للهجرة في دين الله وفي الحركة به، مكانة في دين الله ودور تؤديه، هي لازمة لإقامة الدولة، ولازمة للخروج من الفتنة، ولازمة في ظهور العقيدة والانحياز لها.
مقدمة
ليست الهجرة حادثا عرضيا ولا فذا.. بل هو سنة مكرورة مع الأنبياء والمؤمنين، تفرضها طبيعة مواجهة الحق للباطل، ويُضطر اليها المؤمنون حينا.. كما أن للهجرة أهدافا وغاية يرجو المؤمنون من ورائها تحقيق بناء وحياة جديدة وتمكينا للإسلام ومنهجه وإيجاد موطنا يحمل هذا الدين نظاما ومنهجا كما تحمله النفوس عقيدة ومشاعرا..
وهذا المقال يعالج هذه المعاني..
سنة مطَّردة
تعد الهجرة من أهم متطلبات الدعوة إلى الله تعالى، وهي سنة الله في رسله وأنبيائه وعباده المؤمنين، الذين هاجروا فرار ا بدينهم وخوفا من بطش الظالمين..
وهو الأمر الذي عرفه رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أول يوم جاءه الوحي، إذ لما ذهبت خديجة رضي الله عنها إلى ورقة بن نوفل، فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قد رآه، قال له ورقة: «ليتني أكون حيّا إذ يخرجك قومك». (1أخرجه البخاري، كتاب بدء الوحي، باب حدثنا يحيى بن بكير، ج 1، ص3)
ولهذا أدرك النبي صلى الله عليه وسلم منذ أول يوم أوحي إليه فيه أنه سيُخرَج من بلده، وهو أشرف الخلق وأكرمهم عند الله عز وجل، فنصْرُ الله في الدنيا وثوابه في الآخرة إنما ينالهما المرء بالعمل، والنصيحة، والمصابرة على الشدائد، واللجوء إلى الله عز وجل بالدعاء والاستعانة.
ويُستَنبط من هذا الحديث العظيم أن الهجرة لا تختص بفئة معينة من المؤمنين في زمن معلوم يأتي عليه زمن آخر فتنسخ، بل إنها دائمة ما دام الحق والباطل وما دام الكفر والإسلام.
ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لا تنقطع الهجرة حتى تنقطع التوبة، ولا تنقطع التوبة حتى تطلع الشمس من مغربها».(2أخرجه أحمدفي المسند، ج1، ص192، وصححه الألباني في (صحيح الجامع الصغير)، ح/7469، م2، ص 1244)، وفي رواية: «لا تنقطع الهجرة ما قوتل الكفار». (3الهيثمي: كشف الأستار عن زوائد البزار، ح/1748، ج2، ص 304، وابن حجر: التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير، ح/ 2169، ج 4، ص167)
ولم يكن وعد الله (سبحانه) بتعظيم أمر الهجرة وثواب المهاجر في سبيله إلا بسبب ما يحتمل المهاجر من عناء ومشقة وشدائد ومكابدة الأخطار، لذلك قال تعالى: ﴿وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَإنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ * لَيُدْخِلَنَّهُم مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ﴾.(الحج:58 – 59).
احتياج الدولة الناشئة للهجرة والنصرة
وقد أوجب الله (عز وجل) الهجرة على كل مؤمن؛ لتكثير سواد المسلمين، ولنصرة النبي صلى الله عليه وسلم ومواساته بالنفس والنفيس، إذ كانت الدولة الإسلامية الناشئة في المدينة بحاجة إلى المهاجرين من المؤمنين؛ ليتوطد سلطان الإسلام فيها، حيث يتربص به اليهود والمنافقون، وتحيط به قوى الأعراب المشركين من حول المدينة، ويترصده كفار قريش الذين أقضت الهجرة مضاجعهم..
فمضوا يخططون ويعملون للإجهاز على كيان الإسلام الفتي..
