤمنين فقد كفرتم، وخرجتم من الإسلام، إن الله يقول: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ﴾، فأنتم مترددون بين ضلالتين، فاختاروا أيهما شئتم.

أخرجت من هذه..؟

فنظر بعضهم إلى بعض؛ قالوا: اللهم نعم.

قال: وأما قولكم محا نفسه من أمير المؤمنين، فأنا آتيكم بما ترضون، فإن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، دعا قريشًا يوم الحديبية أن يكتب بينه وبينهم كتابًا، فكاتب سهيل بن عمرو وأبا سفيان. فقال: اكتب يا علي: «هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله»، فقالوا: والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت، ولا قاتلناك، ولكن اكتب «محمد بن عبد الله»؛ فقال: والله إني لرسول الله حقًا وإن كذّبتموني، اكتب يا علي: «محمد بن عبد الله»؛ فرسول الله، صلى الله عليه وسلم، كان أفضل من علي، رضي الله عنه، وما أخرجه من النبوة حين محا نفسه.

أخرجت من هذه..؟

قالوا: اللهم نعم.

فرجع منهم ألفان، وبقي منهم أربعة آلاف فقتلوا على ضلالة”. (2قال أحمد شاكر في تعليقه على (المسند 5 /76 رقم 3187) : إسناده صحيح)

أصول ودروس مستفادة من الأثر

أولاً: سبب انحرف الخوارج

لقد أُتى الخوارج من قِبل فهمهم السقيم لنصوص الشرع. ويرجع ضلالهم إلى أسباب أهمها:

1) فهْم النصوص ببادئ الرأي، وسطحية ساذجة، دون التأمّل والتثبت من مقصد الشارع من النصوص، فوقعوا في تحريف النصوص وتأويلها عن معناها الصحيح.

2) أخذهم ببعض الأدلة دون بعض، فيأخذون بالنص الواحد، ويحكمون على أساس فهمهم له دون أن يتعرفوا على باقي النصوص الشرعية في المسألة نفسها؛ فضربوا بعض النصوص ببعض (وبهذا أسكتهم ابن عباس، رضي الله عنه، فقد كان يأتيهم بباقي الأدلة في الموضوع نفسه، فلا يجدون لذلك جواباً).

وسبب ضلال الخوارج هو سبب ضلال طوائف عديدة من المسلمين. يقول الشاطبي رحمه الله أن أصل الضلال راجع إلي:

“الجهل بمقاصد الشريعة، والتخرص على معانيها بالظن من غير تثبت، أو الأخذ فيها بالنظر الأول، ولا يكون ذلك من راسخ في العلم”. (3الاعتصام للشاطبي 2/ 182)

ثانياً: الحرص على وحدة المسلمين وجماعتهم، وتوحد صفهم

وهذا ظاهر من موقف على، رضي الله تعالى عنه، ابتداء حين «جعل يأتيه الرجل فيقول يا أمير المؤمنين: إن القوم خارجون عليك فيقول: دعهم حتى يخرجوا، فإني لا أقاتلهم حتى يقاتلوا وسوف يفعلون»؛ فكان ـ رضي الله عنه ـ حريصًا على أن لا يأتي إلى الخوارج بشيء من القتال ونحوه يفرّق به المسلمين، ويُضعف شوكتهم، ما لم يخرجوا هم عليه، أو يؤذوا المسلمين ببدعتهم.

وهذا الأصل متمثل أيضًا في موقف ابن عباس ـ رضي الله عنهما ـ في حرصه على الخروج إليهم وانتدابه نفسه للتفاهم معهم، وتفنيد شبهتهم وإرجاعهم إلى الحق.

فهذا الذي ينبغي أن يكون عليه المسلمون من الامتناع عما يُضعف شوكتهم، ومن بذْل الجهد في جمع كلمتهم وتوحيد صفوفهم، ولا بد أن نُتْبِع هذا الأصل بأصل آخر وهو:

ثالثًا: السبيل إلى وحدة المسلمين وجمع صفهم

ولعله من أصل الأصول وأعظمها لكثرة ما تشتد إليه حاجة المسلمين.

