ربما لا يعلم كثيراً من المسلمين أن معركة القادسية كانت عدة أيام وليست يوماً واحداً، وتغيرت فيها كفة القتال من طرف إلي أخر، حتى أنزل الله عز وجل نصره على المسلمين في نهاية الأمر، فما هي هذه الأيام؟

المعركة الخالدة وأيامها الثلاثة

كانت الأيام تمضي ورستم يحجم ويتثاقل عن لقاء المسلمين، ويرى كل يوم أية وعبرة على حتمية الهزيمة, وحاول إثناء رأى “يزدجرد” عن القتال ففشل، وحاول أيضاً إقناع قادة الفرس بالدخول في الإسلام أو دفع الجزية، لتجنب لقاء المسلمين في الحرب، ولكنهم أبوا واستكبروا، وكانوا من الكافرين، وحاول الاعتذار عن قيادة الجيش، ولكن “يزدجرد” أصر على أن يتولى هو قيادة الجيش، وضاقت الأرض على رستم بما رحبت، فلم يجد مناصاً من بدأ القتال؛ فجهز الجيش، واستعرض قواته، ثم ركب على حصانه، وقال كلمة يريد أن يشجع بها نفسه وجيشه؛ لانهيار معنويات الكثير منهم، قال: “غداً ندقهم دقاً”؛ فقال له أحد خواصه: “إن شاء الله”؛ فرد رستم بكفر فارسي وإلحاد مجوسي معروف: “وإن لم يشأ فإنما ضغا الثعلب عندما مات الأسد”. وقطعاً لا ينصر جيشاً هذا قائده، وهذه عقيدته!!

وربما لا يعلم كثيراً من المسلمين أن معركة القادسية كانت عدة أيام وليست يوماً واحداً، وتغيرت فيها كفة القتال من طرف إلي أخر، حتى أنزل الله عز وجل نصره على المسلمين في نهاية الأمر، وهذه الأيام كالآتي:

اليوم الأول: يوم أرماث (الخميس 13 شعبان)

كان جيش المسلمين مكوناً من ستة وثلاثين ألفاً يقودهم الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص، وجيش الفرس يتكون من مائتي وأربعين ألفاً ومعهم ثلاثة وثلاثون فيلاً، واستعد الجميع للصدام، وكان القائد سعد وقتها مريضاً بعرق النسا، ودمامل وقروح بفخذيه وإليته بصورة سوف تمنعه من ركوب الخيل، أو حتى التحرك بصورة سليمة فعين مكانه نائباً عنه في قيادة الجيوش الإسلامية هو الصحابي الجليل خالد بن عرفطة, وهنا واجه القائد سعد أول موقف خطير في المعركة؛ حيث تذمر العديد من الفرسان والقادة من هذا الاختيار، ولم يعجبهم؛ لأن خالد بن عرفطة لم يكن له كبير ذكر في معارك العراق من قبل، وحاول بعض المسلمين الاعتراض على ذلك؛ فتصرف القائد سعد بسرعة، وأمر بالقبض على هؤلاء المعترضين والمشاغبين، وحبسهم في قصره؛ فقضى على الفتنة في مهدها، وكان ذلك من حسن تصرفه وقراراته الصائبة؛ لأن الظرف لا يحتمل أي شغب وعدم انضباط.

وضع سعد وسادة على سطح قصره، واتكأ عليها بصدره مما يدل على شدة مرضه، وخطب في الجيش خطبة بليغة: حثهم فيها على الصبر والثبات، ونصرة دين الله عز وجل، وأمرهم أن يحملوا بعد سماع التكبيرة الرابعة، وكان الخليفة عمر بن الخطاب قد أرسل برفقة الجيش غلام حسن الصوت؛ ليقرأ على الجيش سور وآيات الجهاد؛ فبدأ في الترتيل؛ فقويت النفوس، ونزلت عليهم السكينة، واستوثقت النفوس على الجهاد حتى النصر والشهادة.

كانت صفوف المسلمين على أهبة الاستعداد في انتظار التكبيرة الرابعة من القائد العام، ولكن حدثت مفاجأة لم تكن في الحسبان؛ حيث هجم الفرس بكل قوتهم فبل التكبيرة الرابعة، وركزوا هجومهم الكاسح على قبيلة “بجيلة”؛ حيث كانت تمثل خمس الجيش تقريباً وعددهم حوالي ثمانية آلاف مقاتل، فهاجم الفرس باثنين وخمسين ألفاً وتسعة أفيال، وكان السر وراء ذلك أن رجل من قبيلة ثقيف خان المسلمين في أحرج ساعاتهم، وارتد عن دين الإسلام ويلتحق بالفرس، ودلهم على مكمن القوة في جيش المسلمين؛ وهي قبيلة “بجيلة” الكبيرة.