لذلك تتابعت الآيات في الأمر بالهجرة وبيان فضلها وعظيم أجرها، حتى وعد الله، جلّ ذِكره، المهاجرين في سبيله بتمكينهم من مراغمة أعدائهم، والتوسعة عليهم في أرزاقهم، بقوله سبحانه: ﴿وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأَرْضِ مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً وَمَن يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِراً إلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ المَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً﴾. (النساء:100)
قطع العلائق التي تمنع الهجرة
ثم جاء الوعيد شديداً فيمن تباطأ وتثاقل عن الهجرة والجهاد في سبيل الله، وآثر متاع الدنيا على التضحية في سبيل الله، في قوله تعالى: ﴿قُلْ إن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَاًتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي القَوْمَ الفَاسِقِينَ﴾.(التوبة:24)
قال الشيخ ابن عتيق، رحمه الله:
وما من أحد يترك الهجرة، إلا وهو يتعذّر بشيء من هذه الثمانية، وقد سدّ الله على الناس باب الاعتذار بها، وجعل مَن ترك الهجرة لأجلها أو لأجل واحدٍ منها فاسقاً، وإذا كانت مكة هي أشرف بقاع الأرض، وقد أوجب الله الهجرة منها ولم يجعل محبتها عذراً، فكيف بغيرها من البلدان؟!. (4ابن عتيق: سبيل النجاة والفكاك من موالاة المرتدين وأهل الإشراك، ص 28)
وحسماً لأمر الهجرة وجعْله فرض عين قطع الله عز وجل الموالاة بين من هاجر ومن لم يهاجر، وذلك في قوله تعالى: ﴿فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ﴾ (النساء:89).
ولاية خاصة لأهل الهجرة
فالذين دخلوا في هذا الدين عقيدةً، لكن لم ينضموا إلى المجتمع الذي يقوم على هذه العقيدة، ولم يلتحقوا به فعلاً، لا يعدّون أعضاءً في المجتمع المسلم..
ولذا لم يجعل الله عز وجل بينهم وبينه ولاية وتناصراً بمعناه الأعم: ﴿إنَّ الَذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوا وَنَصَرُوا أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُم مِّن وَلايَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ (الأنفال:72).
ولما كانت الهجرة بهذه المنزلة، وجب على كل من أسلم أن ينتقل إلى مهاجَر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، إلا من استثني من أهل الأعذار من الأطفال والنساء والشيوخ. قال القاضي عياض:
واتفق الجميع على أن الهجرة قبل الفتح كانت واجبة عليهم، وأن سكنى المدينة كان واجباً؛ لنصرة النبي ومواساته بالنفس. (5نقلاً عن فتح الباري، ج7، ص 267)
بل إن الإقامة بعد ذلك في مكة كانت حراماً على من هاجر منها قبل الفتح؛ ولهذا رثى النبي صلى الله عليه وسلم لسعد بن خولة أن مات بمكة. (6أخرجه البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم- : (اللهم أمضِ لأصحابي هجرتهم)، ج 4، ص 267)
الحكمة من الهجرة
إن العلم بمقاصد الهجرة وأهدافها أمر ضروري لكل مسلم يهمه أمر إقامة صرح هذا الدين؛ فالنصوص القرآنية التي وردت بصدد الهجرة ما كانت تعالج أمر الهجرة في تلك المرحلة من الزمن فحسب، ولكنها تعالج حالة قائمة في أمر الدعوة..
