يتصور البعض أن عبادة الله سبحانه وتعالي تكون فقط بتأدية الشعائر التعبدية، فهل يمكن أن تستقيم حياة المسلم والأمة الإسلامية مع هذا التصور؟
مقدمة
قد أسلفنا الحديث في مقال ” غياب المفهوم الصحيح للعبادة وأثر ذلك في الأمة” على انحراف الأمة المعاصرة عن المفهوم الصحيح للعبادة وكيف كانت العبادة ملازمة للأجيال الأولي في كل جوانب حياتهم ونكمل الحديث في هذا المقال عن المفهوم الصحيح للعبادة وتأثيره على الأمة وإسلامها.
تبدأ العبادة بلا إله إلا الله مع القيام بمقضياتها
على أي صورة إذن ينبغي أن يعبد المسلم ربه ليحقق غاية وجوده التي خلقه الله من أجلها، وحصر فيها غاية وجوده؟
يعبده بادئ ذي بدء بتوحيده جل وعلا..أي بالإقرار بأنه لا إله إلا هو- سبحانه – المتفرد بالربوبية والألوهية، المتفرد في أسمائه وصفاته وأفعاله:
«فَٱعلَمْ أَنَّهُۥ لَاۤ إِلَـٰهَ إِلَّا ٱللَّهُ» سورة محمد [۱۹].
«وَٱعبُدُوا ٱللَّهَ وَلَا تُشرِكُوا بِهِۦ شَیـًٔا»سورة النساء [36].
وهذه العبادة الأولى لها مقتضياتها التي لا تتم إلا بها، وليست مجرد كلمة تنطق باللسان وينتهي الأمر و «تسدد الخانة»، كما زعم الفكر الإرجائي للناس بغير سند من كتاب الله ولا سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ومقتضياتها هي الإسلام كله! مع اختلاف في درجة «الإلزام».. فمن مقتضياتها ما يتعلق بأصل الإيمان – كالاعتقاد بوحدانية الله بلا شريك، والتوجه بالشعائر التعبدية إليه وحده لا شريك، وتحكيم شريعته وحدها بلا شريك – فهذا لا يكون العبد مؤمنا إلا به، ومنها ما يتعلق بكمال الإيمان – وهو أخلاقيات لا إله إلا الله، وبقية التكاليف التي فرضها الله – فلا يكون العبد كامل الإيمان إلا به.
ثم تأتي الشعائر التعبدية في موضعها بعد الإقرار بلا إله إلا الله، الذي يعني – كما أسلفنا القول – الإقرار بكل ما جاء من عند الله والالتزام به..
وقد احتفى الإسلام حفاوة ظاهرة بالشعائر التعبدية لحكمة ظاهرة، فهي التي تربط القلب ربطا دائما ومتجددا بالله، وهي محطات التزود التي يتزود فيها الإنسان بالزاد الذي يعينه على بقية الطريق.
وقد أحس المسلمون دائما بالأهمية الخاصة التي أولاها الإسلام لهذه الشعائر، فاحتفلوا بها وركزوا عليها. ولكن الأجيال المتأخرة وقعت بشأن هذا التركيز في مجموعة من أخطاء التصور وأخطاء السلوك.
وكان الخطأ الأول – والأخطر – هو حصر العبادة المطلوبة كلها في الشعائر التعبدية.
وقد ترتب على هذا التصور الخاطئ إخراج لا إله إلا الله بكل مقتضياتها الاعتقادية والسلوكية من دائرة العبادة، فأصبحت العبادة تبدأ – في حس الناس – بالصلاة، ولا تبدأ بلا إله إلا الله!
خطورة التفرقة الاصطلاحية بين “العقيدة” و “العبادات”
ولقد كان مبدأ التفرقة في أول الأمر قضية «اصطلاح». فلا إله إلا الله «عقيدة»، والشعائر «عبادات» ومع خطورة هذه التفرقة الاصطلاحية في ذاتها – كخطورة التفرقة الاصطلاحية بين «العبادات» و «المعاملات» فإن الخطر كان محدود الأثر في بادئ الأمر حين كانت «العقيدة» تؤخذ بمعناها الحقيقي الذي نزلت به من عند الله، وفهمه السلف الصالح، وهو توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وتوحيد الأسماء والصفات، وما يقتضيه ذلك في حياة الإنسان اعتقادا وفكرا وسلوكا.. فأما حين عمل الفكر الإرجائي على اختزال عقيدة التوحيد، وإفراغها من مضمونها الحي كله، وحصرها في مجرد التصديق للنجاة في الآخرة، والإقرار اللفظي للنجاة في الدنيا.. فقد تقلص جانب ضخم من «العبادة» الحقيقية التي افترضها الله على العباد، وأصبح الباقي منها -حتى لو أُدِّيَ على أكمل صورة- قاصراً عن أن يوفي المعنى الحقيقي للعبادة التي خلق الله الخلق من أجلها، وقال عنها سبحانه:
«وَمَا خَلَقتُ ٱلجِنَّ وَٱلإنسَ إِلَّا لِیَعبُدُونِ» سورة الذاريات [56].
