عند دراسة وتأمُّل مقتضيات لا إله إلا الله في حياة المؤمنين خاصًّة في المدينة يتضح لنا جليًّا عدم صحة الفكر الإرجائي.
مقدمة
يتوهّم كثير من الناس أن لا إله إلا الله كانت مطلوبة بكل مقتضياتها، ومؤثرة في ذلك الجيل الفريد-جيل صحابة رسول الله صلي الله عليه وسلّم- بكل آثارها لأنهم كانوا -قبل ذلك-مشركين !! وأنهم لو كانوا في غير هذا الوضع لكان كل المطلوب منهم هو التصديق والإقرار !!
وتلك هي الجناية الكبرى التي جناها الفكر الإرجائي على الأمة الإسلامية، والتي ظلت-مع عوامل أخرى-تفرغ لا إله إلا الله من محتواها الحقيقي تدريجيًا حتى أحالتها في النهاية كلمة خاوية من الروح.
صورة لا إله إلا الله مع المؤمنين في المدينة “التكليف الربَّاني”
ومن هنا; نريد أن نستعرض-قليلا-صورة لا إله إلا الله مع المؤمنين في المدينة.
إن حديث لا إله إلا الله لم ينقطع في المدينة، لأنه ليس حديثًا يذكر في مبدإ الطريق ثم ينتقل منه إلى موضوع آخر، إنما يذكر في مبدإ الطريق ثم ينتقل معه إلى كل موضوع آخر.
ولتأخذ نماذج من السور المدنية تبين هذا الأمر: إن سورة البقرة التي تناولت موضوعات متعددة بدأ بها تنظيم حياة المؤمنين في المجتمع الجديد بعد قيام الدولة، تبدأ بوصف المؤمنين الذين صح اعتقادهم ورسخ على الصورة الصحيحة، ثم أدوا العبادات التي فرضت عليهم:« الۤم* ذَ ٰلِكَ ٱلۡكِتَـٰبُ لَا رَیۡبَۛ فِیهِۛ هُدًى لِّلۡمُتَّقِینَ * ٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِٱلۡغَیۡبِ وَیُقِیمُونَ ٱلصَّلَوٰةَ وَمِمَّا رَزَقۡنَـٰهُمۡ یُنفِقُونَ * وَٱلَّذِینَ یُؤۡمِنُونَ بِمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡكَ وَمَاۤ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ وَبِٱلۡـَٔاخِرَةِ هُمۡ یُوقِنُونَ * أُو۟لَـٰۤىِٕكَ عَلَىٰ هُدًى مِّن رَّبِّهِمۡۖ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ » سورة البقرة [ 1-5].
فماذا يقال لهؤلاء «المؤمنين » « المتقين » « المفلحين » الذين لم يستوفوا فقط شرط التصديق والإقرار، بل أضافوا إلى ذلك إقامة الصلاة، وإيتاء الزكاة، وهما العبادتان اللتان كانتا وقتئذ قد فرضت عليهم؟
هل يقال لهم: يكفيكم ! أحرزتم المطلوب كله وضمنتم الجنة. أم يقال لهم: إن الله فرض عليكم، وفرض عليكم وفرض عليكم.. على سبيل الوجوب لا على سبيل التخيير؟
ويقال لهم، لكي يعلموا يقينا أن حقيقة الإيمان لا تتحقق بالتصديق والإقرار وحده، ولكن بأعمال معينة دالة على الإيمان: (لَّیۡسَ ٱلۡبِرَّ أَن تُوَلُّوا۟ وُجُوهَكُمۡ قِبَلَ ٱلۡمَشۡرِقِ وَٱلۡمَغۡرِبِ وَلَـٰكِنَّ ٱلۡبِرَّ مَنۡ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ وَٱلۡمَلَـٰۤىِٕكَةِ وَٱلۡكِتَـٰبِ وَٱلنَّبِیِّـۧنَ وَءَاتَى ٱلۡمَالَ عَلَىٰ حُبِّهِۦ ذَوِی ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡیَتَـٰمَىٰ وَٱلۡمَسَـٰكِینَ وَٱبۡنَ ٱلسَّبِیلِ وَٱلسَّاۤىِٕلِینَ وَفِی ٱلرِّقَابِ وَأَقَامَ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتَى ٱلزَّكَوٰةَ وَٱلۡمُوفُونَ بِعَهۡدِهِمۡ إِذَا عَـٰهَدُوا۟ وَٱلصَّـٰبِرِینَ فِی ٱلۡبَأۡسَاۤءِ وَٱلضَّرَّاۤءِ وَحِینَ ٱلۡبَأۡسِۗ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ ٱلَّذِینَ صَدَقُوا۟ۖ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُتَّقُونَ ) سورة البقرة [۱۷۷]. .