((إن المتتبع لكثير من الانكسارات والابتلاءات التي تعرضت لها أمة الإسلام يجد أن الخيانة تقف وراءها؛ فالخائن على استعداد تام أن يبيع كل شيء: من دين، أو عرض، أو أرض، أو حتى من هم من بني جلدته؛ وكل شيء عنده مباح وقابل للبيع، وهذا يقودنا لأولوية في غاية الأهمية – خاصة في أوقاتنا هذه – وهي التأكد من خلو الصف المسلم من هذه العناصر الفاسدة الضارة، وبالأخص عندما تكون الأمة في حالة استنفار ومواجهة مع أعدائها، وما أكثرهم!)).

كانت الهجمة الفارسية قوية وسريعة ومفاجئة، ومركزة أيضاً كادت أن تبيد قبيلة بجيلة بأسرها؛ فأصدر القائد العام سعد بن أبي وقاص أمراً سريعاً لقبيلة أسد وقائدها طليحة الأسدي أن يدفع الهجمة الفارسية عن قبيلة بجيلة، ثم أمر قبيلة بني تميم وقائدهم عاصم بن عمرو بمساندة قبيلة أسد وبجيلة، وكان لهذه المساندات العاجلة أكبر الأثر في رد الهجمة الفارسية العنيفة.

كان لسلاح الفيلة الفارسي أثر بالغ في جيوش المسلمين؛ ذلك لأن خيل المسلمين لم تكن قد رأت من قبل هذا المخلوق الضخم؛ فكانت تفزع منها، وتفر هاربة عند رؤيتها؛ فأثر ذلك على سير القتال، وعندها أصدر القائد سعد – والذي كان يراقب المعركة من على سطح قصره – أمر بقطع حبال الفيلة؛ كي تتكسر التوابيت المقامة فوق ظهور الفيلة، وانتدب لتلك المهمة عاصم بن عمر التميمي مع كتيبة خاصة، ونجحوا في مهمتهم، وسارت الفيلة بلا سائسين؛ فخرج سلاح الفيلة من ميدان القتال، ولقد كان القتال في يوم “أرماث” تقريباً لصالح الفرس؛ بسبب الخيانة، وكذلك الفيلة، وتحملت قبيلة أسد عبء هذا اليوم، واستشهد منهم حوالي خمسمائة شهيد تقريباً.

اليوم الثاني: يوم أغواث (الجمعة 14 شعبان)

أصدق وصف لهذا اليوم أنه يوم الخدع الحربية – وسيتضح ذلك أثناء العرض – وكان الفاروق عمر قد أصدر أوامره لجند المسلمين في الشام أن يتحرك منهم فيلق لمساندة المسلمين في “القادسية”؛ فتحرك ستة ألاف مقاتل يقودهم هاشم بن عتبة بن أبي وقاص -ابن أخي القائد سعد- بمنتهى السرعة، وكان في مقدمة هذا الجيش البطل الشهير القعقاع بن عمرو الذي كان لا يجارى ولا يبارى في فروسيته؛ فأسرع في السير قبل باقي الفيلق، فوصل مع كتيبته الخاصة لأرض المعركة صباح يوم “أغواث”, وكانت الكتيبة مكونة من ألف مقاتل؛ فلجأ القعقاع لحيلة حربية بارعة، حيث قام بتقسيم الكتيبة لعشرة فصائل، كل فصيلة تتكون من مائة مقاتل، وأمرهم أن يخرجوا لأرض المعركة فصيلة تلو الأخرى على أن يقوموا بإثارة أكبر قدر من الغبار مع التكبير العالي عند الخروج؛ حتى يظن كل من المسلمين والفرس معاً أن إمدادات هائلة قد جاءت للمسلمين: فترتفع الروح المعنوية للمسلمين وتنخفض عند الفرس، وبالفعل كلما دخلت فصيلة كبرت وكبر معها المسلمون، وارتفع التكبير لعنان السماء؛ فتزلزلت قلوب الفرس.

