نظرًا لأهمية معركة القادسية على الوضع الإسلامي العام، كان الناس في كافة أرجاء الجزيرة العربية يتابعون أخبارها شوقًا لمعرفة نتائجها، وكان عمر أشد الناس قلقًا، لذلك كان يخرج كل صباح إلى ظاهر المدينة يتلمس الأخبار، ويسأل الركبان عن أهل القادسية، فإذا انتصف النهار رجع إلى منزله.

ترتيب أحداث وعرض وقائع

إنها واحدة من أكبر المعارك في تاريخ الإسلام ، إن لم تكن أكبرها تلك المعارك التي خاضها المسلمون بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم مع الخصم التاريخي واللدود للعرب والمسلمين -الفرس- والتي أظهرت المعدن الحقيقي لهذا الدين ولهذه الأمة، ولجند الإسلام، وأوجز عبارة، وأبلغ وصف لهؤلاء الجند ما قاله الصحابي الجليل جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عندما سئل عن القادسية:”والله الذي لا إله إلا هو ما اطلعنا على أحد من أهل القادسية أنه يريد الدنيا مع الآخرة” فهلم بنا نقترب من أحداث تلكك المعركة الخالدة نقتفي ما فيها من دروس وعبر وما أعظمها وأكثرها!

الأمر الذي هيج القادسية

بعدما استطاع المسلمون إعادة ترتيب أنفسهم عقب حادثة الجسر الطارئة -والتي قتل فيها كثير من المسلمين- أستطاع القائد الخبير المثنى بن حارثة أن يقوم بضربات قوية وسريعة حقق بها عدة انتصارات باهرة على الفرس في “البويب” و”الأنبار” وغيرها من البقاع العراقية ، واستعاد المسلمون السيطرة على منطقة السواد مرة أخرى، وذلك كله بجيش صغير أقل من عشرة آلاف مقاتل.

على الطرف الآخر من الصراع كانت الجبهة الفارسية تموج باضطرابات داخلية شديدة، وكان الصراع على أشده بين القائدين الكبيرين “رستم” و”الفيرزان”, وكان لكل واحد منهما أتباع وأعوان يحرضونه ضد الآخر بسبب التنافس علي الشرف والزعامة ، فاجتمع أهل العقل والحكمة من الفرس برئاسة “بوران بنت كسرى” -وكانت هي الملكة عليهم- لمقتل كل أبناء كسرى الذكور في الفتنة التي وقعت في البلاط الفارسي أيام “شهر زاد بن كسرى” والتي وقعت استجابة لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم على كسرى وملكه عندما قال: “مزق الله ملكه” ، وقال مجلس الحكماء لرستم والفيزران: “لم يبرح بكما الاختلاف حتى وهنتما أهل فارس، وأطمعتما عدوهم، والله لتجتمعان، أو لنبدأن بكما قبل أن يشمت بنا شامت، ثم نهلك وقد اشتفينا منكما”، وأمام هذا التهديد الخطير اتفق رستم والفيرزان وذلك على ما بينهما من شحناء وبغضاء وأحقاد قديمة ، اتفقا على الوقوف صفاً واحداً أمام المسلمين .

((لو قلبنا أنظارنا في أحداث التاريخ نجد أن أعداء الإسلام على مر العصور يعرفون جيداً طريق الانتصار وأسبابه، وعوامل نجاحه، التي من أولها وأهمها الإتحاد والاتفاق، وفي نفس الوقت الذي تقلب فيه بصرك في أحداث التاريخ تجد أن المسلمين لم يهزموا قط في معركة إلا عندما تختلف الكلمة، ويتفرق الصف، وتعدد الآراء، بل أن الحقيقة الثابتة أن المسلمين يهزمون عادة قبل وقوع القتال؛ لأن التشرذم والتحزب والاختلاف قرين الفشل والهزيمة))

المرأة وعرش كسرى الممزق

بعد أن اتفق رستم والفيرزان كان أول ما فعلا أن بحثا عن رجل من ذرية كسرى لينصبوه عليهم؛ لأنه لا يصلح لقيادتهم امرأة، هذا رغم أن “بوران” كانت حادة الذكاء، شديدة العقل والدهاء، حكيمة في معظم أعمالها إلا أنهم أصروا على تعيين رجل للمنصب الكبير، وبعد بحث طويل وجدوا شاباً في الحادية والعشرين من العمر من ولد كسرى اسمه “يزدجرد”؛ قد نجا من مذبحة عمه “شهرزاد” لذكور كسرى، وظل مختبئاً عند أخواله؛ فأحضروه وجعلوه ملكاً عليهم، وتبارى الجميع في خدمته وإظهار الولاء له، ولأول مرة منذ فترة طويلة تجتمع كلمة الفرس؛ فاستبشروا بذلك خيراً، وحميت نفسهم لقتال المسلمين.