وسورة آل عمران، المشغولة كلها بقضية لا إله إلا الله، والتي تبدأ بهذه الآيات المتعلقة بالعقيدة: (الۤمۤ. ٱللَّهُ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا هُوَ ٱلۡحَیُّ ٱلۡقَیُّومُ. نَزَّلَ عَلَیۡكَ ٱلۡكِتَـٰبَ بِٱلۡحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَیۡنَ یَدَیۡهِ وَأَنزَلَ ٱلتَّوۡرَىٰةَ وَٱلۡإِنجِیلَ, مِن قَبۡلُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَأَنزَلَ ٱلۡفُرۡقَانَۗ.. ) سورة آل عمران [۱-4].
هذه السورة تقرر أصول العقيدة واضحة حاسمة وتقرر إلى جانبها مقتضياتها، وتبرز من بين هذه المقتضيات قضية القتال لإقرار هذا الحق في واقع الأرض، ويرد فيها بالذات هذا الدرس التربوي العظيم: (إِنَّ فِی خَلۡقِ ٱلسَّمَـٰوَ ٰاتِ وَٱلۡأَرۡضِ وَٱخۡتِلَـٰفِ ٱلَّیۡلِ وَٱلنَّهَارِ لَـَٔایَـٰتٍ لِّأُو۟لِی ٱلۡأَلۡبَـٰبِ * ٱلَّذِینَ یَذۡكُرُونَ ٱللَّهَ قِیَـٰمًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمۡ وَیَتَفَكَّرُونَ فِی خَلۡقِ ٱلسَّمَـٰوَ ٰاتِ وَٱلۡأَرۡضِ رَبَّنَا مَا خَلَقۡتَ هَـٰذَا بَـٰطِلًا سُبۡحَـٰنَكَ فَقِنَا عَذَابَ ٱلنَّارِ * رَبَّنَاۤ إِنَّكَ مَن تُدۡخِلِ ٱلنَّارَ فَقَدۡ أَخۡزَیۡتَهُۥۖ وَمَا لِلظَّـٰلِمِینَ مِنۡ أَنصَار* رَّبَّنَاۤ إِنَّنَا سَمِعۡنَا مُنَادِیًا یُنَادِی لِلۡإِیمَـٰنِ أَنۡ ءَامِنُوا۟ بِرَبِّكُمۡ فَـَٔامَنَّاۚ رَبَّنَا فَٱغۡفِرۡ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرۡ عَنَّا سَیِّـَٔاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ ٱلۡأَبۡرَارِ * رَبَّنَا وَءَاتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخۡزِنَا یَوۡمَ ٱلۡقِیَـٰمَةِۖ إِنَّكَ لَا تُخۡلِفُ ٱلۡمِیعَادَ* فَٱسۡتَجَابَ لَهُمۡ رَبُّهُمۡ أَنِّی لَاۤ أُضِیعُ عَمَلَ عَـٰمِل مِّنكُم مِّن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰۖ بَعۡضُكُم مِّنۢ بَعۡضۖ فَٱلَّذِینَ هَاجَرُوا۟ وَأُخۡرِجُوا۟ مِن دِیَـٰرِهِمۡ وَأُوذُوا۟ فِی سَبِیلِی وَقَـٰتَلُوا۟ وَقُتِلُوا۟ لَأُكَفِّرَنَّ عَنۡهُمۡ سَیِّـَٔاتِهِمۡ وَلَأُدۡخِلَنَّهُمۡ جَنَّـٰتٍ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ ثَوَابًا مِّنۡ عِندِ ٱللَّهِۚ وَٱللَّهُ عِندَهُۥ حُسۡنُ ٱلثَّوَابِ ) سورة آل عمران [195-۱۹۰].
فهؤلاء المؤمنون الصادقون الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلى جنوبهم-والذكر من عمل الجوارح إلى جانب عمل القلب-ويتفكرون في خلق السماوات والأرض، فيهتدون. إلى أنها لم تخلق باطلًا، إنما خلقت بالحق، والحق يقتضي أن يُحاسب الناس على أعمالهم التي قاموا بها في الحياة الدنيا، فلابد من بعث وحساب وجزاء، فيدعون الله أن يقيهم النار ويدخلهم الجنة، ويتقدمون بمؤهلات الطلب: أنهم بمجرد سماعهم للمنادي الذي ينادي للإيمان-عليه الصلاة والسلام-قد آمنوا.. هؤلاء المؤمنون الذين هذه حالهم وهذه صفاتهم يخبرون أن الله استجاب لهم.. فلأي شيء استجاب سبحانه ؟ أللتصديق والإقرار ؟ أللتفكر والتدبر ؟ أللذكر الدائم الذي لا ينقطع ؟ أللضراعة الحارة للوقاية من النار ودخول الجنة ؟ أم لشیء بعد ذلك كله، هو من « مقتضيات » ذلك كله ؟!