لم يمنع طول السفر ومشقته البطل الجسور القعقاع بن عمرو أن ينزل لأرض المعركة فور وصوله ويطلب المبارزة؛ فأحجم أبطال عن مبارزته لفرط شجاعته، ولمعرفتهم السابقة به أثناء معارك القائد الكبير خالد بن الوليد, عندها أضطر قائد الفرس الكبير “بهمن جازوية” – المعروف بذي الحاجب ــ لأنه كان يعصب حاجبيه إعجاباً وتكبراً ــ لمنازلته، وكان “بهمن” هذا هو قائد معركة الجسر المعركة الوحيدة التي انهزم فيها المسلمون بسبب غلطة تعبوية من القائد أبي عبيد رحمة الله؛ فما أن رآه القعقاع بن عمرو حتى صاح قائلاً: “يا لثارات أبي عبيد وسليط وشهداء الجسر”, ثم انقض عليه كالأسد الضاري، وذبحه كالنعجة، وكانت هذه بداية رائعة للمسلمين في هذا اليوم، ودارت رحى المسلمين على الفرس، خاصة في ظل اختفاء سلاح الفيلة المرعب، الذي غاب لإصلاح التوابيت المكسورة في اليوم السابق، وأنزل الله عز وجل نصره على عباده المؤمنين في هذا اليوم، وقتل معظم قادة الفرس، وكان بطل هذا اليوم بلا منازعة هو القعقاع بن عمرو الذي استطاع أن يقتل بمفرده ثلاثين رجلاً كراً وفراً غير من قتلهم مبارزة.

ومن الخدع الحربية التي استخدمها القعقاع بن عمرو في هذا اليوم أن استطاع أن يبعد سلاح الخيل الفارسي من ميدان القتال؛ ذلك أنه عمد إلي الجمال العربية فألبسها خرقاً، وبرقعها بالبراقع، فصار لها منظراً مخيفاً عندما رأتها خيل الفرس نفرت وفرت هاربة، وركب المسلمون أكتاف الفرس .

و كانت في هذا اليوم أيضاً بطولة أبي محجن الثقفي؛ والذي كان في محبس سعد بن أبي وقاص لتذمره على تعيين خالد بن عرفطة ، (وليس لشربه الخمر كما راج ذلك بين أوساط الناس) ولما رأى القتال على أشده توسل لزوجة سعد أن تفك قيوده ليلتحق بالقتال، ولكنها رفضت فأنشد أبياتاً من الشعر رائعة يتحسر فيها على منعه من الجهاد؛ فرقت له زوجة سعد، وأطلقت سراحه شريطة أن يعود إلي محبسه مرة أخرى بعد الانتهاء من القتال، وبالفعل التحق أبو محجن بأرض المعركة ولعب بالسيف والرمح حتى ظن الناس أنه من ملائكة السماء من شدة قتاله ، ولما عرف سعد حقيقة أمره أطلق سراحه ليواصل جهاده في سبيل الله، وكانت هذه الليلة واليوم لصالح المسلمين، وأدركوا ما فاتهم من خسائر في أول يوم للقتال ، واستبشروا بقرب نزول النصر.

اليوم الثالث: يوم عماس (السبت 15 شعبان)

في يوم عماس قرر البطل الجسور القعقاع بن عمرو ــ والذي تحول فعلياً للقائد الميداني للمعركة ــ القيام بخدعة حربية جديدة؛ فعمد إلي كتيبته الخاصة والتي جاءت معه من الشام فسربها في ظلام الليل إلي خارج أرض المعركة، وأمرهم مع الصباح أن يعيدوا الكرة مرة أخرى كما فعلوا أول مرة؛ ليظن المسلمون أن إمدادات جديدة قد وصلت إليهم؛ فيزدادوا حماسة وحمية وقوة، وبالفعل تم للقعقاع ما أراد، ومع آخر فصيلة داخلة من كتيبته لأرض المعركة تصادف وصول القائد هاشم بن عتبة بالإمدادات الشامية؛ فكبر هاشم وكبر المسلمون معه، ودب الرعب والفزع في قلوب الفرس.

