إن إعداد النفوس للجهاد في سبيل الله عز وجل هو ذروة سنام هذا الدين؛ إذ من اليقين الجازم: أنه لا يرفع عن أمة الإسلام ما هم فيه من ذلة ومهانة إلا أن تحيا معاني الجهاد في نفوس أبنائها.
معنى الإعداد الإيماني أو المعنوي للجهاد في سبيل الله
ماذا نعني بالإعداد الإيماني – أو المعنوي – للجهاد في سبيل الله عز وجل؟ والجواب أن يقال: لقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من لم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من شعب النفاق»1(1) رواه مسلم (ص 1910)..
وإن المتأمل في أحوالنا اليوم وطريقة تفكيرنا ومعيشتنا وتعاملاتنا ليرى ضعف العزيمة عندنا في إعداد النفس للجهاد وتحديثها بالغزو على جميع المستويات إلا من رحم الله تعالى؛ فمجرد نظرة سريعة إلى اهتماماتنا، وما يشغل قلوبنا نرى أنها ليست اهتمامات مجاهدين. وكذلك أسلوب معيشتنا وما يشتمل عليه من الترف والترهل، وحب الدعة والراحة، والركون إلى الدنيا، وضعف الصلة بالله تعالى؛ كل هذا لا يتفق مع حقيقة تحديث النفس بالغزو وإعدادها للجهاد، ومن كانت هذه حاله فهو من أول الفارين عن الجهاد عندما ينادی إليه.
إن «تحديث النفس بالغزوة» الذي ينجي من شعب النفاق لا يكفي له أن يحدث الإنسان نفسه أنه سيغزو ويجاهد ويكتفي بهذا الحديث النفسي وهو متكئ على أريكته مشحون قلبه بدنياه، كلا ليس هذا هو التحديث المنجي. إنما تحديث النفس بالغزو يعني أمورا عملية لابد من العزيمة عليها من الآن، وهذا ما نعنيه بالإعداد الإيماني أو المعنوي.
إن الجهاد في سبيل الله عز وجل عبادة عظيمة تحتاج إلى صبر ومصابرة؛ لأن فيها من المشاق والتضحيات ما لا يوجد في عبادة غيرها لكنها خفيفة ولذيذة على من اصطفاهم الله لنصرة دينه وإعلاء كلمته. ولما كان الجهاد فيه ما فيه من المشاق وبذل المال والنفس في سبيل الله تعالى أصبح الاستعداد له بالإيمان والإخلاص والمتابعة والصبر وقوة الصلة بالله عز وجل أمرا لا بد منه وإلا خارت القوى وانحلت العزائم، ومن ذلك أمر الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم بقيام الليل الطويل استعدادا لتحمل القول الثقيل وتبليغه للناس وتحمل أعباء الرسالة؛ قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِّصْفَهُ أَوِ انقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا) [المزمل:1-4].
كما أن الإعداد الإيماني قبل الجهاد ضروري لتحقيق النصر على الأعداء عند ملاقاتهم والثبات عند قتالهم ؛ قال الله عز وجل: (وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِن دِيَارِكُم مَّا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِّنْهُمْ ۖ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا * وَإِذًا لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا) [النساء:66-67].
والإعداد الإيماني علما وعملا وحالا يباعد بين المجاهدين وبين المعاصي والذنوب أو الميل إلى الدنيا والتي هي من أسباب الخذلان والهزيمة كما قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه لسعد بن أبي وقاص رضي الله عنه في مسيره إلى غزو الفرس: (فإن تقوى الله أفضل العدة على العدو… [إلى قوله:] فإن ذنوب الجيش أخوف عليهم من عدوهم؛ وإنما ينصر المسلمون بمعصية عدوهم لله، ولولا ذلك لم تكن لنا بهم قوة؛ لأن عددنا ليس كعددهم، ولا عدتنا كعدتهم، فإن استوينا في المعصية كان لهم الفضل علينا في القوة)2(2) كتاب العقد الفريد، لابن عبد ربه الأندلسي (1/117)..
وذكر البخاري في كتاب الجهاد في صحيحه قال: «باب: عمل صالح قبل القتال، وقال أبو الدرداء: إنما تقاتلون بأعمالكم»3(3) فتح الباري: (29/6)..
وقال ابن حجر في فتح الباري: «جاء من طريق أبي إسحاق الفزاري عن سعيد بن عبدالعزيز عن ربيعة بن زيد أن أبا الدرداء قال: (أيها الناس عمل صالح قبل الغزو. إنما تقاتلون بأعمالكم) ثم ظهر لي تفصيل البخاري؛ وذلك أن هذه الطريق منقطعة»4(4) المصدر نفسه: (30/6)..