(فَٱسۡتَجَابَ لَهُمۡ رَبُّهُمۡ أَنِّی لَاۤ أُضِیعُ عَمَلَ عَـٰمِلٍ مِّنكُم… )
والتوجيه التربوي واضح.. فالمطلوب، والذي يستجيب له الله-جلّ وعلا-هو أن يتحول التفكر والتدبر والتذكر إلى عمل. ولمَّا كانت السورة مشغولة بقضية الجهاد لإقرار الحق في واقع الأرض، أبرزت الآية أنواعًا من العمل تناسب السياق، فذكرت الذين هاجروا في سبيل الله، والذين أخرجوا من ديارهم في سبيل الله، والذين أوذوا في سبيل الله، والذين قتلوا في سبيل الله، لا لأنها الأعمال الوحيدة المطلوبة، ولكن لأنها هي المناسبة في السياق .
وسورة النساء، التي وردت فيها الآية التي تخاطب «الذين آمنوا » فتطلب منهم أن يؤمنوا، بل تطلب منهم أن يؤمنوا بذات الأشياء التي هم مؤمنون بها بالفعل-كما أشرنا من قبل-لا تقول للذين آمنوا إنكم إذا آمنتم هذا الإيمان المطلوب، بل رسختموه وحافظتم عليه وحرصتم عليه، وامتلأت به قلوبكم ووجداناتكم، وصدَّقتم وأقرَرتم، فلا عليكم بعد ذلك أن يكون سلوككم الواقعي وتصرفاتكم العملية كما تُملى عليكم أهواؤكم، أو كما تقرر لكم أعرافكم… إنما يفرض عليهم « فرائض » يختم بيانها بقوله تعالى: ( تِلۡكَ حُدُودُ ٱللَّهِۚ وَمَن یُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ یُدۡخِلۡهُ جَنَّـٰتٍ تَجۡرِی مِن تَحۡتِهَا ٱلۡأَنۡهَـٰرُ خَـٰلِدِینَ فِیهَاۚ وَذَ ٰلِكَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِیمُ.* وَمَن یَعۡصِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَیَتَعَدَّ حُدُودَهُۥ یُدۡخِلۡهُ نَارًا خَـٰلِدًا فِیهَا وَلَهُۥ عَذَابٌ مُّهِین ) سورة النساء [۱۳-14].
ويوجههم توجيهات معينة يقيمون عليها علاقاتهم الأسرية، وعلاقاتهم الاجتماعية، ويوجههم إلى المرجع الذي يرجعون إليه في ذلك كله: (یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا۟ أَطِیعُوا۟ ٱللَّهَ وَأَطِیعُوا۟ ٱلرَّسُولَ وَأُو۟لِی ٱلۡأَمۡرِ مِنكُمۡۖ فَإِن تَنَـٰزَعۡتُمۡ فِی شَیۡءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُمۡ تُؤۡمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلۡیَوۡمِ ٱلۡـَٔاخِرِ….). سورة النساء [59].
فيربط رد الأمور إلى الله والرسول، وإجراء الحياة كلها بحسب مايقضى به الله ورسوله-صلى الله عليه وسلم-بالإيمان بالله واليوم الآخر ويجعله شرطه: « إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر».
ثم يخبرهم أنه لم يُرسِل رسله لمجرد التبليغ والإعلام، حتى يقول من يقول: لقد بلغني وقد علمت، وصدقت وأقررت.. إنما أرسلهم ليطاعوا:« وَمَاۤ أَرۡسَلۡنَا مِن رَّسُولٍ إِلَّا لِیُطَاعَ بِإِذۡنِ ٱللَّهِ.. » سورة النساء [64].
ثم يعلمهم-بعد بيان أحكامه وأوامره ونواهيه وتوجيهاته التي فرضها على « الذين آمنوا » – أن الإيمان ليس بالتمني، إنما بالتصديق الواقعی للإيمان في صورة عمل محسوس: « لَّیۡسَ بِأَمَانِیِّكُمۡ وَلَاۤ أَمَانِیِّ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِۗ مَن یَعۡمَلۡ سُوۤءًا یُجۡزَ بِهِۦ وَلَا یَجِدۡ لَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِیًّا وَلَا نَصِیرًا. وَمَن یَعۡمَلۡ مِنَ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ مِن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤۡمِنٌ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ یَدۡخُلُونَ ٱلۡجَنَّةَ وَلَا یُظۡلَمُونَ نَقِیرًا » سورة النساء [۱۲۳-124].
وسورة المائدة التي ورد فيها الإعلان باكتمال الدين وإتمام النعمة:« ٱلۡیَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِینَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَیۡكُمۡ نِعۡمَتِی وَرَضِیتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَـٰمَ دِینًاۚ » سورة المائدة [۳].
هذه السورة كلها بيان لما أحل الله وما حرَّم من المطاعم والمشارب والمعاملات والأحكام، وهي كلها موجهة « للمؤمنين » من أول آية في السورة:« يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود..»