إن وحدة المسلمين أصبحت مقولة يقولها كل مسلم، وكل جماعة، فالكل ينادي بالوحدة والكل يزعم أنه ساعٍ إليها حريص عليها، ولكن ما هو السبيل الحق إلى تحقيق هذه الوحدة..؟

هنا موضع الخلاف، وهنا تزل الأقدام، وتضل الأفهام، وتنحرف الأقلام.

إن “وحدة المسلمين” مطلب شرعي ومقصد عظيم من مقاصد الشريعة، فلا بد أن تكون الوسيلة إليه شرعية.

إن وحدة المسلمين يجب أن تكون عبادة نتقرب بها إلى الله عز وجل، والله لا يعبد إلا بما شرع، وكل عمل ليس عليه أمر الشرع فهو ردٌّ ـ كما أخبر بذلك الرسول، صلى الله عليه وسلم.

إن وحدة المسلمين بمعناها الشرعي الصحيح، تعني أن يعودوا جميعًا إلى الفهم الصحيح لكتاب الله وسنة رسوله، صلى الله عليه وسلم، على فهم السلف الصالح. هكذا وهكذا ـ فقط ـ يمكن أن نتحد، وهذا هو السبيل الوحيد لوحدة الصف؛ الرجوع إلى الكتاب والسنة على فهم السلف الصالح.

إن السبيل إلى وحدة المسلمين هو الاتحاد على الأصول الثابتة من الكتاب والسنة. وكل سبيل آخر للوحدة لا تقره الشريعة، ولا يجوز لنا ـ ونحن عباد الله؛ سلّمنا أمرنا إليه ـ أن نجعل منها صنمًا نستجيز من أجله كل وسيلة غير مشروعة.

إن “الوحدة” التي تنشأ عن ضم الطوائف المختلفة في الأصول في دائرة واحدة، وإعطائها مسمى واحد على اختلاف عقائدها، هي وحدة غير شرعية، وإن الصف الذي ينشأ عنها ليس مرصوصًا.

ولنتأمل في قول الله عز وجل: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً﴾، ثم قال: ﴿وَلاَ تَفَرَّقُوا﴾؛ يقول الشاطبي رحمه الله تعليقًا على الآية:

“تبيّن أن التأليف إنما يحصل عند الائتلاف على التعلق بمعنى واحد، وأما إذا تعلقت كل شيعة بحبل غير ما تعلقت به الأخرى فلا بد من التفرّق وهو معنى قول الله تعالى: ﴿وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ﴾. (4الاعتصام للشاطبي 2/ 192)

إذن فتضييع الأصول من أجل الوحدة سبيل غير شرعي، بل هو فوق ذلك عمل لا يقره العقل.

خاتمة

إن ما يقوم به المسلمون وحركاتهم الإصلاحية إنما هو تعظيم الخير بقدر استطاعتهم وتقليل الشر بحسب ما يقدرون، وأن يكون أمر الناس جاريا على الخير بأقصى ما يستطيعون في هذه الحياة.

يحدث التفرق قدريا، لكن يستعين المسلمون بربهم ويتوكلون عليه لدفع الشرور بأقصى الطاقة وتحصيل الخير ووحدة الكلمة بقدر الاستطاعة. والله تعالى الموفق للخير، ومن توكل على ربه ورجا فيه الخير وجد ما يأمل والله المستعان وعليه التكلان والحمد لله رب العالمين.

………………………………………..

  1. ثَفِن: مفردها (ثفنة) بكسر الفاء: وهي ما ولى الأرض من كل ذات أربع إذا بركت، كالركبتين وغيرهما، ويحصل فيه غلظ من آثار البروك، وتجمع أيضًا على ثفنات (النهاية 1/ 215) .
  2. قال أحمد شاكر في تعليقه على (المسند 5/ 76 رقم 3187) : إسناده صحيح.
  3. الاعتصام للشاطبي 2/ 182.
  4. الاعتصام للشاطبي 2/ 192.

المصدر:

  • معن عبد القادر، مجلة البيان، شوال – 1408هـ (السنة: 2).

اقرأ أيضا:

التعليقات غير متاحة