خطورة حصر مفهوم العبادة على أداء الشعائر التعبدية فقط
وقد يبدو لأول وهلة أن الأمر ليس بهذه الخطورة! وأن المسلمين – وإن اصطلحوا على أن مفهوم العبادة هو أداء الشعائر – لا يمكن أن يكونوا في دخيلة أنفسهم قد أغفلوا ركن الإسلام الأول وهو الإقرار بالشهادتين!
ولكن الحقيقة الواقعة في حياة «المسلم المعاصر» تؤكد خطورة الأمر..
فحين يوجد إدراك صحيح للعبادة، وأنها تبدأ بالإقرار بالعبودية لله وحده دون شريك، قبل الصلاة والصيام والزكاة والحج. لا يمكن أن توجد الظاهرة القائمة اليوم في حياة «المسلم المعاصر» وهي وجود ملايين من البشر يعتقدون أن الإنسان إذا أدى الشعائر التعبدية فهو مؤمن کامل الإيمان، ولو تحاكم راضيا إلى شريعة غير شريعة الله، وأن قضية التحاكم منفصلة تماما عن العبادة كما هي منفصلة تماما عن الإيمان.. لأن رسول الله – صلى الله عليه وسلم – قال: «إذا رأيتُمُ الرَّجلَ يعتادُ المساجدَ فاشهدوا لَهُ بالإيِمانِ» 1أخرجه الترمذي وابن ماجه وأحمد والدارمي. قال الألباني: إن سنده ضعيف وكل طرقه كذلك. انظر كتابه «ضعيف الجامع الصغير» 1/184. فذكر في الحديث اعتياد المساجد ولم يذكر التحاكم إلى شريعة الله!!
وأقوال رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الثابتة حق كلها.. ولكن الاجتزاء بحديث معين من أحاديث الإيمان منقطعا عن بقية الأحاديث التي تحدد حقيقة الإيمان أو تحدد نواقضه، لا يمكن أن يؤدي إلى إدراك صحيح.. وإلا فهل يعقل بداهة أن يطلب رسول الله – صلى الله عليه وسلم – الشهادة لرجل بالإيمان (إن صح الحديث) لمجرد أنه يعتاد المساجد، إذا كان الرجل واقعا في شرك صريح ينقض لا إله إلا الله من أساسها، وينقض أصل الإيمان؟! أليس الإقرار بلا إله إلا الله – ومن مقتضياتها التحاكم إلى شريعة الله – شرطا لازما للإيمان قبل اعتياد المساجد وإقامة الصلاة وإن لم يذكر ذلك في الحديث الآنف الذكر، لأنه من المعلوم من الدين بالضرورة، الذي بينته أحاديث أخرى للرسول – صلى الله عليه وسلم – كما بينته الآيات المحكمات من كتاب الله؟
ولقد كان المرتدون الذين قاتلهم أبو بكر – رضي الله عنه – يقيمون الصلاة ويعتادون المساجد، ومع ذلك لم يشهد لهم أحد بالإيمان! بل قوتلوا وحوربوا لأنهم أعرضوا عن حكم واحد من أحكام الله، مع إقرارهم – وتنفيذهم – لبقية الأحكام.. فكيف بمن يُعرضون عن حكم الله كله، ويُقبلون راضين على حكم غير حكم الله؟!
إن إخراج لا إله إلا الله – ومقتضياتها – من دائرة العبادة، وتوهم أن العبادة تبدأ بالشعائر، وتنحصر في الشعائر، قد أحدث اختلالات ضخمة في حياة المسلم المعاصر لا يستقيم معها إسلام. ولابد من تصحيحها في التصور وفي السلوك معا لتصحيح حياة المسلمين، وإخراج الناس من الوهدة التي سقطوا فيها، وأصبحوا – بسبب سقوطهم هذا – غثاء كغثاء السيل.