ولذلك: وردت بعض نصوص السنة توضح هذا الأمر. فعن عبد الله بن عمرو، رضي الله عنه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إنها ستكون هجرة بعد هجرة». (7أخرجه أبو داود في السنن، كتاب الجهاد، ح/2482، ج3، ص 4، وأحمد في المسند، ج2، ص 199)، وفي حديث آخر: «لا تنقطع الهجرة ما كان الجهاد». (8أخرجه أحمد في المسند، ج4 ، ص 62 ، وقال الألباني: إسناده صحيح، السلسلة الصحيحة، ج4 ، ص 239 240)
والجهاد ماضٍ إلى يوم القيامة، كما جاء في حديث أبي داود: «والجهاد ماضٍ منذ بعثني الله إلى أن يقاتل آخر أمتي الدجال». (9أخرجه أبو داود في السنن، كتاب الجهاد، ح/2532، ج3، ص 18)
وهذا الحكم استنبطه البخاري، رحمه الله، من حديث النبي صلى الله عليه وسلم: «الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة: الأجر، والمغنم» بقوله: «باب الجهاد ماضٍ مع البر والفاجر». (10أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، ج3 ، ص 215)
بقاء الهجرة قرينة للجهاد الى يوم القيامة
ولذلك فالهجرة ليست مرحلة تاريخية انتهت بمضي وقتها وأهلها، وأصبحت مَعْلَماً وصفحة من صفحات التاريخ فحسب، وإنما هي صفحة من صفحات السيرة المضيئة التي خلّدها القرآن والسنة، وستظل جزءاً من حركة الدعوة إلى الله تعالى. (11صالح أحمد الشامي: السيرة النبوية تربية أمة، وبناء دولة، ص 127 128)
يقول صاحب الظلال:
“ولقد ظل شرط الهجرة قائماً حتى فتح مكة، حين دانت أرض العرب للإسلام وقيادته، وانتظم للناس في مجتمعه، فلا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد وعمل، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم…”. (12سيد قطب: في ظلال القرآن، م3، ص1560)
إقامة الدولة
على أن الحكمة الأساس من الهجرة هي أن رسالة الإسلام جاءت لتنظّم شؤون الناس في شتى مجالات الحياة، فهي دستور ومنهج شامل لا بد لتطبيقه من أمة وأرض تقام فيها أحكام الله تعالى..
والمسلمون لا يمكن أن يكون لهم وجود فِعلي إلا إذا صَبغ الإسلام جميع مرافق حياتهم، وساد نظامه أرضهم، وقامت فيها أحكامه وآدابه، كما تقوم فيها شعائره، وتسود فيها عقائده.
لكن إذا تعذر على المسلمين تطبيق أحكام دينهم، وإقامة نظامه السياسي والاجتماعي والاقتصادي وآدابه الخُلقية في بلدهم، وجب عليهم الانتقال إلى البلد الذي يعمل فيه بأحكام الإسلام وآدابه، تكثيراً لسواد المسلمين، وإعزازاً لأمر الدين، واستعداداً لنصره وتأييده بالنفس والنفيس..
وإذا لم يكن للمسلمين بلد تتوافر فيه هذه الشروط، وجب عليهم أن يجتمعوا في بقعة صالحة يقيمون فيها نظام الإسلام تامّاً كاملاً، ويتعاونون على حماية دعوته، واتخاذ الأسباب والوسائل لتحقيق رسالة الإسلام كما جاء بها صاحبها، صلوات الله عليه، وكما فهمها منه أصحابه والتابعون لهم بإحسان. (13محب الدين الخطيب: من إلهامات الهجرة)
[اقرأ أيضا: الإسـلام هويـة تجمـع الأمـة]
عقوبة مَن غفل عن هذا الأصل العظيم
وقد غفل عن هذه الظاهرة من أمر الإسلام بعض الذين دخلوا فيه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلبثوا في وطنهم (مكة) مستضعفين فيها، لا يستطيعون إعلاء كلمة الله لغلبة الباطل يومئذ على الحق، ولا يهاجرون منها إلى المدينة فيقْوَى بهم الإسلام..