وهي السورة التي نصت نصًّا صريحًا على وجوب التحاكم إلى شريعة الله دون غيرها من الشرائع كافة، وبيَّنت أن الحكم نوعان اثنان لا ثالث لهما ولا واسطة بينهما: إما حكم الله وإما حكم الجاهلية:(أَفَحُكۡمَ ٱلۡجَـٰهِلِیَّةِ یَبۡغُونَۚ وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ ٱللَّهِ حُكۡمًا لِّقَوۡم یُوقِنُونَ) سورة المائدة [50]..
وأن من لم يحكم بما أنزل الله فحكمهم عند الله أنهم الكافرون الفاسقون الظالمون:« وَمَن لَّمۡ یَحۡكُم بِمَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡكَـٰفِرُونَ » سورة المائدة [ 44 ].
« وَمَن لَّمۡ یَحۡكُم بِمَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ » سورة المائدة [45].
« وَمَن لَّمۡ یَحۡكُم بِمَاۤ أَنزَلَ ٱللَّهُ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡفَـٰسِقُونَ » سورة المائدة [47].
وهكذا بقية السور المدنية على إطلاقها.. كلها خطاب للذين آمنوا، أي أقروا وصدقوا، تقول لهم: إن التصديق والإقرار الذي جاءوا به من مكة مهاجرين به في سبيل الله-والهجرة ذاتها «عمل » كلفوا به فنفذوه-أو الذي كانوا عليه في المدينة ( إن كانوا من الأنصار ) يقتضيهم أن يلتزموا بما جدَّ في المدينة من الأحكام والتكاليف والأوامر والنواهي، وأن إيمانهم-الآن-صار مرتبطًا بالالتزام بما جاء من عند الله من هذا كله، وأن هذا الالتزام هو المحك لصدق إيمانهم، وإلا فهو النفاق الذي لا يقبله الله، ولا يُجزى به إلا الخلود في الدرك الأسفل من النار…
( أَلَمۡ تَرَ إِلَى ٱلَّذِینَ یَزۡعُمُونَ أَنَّهُمۡ ءَامَنُوا۟ بِمَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡكَ وَمَاۤ أُنزِلَ مِن قَبۡلِكَ یُرِیدُونَ أَن یَتَحَاكَمُوۤا۟ إِلَى ٱلطَّـٰغُوتِ وَقَدۡ أُمِرُوۤا۟ أَن یَكۡفُرُوا۟ بِهِۦۖ وَیُرِیدُ ٱلشَّیۡطَـٰنُ أَن یُضِلَّهُمۡ ضَلَـٰلَۢا بَعِیدًا… * فَلَا وَرَبِّكَ لَا یُؤۡمِنُونَ حَتَّىٰ یُحَكِّمُوكَ فِیمَا شَجَرَ بَیۡنَهُمۡ ثُمَّ لَا یَجِدُوا۟ فِیۤ أَنفُسِهِمۡ حَرَجًا مِّمَّا قَضَیۡتَ وَیُسَلِّمُوا۟ تَسۡلِیمًا » سورة النساء [60 إلى 65]..
« وَیَقُولُونَ ءَامَنَّا بِٱللَّهِ وَبِٱلرَّسُولِ وَأَطَعۡنَا ثُمَّ یَتَوَلَّىٰ فَرِیقٌ مِّنۡهُم مِّنۢ بَعۡدِ ذَ ٰلِكَۚ وَمَاۤ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ بِٱلۡمُؤۡمِنِینَ* وَإِذَا دُعُوۤا۟ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ لِیَحۡكُمَ بَیۡنَهُمۡ إِذَا فَرِیقٌ مِّنۡهُم مُّعۡرِضُونَ*وَإِن یَكُن لَّهُمُ ٱلۡحَقُّ یَأۡتُوۤا۟ إِلَیۡهِ مُذۡعِنِینَ* أَفِی قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَمِ ٱرۡتَابُوۤا۟ أَمۡ یَخَافُونَ أَن یَحِیفَ ٱللَّهُ عَلَیۡهِمۡ وَرَسُولُهُۥۚ بَلۡ أُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلظَّـٰلِمُونَ * إِنَّمَا كَانَ قَوۡلَ ٱلۡمُؤۡمِنِینَ إِذَا دُعُوۤا۟ إِلَى ٱللَّهِ وَرَسُولِهِۦ لِیَحۡكُمَ بَیۡنَهُمۡ أَن یَقُولُوا۟ سَمِعۡنَا وَأَطَعۡنَاۚ وَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ* وَمَن یُطِعِ ٱللَّهَ وَرَسُولَهُۥ وَیَخۡشَ ٱللَّهَ وَیَتَّقۡهِ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡفَاۤىِٕزُونَ » سورة النور [ 47-52 ].
« إِنَّ ٱلۡمُنَـٰفِقِینَ فِی ٱلدَّرۡكِ ٱلۡأَسۡفَلِ مِنَ ٱلنَّارِ وَلَن تَجِدَ لَهُمۡ نَصِیرًا » سورة النساء [١٤٥].