خروج العمل السياسي من مفهوم العبادة عند حصره في الشعائر التعبدية
وكان من بين ما خرج من مفهوم العبادة حين انحصرت في الشعائر التعبدية «العمل» بجميع أنواعه، بدءا بالعمل السياسي المتمثل في رقابة الأمة على الحاكم، وتقديم النصح له، وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر ليستقيم على أمر الله وشريعته، ويطبق العدل الرباني كما أمره الله، فيتمتع المجتمع بنعمة الإسلام التي من الله بها على عباده: «ٱلیَومَ أَكمَلتُ لَكُم دِینَكُم وَأَتمَمتُ عَلَیكُم نِعمَتِی وَرَضِیتُ لَكُمُ ٱلإِسلَـٰمَ دِینًا» سورة المائدة [۳].
يقول تعالى جل شأنه: «یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوۤا أَطِیعُوا ٱللَّهَ وَأَطِیعُوا ٱلرَّسُولَ وَأُولِی ٱلأَمرِ مِنكُم فَإِن تَنَـٰزَعتُم فِی شَیء فَرُدُّوهُ إِلَى ٱللَّهِ وَٱلرَّسُولِ إِن كُنتُم تُؤمِنُونَ بِٱللَّهِ وَٱلیَومِ ٱلـَٔاخِرِ ذَ لِكَ خَیر وَأَحسَنُ تَأوِیلًا» سورة النساء [59].
ويقول صلى الله عليه وسلم: «ما مِن نَبِيٍّ بَعَثَهُ اللَّهُ في أُمَّةٍ قَبْلِي إلّا كانَ له مِن أُمَّتِهِ حَوارِيُّونَ، وأَصْحابٌ يَأْخُذُونَ بسُنَّتِهِ ويَقْتَدُونَ بأَمْرِهِ، ثُمَّ إنَّها تَخْلُفُ مِن بَعْدِهِمْ خُلُوفٌ يقولونَ ما لا يَفْعَلُونَ، ويَفْعَلُونَ ما لا يُؤْمَرُونَ، فمَن جاهَدَهُمْ بيَدِهِ فَهو مُؤْمِنٌ، ومَن جاهَدَهُمْ بلِسانِهِ فَهو مُؤْمِنٌ، ومَن جاهَدَهُمْ بقَلْبِهِ فَهو مُؤْمِنٌ، وليسَ وراءَ ذلكَ مِنَ الإيمانِ حَبَّةُ خَرْدَلٍ». 2أخرجه مسلم.
فتحدد الآية الكريمة مصدر السلطة في المجتمع المسلم: الله ورسوله. وتأمر بطاعة الله وطاعة الرسول طاعة مطلقة في كل أمر أو نهي جاء في كتاب الله أو في سنة رسوله – صلى الله عليه وسلم -. ثم تأمر الآية بطاعة أولى الأمر لا قائمة بذاتها، ولا مطلقة كطاعة الله ورسوله، ولكن معطوفة على طاعة الله والرسول، أي فيما أمروا به غير مخالف لما جاء من عند الله والرسول، إذ أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق: «إنَّما الطّاعةُ في المعروفِ». 3أخرجه الشيخان. ثم تبين الآية المرجع الذي يرجع إليه المسلمون في أي نزاع يعرض لهم: الله والرسول. ولا أحد غير هذا المرجع. كما تربط الآية هذا الأمر، وهو الرجوع إلى الله والرسول في أي نزاع يعرض، بالإيمان بالله واليوم الآخر، أي بالعقيدة مباشرة. وهكذا تصبح القضية السياسية الكبرى وهي تحديد مصدر السلطة، والمرجع الذي يرجع إليه في حالة النزاع، قضية عقيدية مرتبطة بالأصل الذي تقوم عليه العقيدة كلها، وهو: لا إله إلا الله، محمد رسول الله.