من صفات المؤمنين المجاهدين
والأصل في الإعداد الإيماني للمجاهدين ما ذكره سبحانه في سورة التوبة من صفات المؤمنين المجاهدين الذين اشترى منهم أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة؛ قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) [التوبة: 111].
ثم عقب على هذه البيعة بصفات المؤهلين للجهاد الذين باعوا أنفسهم وأموالهم لله تعالى فقال سبحانه: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) [التوبة:112].
وقال عبدالله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما لرجل قال له: «أريد أن أبيع نفسي من الله فأجاهد حتى أقتل، فقال له: ويحك وأين الشروط؟ أين قوله تعالى: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ ۗ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ)»5(5) جامع الأصوله: (2/ 580)..
وقد اشتملت هذه الآية على أصول الأعمال الباطنة والظاهرة التي يحبها الله عز وجل؛ يقول الشيخ السعدي رحمه الله في تفسير هذه الآيات: «وإذا أردت أن تعرف قدر الصفقة، فانظر إلى المشتري من هو؟ وهو الله جل جلاله. وإلى العوض، وهو أكبر الأعواض وأجلها؛ جنات النعيم. وإلى الثمن المبذول فيها، وهو: النفس، والمال، الذي هو أحب الأشياء للإنسان. وإلى من جرى على يديه عقد هذا التبايع، وهو أشرف الرسل. وبأي الكتب رقم، في كتب الله الكبار المنزلة على أفضل الخلق.
كأنه قيل: من هم المؤمنون الذين لهم البشارة من الله بدخول الجنات ونیل الكرامات؟
فقال: هم (التَّائِبُونَ) أي: الملازمون للتوبة في جميع الأوقات، عن جميع السيئات.
(الْعَابِدُونَ) أي: المتصفون بالعبودية لله، والاستمرار على طاعته، من أداء الواجبات والمستحبات، في كل وقت؛ فبذلك يكون العبد من العابدین .
(الْحَامِدُونَ): لله في السراء والضراء، واليسر والعسر، المعترفون بها لله عليهم من النعم الظاهرة والباطنة، المثنون على الله بذكرها وبذكره، في آناء الليل، وآناء النهار.
(السَّائِحُونَ): فسرت السياحة، بالصيام، أو السياحة في طلب العلم.
وفسرت بسياحة القلب في معرفة الله ومحبته، والإنابة إليه على الدوام . والصحيح أن المراد بالسياحة: السفر في القربات، كالحج والعمرة، والجهاد، وطلب العلم، وصلة الأقارب، ونحو ذلك.
(الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ) أي: المكثرون من الصلاة المشتملة على الركوع والسجود.
(الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ): ويدخل فيه، جميع الواجبات والمستحبات.
(وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ): وهي جميع ما نهى الله ورسوله عنه .
(وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ): بتعلمهم حدود ما أنزل الله على رسوله، وما يدخل في الأوامر والنواهي والأحكام، وما لا يدخل، الملازمون لها فعلا وتركا»6(6) التفسير السعدي : (2/ 290)..