فإذا كان هذا ماجاءت به السور المدنيَّة من مقتضيات لا إله إلا الله، فقد وضح لنا أنه حين اكتمل الدين.. يوم أنزل الله قوله تعالى: « ٱلۡیَوۡمَ أَكۡمَلۡتُ لَكُمۡ دِینَكُمۡ وَأَتۡمَمۡتُ عَلَیۡكُمۡ نِعۡمَتِی وَرَضِیتُ لَكُمُ ٱلۡإِسۡلَـٰمَ دِینًاۚ » كانت لا إله إلا الله منهج حياة كامل، يشمل الجانب الاعتقادي، والجانب التعبدي، والجانب السلوكي العملي يشمل الاعتقاد بوحدانية الله (أي توحيده في ذاته وصفاته وأسمائه وأفعاله) وتوجيه الشعائر التعبدية له وحده بلا شريك، وتحكيم شريعته وحدها دون غيرها من الشرائع، والتخلق بأخلاق لا إله إلا الله، إلى جانب التكاليف المتعددة التي كلفهم إياها.
بِدء تقرير قضية الحاكمية في مكة
وإذا كانت السور المكية قد ركزت على الجانب الاعتقادي: الإيمان بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين، والقدر خيره وشره، وعلى الجانب الأخلاقي كذلك، وما كان قد فرض في مكة من الشعائر التعبدية، فإن السور المدنية قد ركزت تركيزًا شديدًا على قضية الحاكمية، والالتزام بتحكيم شريعة الله، واعتبار ذلك هو المحك لصدق الإيمان، مع التوكيد على الجانب الأخلاقي، والعبادات الأخرى التي فرضت في المدينة..
ولكن من الخطأ البالغ أن نظن أن قضية الحاكمية، أی تقریر کون الحاكمية لله وحده، وأن حق التشريع من تحليل وتحريم وإباحة ومنع هو حق خالص لله لا يشاركه فيه البشر، وأن التشريع بغير ما أنزل الله-معه أو من دونه-شرك، وأن إطاعة الذين يشرعون بغير ما أنزل الله شرك.. من الخطأ الظن بأن هذه القضية-بتفصيلاتها تلك – قد تقررت في المدينة حين بدأت التشريعات تتنزل ليقيم المسلمون حياتهم عليها. بل لقد تقررت تقريرًا واضحًا حاسمًا في مكة، في أكثر من سورة مكية، كأصل من أصول الاعتقاد بلا إله إلا الله، لا بوصفها التزامًا سلوكيًّا فحسب.
خذ على سبيل المثال هذه الآية من سورة الأعراف المكية: « ٱتَّبِعُوا۟ مَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡكُم مِّن رَّبِّكُمۡ وَلَا تَتَّبِعُوا۟ مِن دُونِهِۦۤ أَوۡلِیَاۤءَۗ قَلِیلًا مَّا تَذَكَّرُونَ » سورة الأعراف [۳].
فماذا تفيد هذه الآية ؟
إنها تفيد أن الناس في حالتين اثنتين: إحداهما مأمور بها والأخرى منهي عنها. الأولى هي الإيمان، والثانية هي الشرك. فالإيمان ملخص في قوله تعالى: « ٱتَّبِعُوا۟ مَاۤ أُنزِلَ إِلَیۡكُم مِّن رَّبِّكُمۡ ». والمقابل-أي اتباع غير ما أنزل الله هو اتباع الأولياء-أي الشركاء-وهو الشرك الصريح.
وخذ هذه الآية أيضا من سورة الأعراف:(أَلَا لَهُ ٱلۡخَلۡقُ وَٱلۡأَمۡرُۗ.. ) سورة الأعراف [ 54 ]. فهي تقرر أمرين في وقت واحد: أن الأمر لله وحده. بصيغة القصر. الأمر على إطلاقه غير محدد بنطاق معين ولا مجال معين. الأمر في السماوات والأرض وفي حياة البشر كذلك. فأما في السماوات والأرض فيستفاد من قوله تعالى قبل هذه العبارة: ( إِنَّ رَبَّكُمُ ٱللَّهُ ٱلَّذِی خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰاتِ وَٱلۡأَرۡضَ فِی سِتَّةِ أَیَّامٍ ثُمَّ ٱسۡتَوَىٰ عَلَى ٱلۡعَرۡشِۖ یُغۡشِی ٱلَّیۡلَ ٱلنَّهَارَ یَطۡلُبُهُۥ حَثِیثًا وَٱلشَّمۡسَ وَٱلۡقَمَرَ وَٱلنُّجُومَ مُسَخَّرَ ٰاتِۭ بِأَمۡرِهِۦ… ) سورة الأعراف [ 54 ].