فنزل فيهم قول الله عز وجل: ﴿إنَّ الَذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُوْلَئِكَ مَاًوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيراً﴾. (النساء:97)
وعن شأن هؤلاء روى البخاري، في جامعه الصحيح، عن ابن عباس، رضي الله عنه، في قصة أصحاب بدر: «أن أناساً من المسلمين كانوا مع المشركين يكثّرون سواد المشركين على رسول الله، صلى الله عليه وسلم، يأتي السهم فيُرمَى به، فيصيب أحدهم فيقتله، أو يُضرب فيقتل، فأنزل الله عز وجل: ﴿إنَّ الَذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ﴾. (14أخرجه البخاري، كتاب التفسير، باب قوله (تعالى) : ﴿إنَّ الَذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ﴾، ج5، ص 183)
وأخرج ابن أبي حاتم بسند صحيح إلى ابن عباس، رضي الله عنهما، قال: «كان قوم من أهل مكة أسلموا، وكانوا يستَخْفون بالإسلام، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم فأصيب بعضهم، قال المسلمون: كان أصحابنا مسلمين وأُكرهوا، فاستغفروا لهم، فنزلت: ﴿إنَّ الَذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ﴾ (الآية)، قال: فكُتب إلى من بقي من المسلمين بهذه الآية: لا عذر لهم، قال: فخرجوا فلحقهم المشركون فأعطوهم التقيّة، فنزلت هذه الآية: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ﴾ (العنكبوت:10)». (15تفسير ابن كثير، ج1، ص 272)
وعند الطبري بسند صحيح إلى ابن عباس رضي الله عنه: «فكتب إليهم المسلمون بذلك ـ أي بآية: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ﴾ ـ فحزنوا، فنزلت: ﴿ثُمَّ إنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ (النحل: 110)، فكتبوا إليهم بذلك، فخرجوا، فلحقوهم (أي: المشركون)، فنجا من نجا، وقُتل من قتل». (16الطبري : جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ج4، ص243، وابن حجر: الفتح، ج 8، ص 263)
وقال الضحاك: «فنزلت هذه الآية الكريمة ﴿إنَّ الَذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ﴾ عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة، وليس متمكناً من إقامة الدين، فهو ظالم لنفسه مرتكب حراماً بالإجماع». (17تفسير ابن كثير، ج1، ص 542)
لزوم الهجرة للخروج من الفتنة
ويمضي هذا الحكم إلى آخر الزمان، متجاوزاً تلك الحالة الخاصة التي كان يواجهها النص في تاريخ معين وفي بيئة معينة، يمضي حكماً عامّاً يلحق كل مسلم تناله الفتنة في دينه في أي أرض، وتمسكه أمواله ومصالحه، أو قراباته وصداقاته، أو إشفاقه من آلام الهجرة ومتاعبها.. متى كان هناك في الأرض في أي مكان دارٌ للإسلام يأمن فيها على دينه، ويجهر فيها بعقيدته، ويؤدي فيها شعائر دينه. (18سيد قطب: في ظلال القرآن، ج3، ص 745)
ولما كان الإسلام دين يسر، ومن مبادئه وأحكامه أن تقدر الضرورات بقدرها، وأن يعذر أهلها، كان تمام الآيات السالفة قول الله عز وجل: ﴿إلاَّ المُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً * فَأُوْلَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُواً غَفُوراً﴾ (النساء: 98 – 99).
وفي تفسير قوله تعالى: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي المُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً * وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإن تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِياً وَلا نَصِيراً﴾ (النساء: 88 – 89)..
قال العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما: «نزلت في قوم كانوا قد تكلموا بالإسلام، وكانوا يظاهرون المشركين، فخرجوا من مكة يطلبون حاجة لهم، فقالوا: إن لقينا أصحاب محمد فليس علينا منهم بأس، وإن المؤمنين لما أخبروا أنهم قد خرجوا من مكة، قالت فئة من المؤمنين: اركبوا إلى الجبناء فاقتلوهم فإنهم يظاهرون عليكم عدوكم.