أما الحديث الذي أوردناه فيحدد سلوك الأمة حين تقع مخالفة لحكم الله، فيقرر أن تلك المخالفة تستوجب المجاهدة باليد أو باللسان أو بالقلب لرد الأمور إلى الأصل الذي تُرد إليه الأمور كلها، وهو ما جاء من عند الله ومن عند رسوله – صلى الله عليه وسلم -. ويربط هذا السلوك ربطاً مباشراً بقضية الإيمان، وذلك بنفي الإيمان نفياً باتاً عمن يرى المخالفة ولا يقوم بمجَاهدتها بدرجة من الدرجات الثلاث وأدناها الكراهية بالقلب، إذ يقول – عليه الصلاة والسلام -: «ليس وراءَ ذلك مِن الإيمانِ مِثقالُ حبَّةٍ مِن خَردلٍ» وهكذا يصبح «العمل السياسی» جزءا من العقيدة وجزءا من العبادة، لا خارج هذه الدائرة ولاتلك. وهكذا فهمت الأمة وهي تُراجع عمر – رضي الله عنه- فيقول له واحد من رعیته: لا سمع لك اليوم علينا ولا طاعة حتى تبين لنا من أين لك هذا البرد الذي ائتزرت به! وتقول له امرأة من رعیته حين أمر بعدم المغالاة في المهور: لقد حجرت واسعا! الله يقول: «وَءَاتَیتُم إِحدَىٰهُنَّ قِنطَارًا» وأنت تضيق على الناس؟! فيقول: أخطأ عمر وأصابت امرأة!
العوامل التي ساعدت على حصر ” مفهوم العبادة” في الشغائر التعبدية
ولكن الاستبداد السياسي في حياة الأمة الإسلامية منذ وقت مبكر، مضافاً إليه التفلت التدريجي من التكاليف، والصوفية التي أنشأتها ظروف معينة في حياة الأمة، والفكر الإرجائي الذي حصر الإيمان – الذي يدخل به الناس الجنة – في التصديق والإقرار..
كل هذه العوامل مجتمعة حصرت العبادة في حس الناس في الشعائر التعبدية فحسب، وأصبح الإسلام في حس الناس أقرب إلى أن يكون ممارسة فردية يقوم بها كل إنسان بمفرده، حين بَعُدَ الناس عن ممارسة «العمل السياسي» الإسلامي، وهو أبرز ما تقوم به الجماعة المسلمة من الأمور، وهو الذي استحقت من أجله وصف الله لها بأنها خير أمة أخرجت للناس.
«كُنتُم خَیرَ أُمَّةٍ أُخرِجَت لِلنَّاسِ تَأمُرُونَ بِٱلمَعرُوفِ وَتَنهَونَ عَنِ ٱلمُنكَرِ وَتُؤمِنُونَ بِٱللَّهِ» سورة آل عمران [۱۱۰]
أثر خروج العمل السياسي من دائرة العبادة
وحين خرج العمل السياسي من دائرة العبادة تخلخلت أول عروة من عرى الإسلام – عروة الحكم – وإن كانت لم تنقض تماما في مبدأ الأمر، فقد بقي الناس في المجتمع الإسلامي يتحاكمون إلى شريعة الله، لا يرون غيرها شريعة واجبة الطاعة ولا واجبة التنفيذ. ولكن صاحب تحكيم شريعة الله جور من الحكام ومظالم تجعل التطبيق غير كامل كما أوجبه الله ونفذه السلف الصالح.. ومرت قرون من هذا التحكيم المصحوب بالجور والظلم حتى نقضت تلك العروة تماما في العصر الحديث حين نُحيت شريعة الله عن الحكم أصلا واستبدلت بها شرائع البشر، فكانت أول عرى الإسلام نقضا كما قال الصادق الصدوق – صلى الله عليه وسلم -: «لَتُنقَضَنَّ عُرى الإسلامِ عُروةً عُروةً، فكلما انتقضَت عُروةٌ تشبَّثَ الناسُ بالتي تليها، فأَوَّلُهنَّ نقضًا الحكمُ، وآخرهنَّ الصلاةُ». 4الألباني (ت ١٤٢( صحيح الجامع(5075)).
المصدر:
كتاب “مفاهيم ينبغي أن تصحح” للأستاذ محمد قطب رحمه الله، ص192-202 بتصرف يسير.
الهوامش:
- أخرجه الترمذي وابن ماجه وأحمد والدارمي. قال الألباني: إن سنده ضعيف وكل طرقه كذلك. انظر كتابه «ضعيف الجامع الصغير» 1/184.
- أخرجه مسلم.
- أخرجه الشيخان.
- الألباني (ت ١٤٢( صحيح الجامع(5075)).