، وأما في حياة البشر فمستفاد من قوله تعالى بعدها: (ٱدۡعُوا۟ رَبَّكُمۡ تَضَرُّعًا وَخُفۡیَةًۚ إِنَّهُۥ لَا یُحِبُّ ٱلۡمُعۡتَدِینَ* وَلَا تُفۡسِدُوا۟ فِی ٱلۡأَرۡضِ بَعۡدَ إِصۡلَـٰحِهَا ) سورة الأعراف [55-56]. أي لا تعتدوا بالخروج على أمر الله، ولا تفسدوا في الأرض باتباع غير شرع الله ومنهجه بعد إصلاحها بما نزل من عند الله.
أما الأمر الآخر الذي تقرره الآية فهو کون حق الحاكمية في السماوات والأرض وفي حياة البشر مستمدًّا من الخالقية، أي من القدرة على الخلق. فالذي له القدرة على الخلق هو وحده صاحب الأمر. وإذا كان الله وحده-سبحانه وتعالى – هو المتفرد بالخلق، فهو وحده كذلك صاحب الأمر، في السماوات والأرض وفي حياة البشر سواء.
وخذ هذه الآية من سورة الشورى المكية:« وَمَا ٱخۡتَلَفۡتُمۡ فِیهِ مِن شَیۡءٍ فَحُكۡمُهُۥۤ إِلَى ٱللَّهِۚ ذَ ٰلِكُمُ ٱللَّهُ رَبِّی عَلَیۡهِ تَوَكَّلۡتُ وَإِلَیۡهِ أُنِیبُ » سورة الشورى [۱۰]. فهي تقرر ذات المبدأ، وهو رد الحاكمية لله في كل شيء يعرض للناس في حياتهم. فقوله تعالى: «من شیء» معناها جنس الشيء وعمومه، أي كل شيء على إطلاقه. وكل شيء على إطلاقه حكمه إلى الله في كونه حلالًا أو حرامًا أو مباحًا أو مكروهًا أو مندوبًا. والآية السابقة لها تقرر ذات المعنى الذي قررته آية الأعراف:« أَمِ ٱتَّخَذُوا۟ مِن دُونِهِۦۤ أَوۡلِیَاۤءَۖ فَٱللَّهُ هُوَ ٱلۡوَلِیُّ وَهُوَ یُحۡیِ ٱلۡمَوۡتَىٰ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَیۡءٍ قَدِیر» سورة الشوری [۹].
فرد الحاكمية في كل شيء لله هو الإيمان، وخلاف ذلك هو اتخاذ الأولياء-أي الشرك-وهو عمل باطل، لأن الله وحده هو الولى، وهو الذي يحيي الموتى، وهو على كل شيء قدير.
كذلك قوله تعالى في سورة الشوری: « أَمۡ لَهُمۡ شُرَكَـٰۤؤُا۟ شَرَعُوا۟ لَهُم مِّنَ ٱلدِّینِ مَا لَمۡ یَأۡذَنۢ بِهِ ٱللَّهُۚ…؟! » سورة الشورى [۲۱].
ولكن آیات سورة الأنعام ربما كانت أكثر تفصيلا في القضية: ( أَفَغَیۡرَ ٱللَّهِ أَبۡتَغِی حَكَمًا وَهُوَ ٱلَّذِیۤ أَنزَلَ إِلَیۡكُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ مُفَصَّلًاۚ وَٱلَّذِینَ ءَاتَیۡنَـٰهُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ یَعۡلَمُونَ أَنَّهُۥ مُنَزَّل مِّن رَّبِّكَ بِٱلۡحَقِّۖ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ ٱلۡمُمۡتَرِینَ ؟* وَتَمَّتۡ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدۡقًا وَعَدۡلًاۚ لَّا مُبَدِّلَ لِكَلِمَـٰتِهِۦۚ وَهُوَ ٱلسَّمِیعُ ٱلۡعَلِیمُ* وَإِن تُطِعۡ أَكۡثَرَ مَن فِی ٱلۡأَرۡضِ یُضِلُّوكَ عَن سَبِیلِ ٱللَّهِۚ إِن یَتَّبِعُونَ إِلَّا ٱلظَّنَّ وَإِنۡ هُمۡ إِلَّا یَخۡرُصُونَ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعۡلَمُ مَن یَضِلُّ عَن سَبِیلِهِۦۖ وَهُوَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُهۡتَدِینَ* فَكُلُوا۟ مِمَّا ذُكِرَ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَیۡهِ إِن كُنتُم بِـَٔایَـٰتِهِۦ مُؤۡمِنِینَ * وَمَا لَكُمۡ أَلَّا تَأۡكُلُوا۟ مِمَّا ذُكِرَ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَیۡهِ وَقَدۡ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَیۡكُمۡ إِلَّا مَا ٱضۡطُرِرۡتُمۡ إِلَیۡهِۗ وَإِنَّ كَثِیرًا لَّیُضِلُّونَ بِأَهۡوَاۤىِٕهِم بِغَیۡرِ عِلۡمٍۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعۡلَمُ بِٱلۡمُعۡتَدِینَ* وَذَرُوا۟ ظَـٰهِرَ ٱلۡإِثۡمِ وَبَاطِنَهُۥۤ إِنَّ ٱلَّذِینَ یَكۡسِبُونَ ٱلۡإِثۡمَ سَیُجۡزَوۡنَ بِمَا كَانُوا۟ یَقۡتَرِفُونَ * وَلَا تَأۡكُلُوا۟ مِمَّا لَمۡ یُذۡكَرِ ٱسۡمُ ٱللَّهِ عَلَیۡهِ وَإِنَّهُۥ لَفِسۡقۗ وَإِنَّ ٱلشَّیَـٰطِینَ لَیُوحُونَ إِلَىٰۤ أَوۡلِیَاۤىِٕهِمۡ لِیُجَـٰدِلُوكُمۡۖ وَإِنۡ أَطَعۡتُمُوهُمۡ إِنَّكُمۡ لَمُشۡرِكُونَ » سورة الأنعام [114-۱۲۱].