في هذا اليوم نزل سلاح المدرعات الفارسي – الفيلة – لأرض المعركة بعد إصلاح التوابيت مع حراسة قوية من جانب الفرس لهذه الفيلة، وبدأ الوضع يتغير لصالح الفرس، وعندما رأى سعدُ معاناة المسلمين من الفيلة سأل بعض الفرس الذين أسلموا وصاروا مع المسلمين عن نقاط ضعف الفيلة؛ فقالوا له: “المشافر والعيون”، فكلف القائد سعد كلاً من القعقاع وأخاه عمرو بقتل الفيل القائد؛ وهو فيل “سابور” الأبيض، وكلف حمال بن مالك ومعه الربيل بن عمرو بقتل الفيل القائد الثاني؛ وهو الفيل “الأجرب”, وخرجت الكتيبة الفدائية في مهمة بطولية، لا يقدم عليها إلا أبطال المسلمين العظام، إذ كيف سيقتل رجلان فيلاً عظيماً، ضخم الحجم كالبيت ؟! ولكن أبطال المسلمين لا يعرفون المستحيل؛ لأنهم يعتمدون على ربهم عز وجل ويخافونه وحده، ولا يخافون أحد إلا الله عز وجل، وبالفعل استطاع أبطال الإسلام خرق عيون الفيلين؛ ففرا هاربين من أرض المعركة وتبعهما باقي الفيلة، وعندها احتدم القتال بين الفريقين، وحدث التحام كامل بين الجيشين، حتى قام البطل الهمام طليحة الأسدي باختراق صفوف الفرس في بطولة نادرة، حتى صار خلفهم، وكبر ثلاث تكبيرات هائلة أرعبت الفرس، وكانت هذه التكبيرات سبباً لتوقف القتال حتى الليل.

ليلة الهرير

فهذه الليلة اشتعل القتال بين المسلمين والفرس حتى قبل أن يأذن القائد سعد بالبدء، وتصافح الناس بالسيوف، وحمي الوطيس جداً، ولم يسمع ليلتها صوتاً سوى هرير الناس، وصليل السيوف، وتقاتل الناس قتالاً لم يسمع بمثله في التاريخ، حتى صارت هذه الليلة – ليلة الهرير – مضرب الأمثال بعد ذلك من شدة القتال، وأصبحت مقياساً للحروب فيما بعد، وهدأت الأصوات، وانقطعت الأخبار عن القائد سعد الذي ظل طوال الليل يدعو ويصلي طلباً لنصر الله عز وجل وبرز أبطال الإسلام أمثال القعقاع, وأخيه عاصم، وطليحة الأسدي, وسلمان وعبد الرحمن بن ربيعة, وزهرة بن الحوية, وقيس بن هبيرة, وحمال, والربيل, وغيرهم من الذين يعد الواحد فيهم بألف، وشدوا على قلب الجيش الفارسي حتى أنصدع تحت ضغط الهجمات الإسلامية المتتالية، ونادي البطل المقدام القعقاع بن عمرو في المسلمين: “إن الدائرة على الفرس بعد ساعة لمن بدأ القوم؛ فاصبروا ساعة، فإن النصر مع الصبر”, فشد المسلمون في القتال كالأسود الضارية التي لا يقوم لها أحد، ومع ذلك لم ييأس الفرس، بل ظلوا يقاتلون هم أيضاً في منتهى الضراوة، حتى إن الذي قتل من المسلمين قبل ليلة الهرير ألفين وخمسمائة، وقتل ليلة الهرير ستة آلاف، مما يوضح قسوة وعنف القتال يومها من الجانبين.

مقتل رستم

ظل الفرس يقاتلون في منتهى الضراوة، حتى حانت اللحظة التي انهارت فيها معنويات الجيش الفارسي، وذلك عندما استطاع أحد الفرسان المسلمين وهو هلال بن علفة أن يصل لمكان القائد الفارسي “رستم”, وينقض عليه كالصاعقة، ويقتله بعدما حاول رستم أن يهرب بإلقاء نفسه في النهر، وحاول الفرار سباحة ولكن هلال أقتحم وراءه النهر، وجره مثل الذبيحة خارج النهر وقتله، ورفع رأسه عالياً وهو يصيح: “قتلت رستم ورب الكعبة”؛ فطاش صواب الجيش الفارسي، وحاول الفرار في كل مكان وأخذهم المسلمون وأمعنوا فيهم القتل، لدرجة أن الثلاثين ألفاً الذين قيدوا أنفسهم بالسلاسل للقتال حتى الموت ماتوا قتلاً بسيوف المسلمين، ولم يفلت منهم مخبر.