حقيقة البيعة التي تربط المؤمنين بالله عز وجل
ويقول سيد قطب رحمه الله تعالى عن هذه الآيات: «هذا النص الذي تلوته من قبل وسمعته ما لا أستطيع عدة من المرات، في أثناء حفظي للقرآن، وفي أثناء تلاوته، وفي أثناء دراسته بعد ذلك في أكثر من ربع قرن من الزمان.. هذا النص – حين واجهته في «الظلال»، أحسست أنني أدرك منه ما لم أدركه من قبل في المرات التي لا أملك عدها على مدى ذلك الزمان؟
إنه نص رهيب! إنه يكشف عن حقيقة العلاقة التي تربط المؤمنين بالله ، وعن حقيقة البيعة التي أعطوها – بإسلامهم – طوال الحياة؛ فمن بايع هذه البيعة ووفى بها فهو المؤمن الحق الذي ينطبق عليه وصف «المؤمن» وتتمثل فيه حقيقة الإيمان، وإلا فهي دعوى تحتاج إلى التصديق والتحقيق؟
حقيقة هذه البيعة – أو هذه المبايعة کما سماها الله کرما منه وفضلا وسياحة – أن الله – سبحانه – قد استخلص لنفسه أنفس المؤمنين وأموالهم؛ فلم يعد لهم منها شيء.. لم يعد لهم أن يستبقوا منها بقية لا ينفقونها في سبيله، لم يعد لهم خيار في أن يبذلوا أو يمسكوا.. كلا.. إنها صفقة مشتراة، لشاريها أن يتصرف بها كما يشاء، وفق ما يفرض ووفق ما يحدد، وليس للبائع فيها من شيء سوى أن يمضي في الطريق المرسوم، لا يتلفت ولا يتخير، ولا يناقش ولا يجادل، ولا يقول إلا الطاعة والعمل والاستسلام.. والثمن هو الجنة.. والطريق: هو الجهاد والقتل والقتال.. والنهاية: هي النصر أو الاستشهاد… إن الحق لا بد أن ينطلق في طريقه، ولا بد أن يقف له الباطل في الطريق ! بل لا بد أن يأخذ عليه الطريق إن دين الله لا بد أن ينطلق لتحرير البشر من العبودية للعباد وردهم إلى العبودية لله وحده، ولا بد أن يقف له الطاغوت في الطريق.. بل لا بد أن يقطع عليه الطريق.. ولا بد لدين الله أن ينطلق في الأرض كلها لتحرير «الإنسان» كله، ولا بد للحق أن يمضي في طريقه ولا يثنى عنه ليدع للباطل طريقا!.. وما دام في «الأرض» كفر، وما دام في الأرض، باطل، وما دامت في «الأرض» عبودية لغير الله تذل كرامة «الإنسان» فالجهاد في سبيل الله ماض، والبيعة في عنق كل مؤمن تطالبه بالوفاء وإلا فليس بالإيمان، «ومن مات ولم يغزو ولم يحدث نفسه بغزو مات على شعبة من النفاق». ولكن الجهاد في سبيل الله ليس مجرد اندفاعة إلى القتال، إنما هو قمة تقوم على قاعدة من الإيمان المتمثل في مشاعر وشعائر وأخلاق وأعمال، والمؤمنون الذين عقد الله معهم البيعة، والذين تتمثل فيهم حقيقة الإيمان هم قوم تتمثل فيهم صفات إيمانية أصيلة:
صفات ومميزات الجماعة المؤمنة
(التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ) [التوبة:112]. هذه هي الجماعة المؤمنة التي عقد الله معها بيعته، وهذه هي صفاتها ومميزاتها: توبة ترد العبد إلى الله، وتكفه عن الذنب، وتدفعه إلى العمل الصالح، وعبادة تصله بالله وتجعل الله معبوده وغايته ووجهته. وحمد لله على السراء والضراء نتيجة الاستسلام الكامل لله والثقة المطلقة برحمته وعدله . وسياحة في ملكوت الله مع آيات الله الناطقة في الكون الدالة على الحكمة والحق في تصميم الخلق. وأمر بالمعروف ونهي عن المنكر يتجاوز صلاح الذات إلى إصلاح العباد والحياة. وحفظ لحدود الله يرد عنها العادين والمضيعين، ويصونها من التهجم والانتهاك.
هذه هي الجماعة المؤمنة التي بايعها الله على الجنة، واشترى منها الأنفس والأموال، لتمضي مع سنة الله الجارية منذ كان دين الله ورسله ورسالاته ؛ قتال في سبيل الله لإعلاء كلمة الله، وقتل لأعداء الله الذين يحادون الله ؛ أو استشهاد في المعركة التي لا تفتر بين الحق والباطل، وبين الإسلام والجاهلية، وبين الشريعة والطاغوت، وبين الهدى والضلال وليست الحياة لهوا ولعبا. وليست الحياة أكلا كما تأكل الأنعام ومتاعا. وليست الحياة سلامة ذليلة، وراحة بليدة ورضى بالسلم الرخيصة.. إنما الحياة هي هذه: كفاح في سبيل الحق، وجهاد في سبيل الخير، وانتصار لإعلاء كلمة الله، أو استشهاد كذلك في سبيل الله .. ثم الجنة والرضوان…»7(7) في ظلال القرآن (3/ 1716-1717) باختصار ..
الهوامش
(1) رواه مسلم (ص 1910).
(2) كتاب العقد الفريد، لابن عبد ربه الأندلسي (1/117).
(3) فتح الباري: (29/6).
(4) المصدر نفسه: (30/6).
(5) جامع الأصوله: (2/ 580).
(6) التفسير السعدي : (2/ 290).
(7) في ظلال القرآن (3/ 1716-1717) باختصار .
اقرأ أيضا
التخذيل عن الجهاد..من صفات المنافقين
غاية الجهاد في سبيل الله تعالى