وهي تبدأ بهذا السؤال الإتكاری: « أفغير الله أبتغي حكمًا ؟! » الذي يفيد أن الحاكمية لله وحده. هو الذي ينبغي أن يُتخذ حكمًا، ولا ينبغي لأحد غيره أن يُحتكم إليه في أمر من الأمور. ثم تفيد أن الله قد أنزل الكتاب مفصلًا فلم تعد هناك حجة لأحد أن يتخذ حكمًا غير الله في أمر من الأمور.. ويلاحظ أن هذه آية مكية في سورة مكية. وأنه في مكة لم تكن قد نزلت كل التشريعات التي يحتاج إليها الناس في حياتهم، إنما كان ذلك في المدينة. فالتفصيل الذي تشير إليه الآية ليس هو تفصيل الأحكام-أي تفصيل الفروع-إنما كان تفصيل القضية الكبرى-قضية الحاكمية-وأنها من أصل الاعتقاد. وأن الاعتقاد لا يتم ولا يصح إلا إذا كان معناه ومؤداه هو الالتزام-من حيث المبدأ-بما جاء من عند الله، كثيرًا كان ما جاء من عند الله أم قليلا، ومختصًّا بالاعتقاد كان أم مختصًّا بالأخلاق، أم مختصًّا بالأحكام..
ثم تمضي الآيات في تقرير أن كلمة الله هي الكلمة الفاصلة، وهي الصدق والعدل، وأن من لا يتبعها هم الضالّون الذين يتبعون الظن، ومن ثم لا يهتدون، وأن الله يعلم من يضل عن سبيله ويعلم من يهتدی إليه.
ثم تأتي القضية التي تأتي هذه المقدمات كلها توكيدًا لها، وتأصيلًا لقاعدتها، وهي قضية التحليل والتحريم، ومَن الذي يقرر الأمر فيها. وموقف المؤمنين منها وموقف المشركين، وما يجعل الإنسان في شأنها مؤمنًا أو يجعله مشركًا. ومدارها أن المشركين في مكة كانوا لا يذكرون اسم الله على الميتة ثم يحلون أكلها، ويعطون هذا الأمر شرعية من عند أنفسهم بغير إذن من الله وبغير برهان. فيَنهى الله المؤمنين أن يأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه-وهو الميتة التي حرمها الله-ويُنذرهم أنهم إن أطاعوا المشركين فهم مشركون مثلهم، لأنهم يطيعون تشريعًا جاهليًّا ما أنزل الله به من سلطان.
ومن ذلك يتبين أن قضية الحاكمية لم تبدأ في المدينة بعد نزول التشريع، إنما بدأت في مكة في وقت تأصيل العقيدة وبيان مقتضيات لا إله إلا الله، وجاءت الأحكام القاطعة بعد ذلك في المدينة تقرر أنه من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون، وأنه لا يعتبر أحد مؤمِنًا حتى يحتكم إلى الله ورسوله، تطبيقًا وتوكيدًا لما تقرر في مكة وقت تأصيل العقيدة.
صورة لا إله إلا الله مع المؤمنين في المدينة “الجانب التطبيقي في حياة المؤمنين”
فإذا كان هذا من جانب التكليف الرباني ، فلننظر إلى الجانب التطبيقي في حياة المؤمنين في المدينة .. كيف تلقوا الأمر الرباني وكيف نفذوه.
لم يكن أحد في ذلك الجيل المتفرد يتلبث حتى يسأل : هل هذه الأوامر الربانية – سواء منها ماجاء في كتاب الله أو في السنة المطهرة – مُلزمة ؟! هل هي داخلة في مسمى الإيمان أم زائدة عليه ؟ هل يكفي التصديق بأنها من عند الله ، أم ينبغي تنفيذها كذلك ؟ !! وهل يكون الإنسان مؤمنا إذا لم يعمل بشئ منها على الإطلاق ؟ !!