وقالت فئة أخرى: سبحان الله! أو كما قالوا أتقتلون قوماً قد تكلموا بمثل ما تكلمتم به من أجل أنهم لم يهاجروا ولم يتركوا ديارهم، نستحل دماءهم وأموالهم؟!، فكانوا كذلك فئتين، والرسول عندهم لا ينهى واحداً من الفريقين عن شيء، فنزلت: ﴿فَمَا لَكُمْ فِي المُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ﴾ (الآية)». (19قال ابن كثير في تفسيره : “رواه ابن أبي حاتم، وقد روي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وعكرمة ومجاهد والضحاك وغيرهم قريب من هذا”، ج1، ص 532)
وهكذا.. إذا كان القرآن الكريم قد أنحى باللائمة على جماعة من المسلمين كانوا في مكة يصلون ويصومون، ولكنهم ارتضوا البقاء تحت أنظمة تخالف الإسلام، فلا قوة لهم على تغييرها، ولم يهاجروا إلى دار الإسلام في المدينة ليكونوا من جنودها المتحفزين لتغيير تلك الأنظمة..
فليعلم أن الإسلام لا يكتفي من أهله بالصلاة والصوم فحسب، بل يريد منهم مع ذلك أن يقيموا أنظمته وآدابه في بيوتهم وأسواقهم وأنديتهم ومجامعهم ودواوين حكمهم، وأن يتوسلوا بجميع الوسائل الممكنة لتحقيق هذا الغرض الواجب. (20محب الدين الخطيب: من إلهامات الهجرة، ص 52، 53)
خاتمة
كما ينبغي أن يعلم أن الإيمان اعتقاد وقول وعمل، وأنه تكاليف وتبعات، وأنه إقرار وامتثال وطاعة، وإذ هو كذلك: كان لزاماً أن ينعكس أثره على اللسان والقلب والجوارح، علماً، وعملاً، وسلوكاً.
الهوامش
- أخرجه البخاري، كتاب بدء الوحي، باب حدثنا يحيى بن بكير، ج 1 ، ص3.
- أخرجه أحمدفي المسند، ج1، ص192 ، وصححه الألباني في (صحيح الجامع الصغير)، ح/7469، م2، ص 1244.
- الهيثمي: كشف الأستار عن زوائد البزار، ح/1748، ج2، ص 304، وابن حجر : التلخيص الحبير في تخريج أحاديث الرافعي الكبير، ح/ 2169، ج 4، ص167.
- ابن عتيق: سبيل النجاة والفكاك من موالاة المرتدين وأهل الإشراك، ص 28.
- نقلاً عن فتح الباري، ج7، ص 267.
- أخرجه البخاري، كتاب مناقب الأنصار، باب قول النبي -صلى الله عليه وسلم- : (اللهم أمضِ لأصحابي هجرتهم)، ج 4، ص 267.
- أخرجه أبو داود في السنن، كتاب الجهاد، ح/2482، ج3، ص 4، وأحمد في المسند، ج2، ص 199.
- أخرجه أحمد في المسند، ج4، ص 62، وقال الألباني: إسناده صحيح، السلسلة الصحيحة، ج4، ص 239 240.
- أخرجه أبو داود في السنن، كتاب الجهاد، ح/2532، ج3، ص 18.
- أخرجه البخاري، كتاب الجهاد والسير، ج3، ص 215.
- صالح أحمد الشامي: السيرة النبوية تربية أمة، وبناء دولة، ص 127 128.
- سيد قطب: في ظلال القرآن، م3، ص1560.
- محب الدين الخطيب: من إلهامات الهجرة.
- أخرجه البخاري، كتاب التفسير، باب قوله (تعالى): ﴿إنَّ الَذِينَ تَوَفَّاهُمُ المَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ﴾، ج5، ص 183.
- تفسير ابن كثير، ج1، ص 272.
- الطبري: جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ج4، ص243، وابن حجر: الفتح، ج 8، ص 263.
- تفسير ابن كثير، ج1، ص 542.
- سيد قطب : في ظلال القرآن، ج3، ص 745.
- قال ابن كثير في تفسيره: “رواه ابن أبي حاتم، وقد روي عن أبي سلمة بن عبد الرحمن وعكرمة ومجاهد والضحاك وغيرهم قريب من هذا”، ج1، ص 532.
- محب الدين الخطيب: من إلهامات الهجرة، ص 52، 53.