أمر القائد (سعد بن أبي وقاص) قائد فرسان المقدمة زهرة بن الحوية أن يطارد المنهزمين من فلول الفرس؛ حتى لا يعيدوا تجمعهم مرة أخرى، وكان الفرس قد صنعوا حاجزاًمائياً لعرقلة تقدم ومطاردة المسلمين لهم؛ فعبره (زهرة) وثلاثمائة من خواص فرسانه، وانقضوا على المنهزمين الذين ظنوا أنهم في مأمن من مطاردة المسلمين لهم، وقتلهم جميعاً، وعلى رأسهم القائد الثاني للجيوش الفارسية بعد مقتل “رستم”, واسمه “الجالينوس” ولم تكد شمس يوم 16 شعبان ترتفع حتى أنزل الله عز وجل نصره على المسلمين، ووقع الخزي والهوان على الفرس، حتى أن الشاب اليافع من المسلمين كان يسوق ثمانين رجلاً أسرى من الفرس، ويشير المسلم إلي الفارسي فيأتيه فيقتله، وربما يأخذ سلاحه الذي عليه ويقتله به، وربما رجلين من الفرس فيقتل أحدهما بصاحبه.

((إننا لنقرأ هذه الأخبار فنرى عزة وقوة المسلمين من الجيل الفريد والنادر: جيل الصحابة والتابعين، وكيف أن هيبتهم قد ملأت قلوب أعدائهم حتى صاروا كما قرأنا، ثم نقرأ أخبار المسلمين الآن وقد وقعت عليهم الذلة، وصاروا كغثاء السيل بعدما نزع الله عز وجل مهابتهم من قلوب عدوهم، وألقى في قلوبهم حب الدنيا وكراهية الموت، وصدق أبو بكر عندما قال: ” احرص على الموت توهب لك الحياة “.

بشارة النصر

لقد كان الناس من العرب والعجم ينتظرون ما تنجلي عنه هذه الوقعة بين المسلمين والفرس بـ “القادسية”, ويرون فيها المعركة الفاصلة بين الفريقين، حتى إن الرجل ليهم بالأمر فيقول: “لا أنظر فيه حتى أنظر ما يكون من أمر القادسية”, فلما كان يوم النصر العظيم أرسل القائد سعد بن أبي وقاص للخليفة عمر بن الخطاب ببشارة النصر، وقد سارت الجن بخبر الفتح قبل وصول البشارة للمدينة، وسمع الناس أشعاراً بالنصر – بين جنبات المدينة – لا يعلمون من قائلها، وكان الخليفة يسأل الركبان من حين يصبح إلي انتصاف النهار عن أهل القادسية، ثم يرجع إلي أهله ومنزله، فوافق مجيء الرسول بالشارة عند ارتفاع الشمس، وعمر قائم ينتظر الخبر؛ فلما جاء الرسول سأله عمر عن أخبار المسلمين، والرسول راكب ناقته مسرع بها، وعمر يجري خلفه يسأله وهو يجيبه بالبشارة والفتح، ولا يعرف أنه أمير المؤمنين؛ فلما دخل المدينة رأى الناس يسلمون عليه بالإمارة؛ فقال الرسول: “هلا أخبرتني رحمك الله أنك أمير المؤمنين” ؟! فقال عمر: “لا بأس عليك يا أخي”.

((لله درك يا أمير المؤمنين، يا من هدم الله بك إمبراطورية الفرس والروم، تقول لحظة بلوغك خبر النصر العظيم بمنتهى التواضع: “لا عليك يا أخي”, وهكذا تكون أخلاق السادة والقادة، لا أخلاق العبيد الأذلاء، والطغاة المتجبرين ، ومن أجل هذه الأخلاق ارتفعت هامتهم حتى ناطحوا الجبال، وتوجت رءوسهم السماء، ودانت لهم الأرض من مشرقها إلى مغربها))

كان يوم القادسية من أعظم أيام الإسلام التي كتب الله عز وجل النصر فيها لجند المسلمين, وكانت نقطة فاصلة في تاريخ الصراع بين المسلمين والفرس على الجبهة الشرقية وما بعدها.