لم يكن أحد يصنع ذلك ، سواء كان من المؤمنين الذين شهد لهم الله ورسوله – صلى الله عليه وسلم – بالإيمان ، أم كانوا حتى من المنافقين . الذين يتظاهرون بالإيمان وهم في دخيلة أنفسهم كافرون .
فقد كان هؤلاء وهؤلاء يعلمون أن لا إله إلا الله ليست كلمة تنطق باللسان وينتهي الأمر، وإنما هي كلمة ذات مقتضيات ، وكانوا يؤدون هذه المقتضيات بالفعل. مع فارق أساسي بين المؤمنين والمنافقين ، أن الأولين يؤدونها إيمانًا بها ، وطاعة لله الذي أمر بها وأنزلها، وطمعًا في جنته ورضوانه ، وأما الآخرون فيؤدونها نفاقا بغير إيمان ، ويؤدونها بفتور ظاهر أو خفي، أو يتحايلون للتفلت منها: ( إِنَّ ٱلۡمُنَـٰفِقِینَ یُخَـٰدِعُونَ ٱللَّهَ وَهُوَ خَـٰدِعُهُمۡ وَإِذَا قَامُوۤا۟ إِلَى ٱلصَّلَوٰةِ قَامُوا۟ كُسَالَىٰ یُرَاۤءُونَ ٱلنَّاسَ وَلَا یَذۡكُرُونَ ٱللَّهَ إِلَّا قَلِیلًا ) النساء[142]. (وَإِنَّ مِنكُمۡ لَمَن لَّیُبَطِّئَنَّ فَإِنۡ أَصَـٰبَتۡكُم مُّصِیبَة قَالَ قَدۡ أَنۡعَمَ ٱللَّهُ عَلَیَّ إِذۡ لَمۡ أَكُن مَّعَهُمۡ شَهِیدًا * وَلَىِٕنۡ أَصَـٰبَكُمۡ فَضۡل مِّنَ ٱللَّهِ لَیَقُولَنَّ كَأَن لَّمۡ تَكُنۢ بَیۡنَكُمۡ وَبَیۡنَهُۥ مَوَدَّة یَـٰلَیۡتَنِی كُنتُ مَعَهُمۡ فَأَفُوزَ فَوۡزًا عَظِیمًا ).النساء[73-74]
ولم يكن أحد من أولئك المنافقين – فضلًا عن المؤمنين ! – يتصور أنه يستطيع أن يحصل على مظهرية الإسلام في الحياة الدنيا بمجرد نطق لا إله إلا الله ، دون أن يعمل عملًا واحدًا من مقتضياتها .. ولا كان هذا – في المجتمع المسلم – ممكن الحدوث !!
إن تصور وجود فرد واحد في المجتمع المسلم – أي المجتمع الذي يتحاكم إلى شريعة الله – يسمي « مسلمًا » ويحتفظ بهذا الاسم – سواء كان في حقيقته مؤمنا أو منافقا – دون أن يعمل عملا واحدا من أعمال الإسلام .. هو تصور مستحيل !
فهناك على أقل تقدير مسألة الصلاة !
لا يستطيع فرد واحد في المجتمع المسلم – أي المجتمع الذي يتحاكم إلى شريعة الله – أن يبقى ثلاثة أيام متوالية لا يقيم الصلاة دون أن توقع عليه عقوبة القتل ! ويستوي أن يقتل حدًّا أو يقتل كفرًا . فليست العبرة هنا ! إنما العبرة – كما قال الإمام ابن تيمية بحق – أنه لا يمكن في الواقع العملي أن يوجد إنسان في قلبه ذرة واحدة من الإيمان يتعرض للقتل بسبب عدم أدائه الصلاة ثم يظل مصرًّا على عدم الصلاة حتى يقتل بالفعل !! مستحيل !!
وهناك أيضا الإقرار الواقعي العملي بحاکمية شريعة الله، والتحاكم إليها وحدها ، وعدم التحاكم إلى أي شريعة سواها .. وإلا ، فلو أنه خرج عليها في المجتمع المسلم – أو أنكر شيئا منها ، فهل يظل « مسلمًا» وهل يظل حيًّا؟ أم يصبح مرتدًّا يوقع عليه حد الردة ؟!
وهكذا يتبين أنه من المستحيل – في المجتمع المسلم – أن يوجد فرد واحد لا يعمل عملًا واحدًا من أعمال الإسلام ، ثم يظل يسمى مسلمًا ويحتفظ بهذا الاسم ، فضلًا عن أن تظل له حياة في ذلك المجتمع !! إنما تثار مثل هذه الدعوى الفارغة في المجتمعات الجاهلية التي تدعى الإسلام ، مستندة إلى الفكر الإرجائي ، الغريب غربة كاملة عن روح هذا الدين.
المصدر:
كتاب “مفاهيم ينبغي أن تصحح” للأستاذ محمد قطب رحمه الله، ص38-56 بتصرُّف يسير.