أهم الدروس والعبر

دروس وعبر القادسية تصلح أن تكون كتابا مستقلا بذاته لكثرتها وشموليتها وعظمتها ، وسوف نذكر أشهر تلك الدروس والعبر:

1- الاختلاف والتفرق سبب للهزيمة وتكالب الأعداء ، وهو الأمر الذي أدركه أعداء الأمة جيدا فحشدوا كل جهودهم ، ووحدوا راياتهم ، ونبذوا خلافاتهم من أجل محاربة المسلمين ، وهو ما فعله الفرس عندما تصالح رستم والفيرزان من أجل محاربة المسلمين علي الرغم من خلافاتهم الكثيرة.

2- المرأة رغم كرامتها في الإسلام ومكانتها السامية فيه إلا إنها لا تصلح أن تكون حاكما أو زعيما للأمة، وذلك لأسباب كثيرة ، وأعداء الأمة منذ القدم وهم يعلمون عدم صلاحية المرأة لهذا المنصب ، الفرس عندما ولوا يزدجرد وخلعوا أخته بوران من قيادة الفرس.

3- النوازل والبلايا العامة والمحن الكبرى تحتاج من المسلمين حشد كل طاقاتهم لمواجهتها ، وهذا ظاهر من حشد الخليفة عمر بن الخطاب لكل أبطال المسلمين وقادتهم في كل المجالات من أجل معركة القادسية.

4- النصح في الإسلام من أهم صفات المسلمين الصادقين ، فإن الدين النصيحة كما قال رسول الله صلي الله عليه وسلم ، ولن تتقدم الأمة أبدا إذا عدمت النصيحة أو كتمها الناس ، فبما يعرف الناس عيوبهم ، ويصلحوا أخطاءهم إلا بالنصيحة ، وقد نصح المثني بن حارثة حيا وميتا.

5- خرق الله عز وجل نواميس الكون وتسخير كل ما في السموات والأرض لصالح نصرة الدين وأهله ، لهي من السنن التي يغفل عنها الناس في هذه الأيام ، فكرامات جند الله ثابتة بالكثير من المواقف والمشاهد ، أمثال ما حدث مع عاصم بن عمرو عندما كان يبحث عن طعام المسلمين ، وصياح الثور الحيوان البهيم بلسان عربي مبين.

6- لا يعلم المرء من أين يأتي النصر ، فإنه لا يعلم جنود ربك إلا هو ، فقد يكون النصر علي يد أصغر جندي وبأقل سبب ، والمنامات المفزعة التي كان يراها رستم كانت خير دليل علي أثر تلك الأمور البسيطة في هزيمة أعداء الله.

7- المدرسة النبوية في تربية وإعداد القادة والأبطال أخرجت لنا جيلا فريدا من الأفذاذ والأعلام في شتى الميادين ، وإن المرء ليعجب كل العجب من ردود أفعال أبطال المسلمين في القادسية ، رد فعل السفراء الثلاثة ، ورد فعل عاصم بن عمرو عندما حمل التراب وما قاله للقائد سعد بعد أن عاد به ، ورد فعل الجندي المجهول علي رستم ، تشعر أنك أمام رجل واحد وشخصية واحدة وقلب واحد وفكر واحد ، فنفس العزة ونفس الرد القوي ونفس اليقين وحسن التصرف ونفس الشجاعة والبطولة ، فأي رجال هؤلاء الذين رباهم الرسول صلي الله عليه وسلم.

8- القائد الواعي الفطن لابد أن يكون ملما بما يجري حوله وعلي دراية كاملة بأحوال جنوده ورعيته ، تحسبا لحدوث ما لا يحمد عقباه ، ولابد أن يتصرف سريعا عند حدوث أي مشكلات لأن السكوت أو التجاهل أو حتى التغافل قد يورثوا ما أعظم وأشد ، وهذا مأخوذ من تصرف القائد سعد السريع مع المعترضين علي تعيين خالد بن عرفطة في قيادة الجيوش.

9- الصبر والثبات والشجاعة واليقين وحسن التصرف والإيمان العميق بعدالة القضية كلها أمور تبلورت في شخصيات قادة الفتح الإسلامي ، فكانوا أساطير بمعني الكلمة -القعقاع نموذجا-.

المصدر

ملتقى الخطباء، شريف عبدالعزيز – عضو الفريق العلمي.

اقرأ أيضا

معركة القادسية الخالدة 1/ 2

غزوة بدر الكبرى.. وقفات وتأملات

حقائق وعبر ودروس في ظلال غزوة أحد(1)

تأملات في غزوة الأحزاب

معركة القادسية وزوال الإمبراطورية الفارسية

غزة أم المعارك

التعليقات غير متاحة