((عجيب جداً أمر أعداء الإسلام، والأعجب منه أمر المسلمين في هذه الأيام؛ فأعداء الإسلام يرفضون بكل قوة أن تقودهم امرأة مهما كانت قادرة ومؤهلة لذلك، ويصرون أن يتولى الإمامة رجل مهما كان صغيراً في السن، والمسلمين الآن تجد منه الكثير تقودهم النساء، وتحكمهم وتسوسهم امراة: كما حدث في بنجلاديش وباكستان وأندونيسيا؛ كأن أعداء الإسلام سمعوا وفهموا وطبقوا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة”, صحيح الجامع 5225 ، وكأن مسلمي هذا الزمان ما سمعوا ولا فهموا ولا علموا)).

الفرس وسياسة الأرض المحروقة

فوض كسرى “يزدجرد” القائد الكبير رستم في التحضير لمعركة فاصلة مع المسلمين تستهدف طردهم نهائياً من العراق ومواصلة المطاردة حتى عقر دارهم بشبه الجزيرة العربية؛ فبدأ رستم في تنفيذ الخطة بإثارة القلاقل والاضطرابات بالمناطق المفتوحة من قبل المسلمين، والترويج لفكرة الثورة ضدهم؛ بدعوى أن الفرس قد اتحدوا واجتمعوا، وسيأتون بحدهم وحديدهم من أجل إفناء المسلمين أجمعين، وبالفعل آتت الخطة أكلها، واستجاب أهل السواد، وسائر المناطق المفتوحة لدعم رستم، وخلعوا طاعة المسلمين، ونقضوا عهدهم، واستقووا على المسلمين الذين كان يقودهم وقتها المثنى بن حارثة، وكان عددهم ثمانية آلاف فقط، في حين نقلت الاستخبارات الإسلامية للقائد المثنى أخبار اجتماع الفرس، وتولية يزدجرد، وأن رستم قد أعد جيشاً جراراً يتجاوز مائتي ألف مقاتل، فكيف يواجه ثمانية آلاف هذه الحملة الجبارة، فأسرع المثنى الخبير العسكري المحنك ونفذ انسحاباً عسكرياً ماهراً، قبل أن يهلك جيشه، ونزل إلي حدود العراق، وأرسل للخليفة عمر بن الخطاب يخبره بصورة الأمر وخطورته؛ وذلك لسرعة التحرك.

ملوك العرب تحت قيادة جديدة

وصلت رسالة المثنى للخليفة (عمر بن الخطاب)؛ فقال مقولته الشهيرة: “والله لأضربن ملوك العجم بملوك العرب”, ولم يدع رئيساً, ولا ذا رأي، ولا ذا شرف وبسطة، ولا خطيباً، ولا شاعراً إلا رماهم به، فاجتمع عنده الأبطال والشجعان والفرسان فيما يشبه النفير العام, ولأول مرة يعلن الخليفة التجنيد الإلزامي للمسلمين في قبائل معينة؛ وهي قبائل “ربيعة” و”بجيلة” و”النخع” وحصل استنفار للهمم, وكان الخليفة عمر قد رفع الحظر المفروض على المرتدين، والذي سبق وكان الخليفة أبو بكر قد فرضه عليهم، وهذا الرفع أدى لزيادة الروح المعنوية عند المسلمين؛ حيث توافد الناس على المدينة، وعزم الخليفة عمر بن الخطاب على أن يقود الجيوش بنفسه،ولكن كبار الصحابة اثنوه على ذلك؛ لحاجة الأمة له في هذا المكان، وأشاروا عليه أن يبعث رجلاً من السابقين الأولين مكانه لقيادة الجيش؛ فوقع الاختيار على الصحابي الجليل سعد بن أبي وقاص، وكان وقتها عاملاً على “هوزان”؛ فاستدعاه الخليفة، وعينه قائداً عاماً للجيوش الإسلامية المتجهة ناحية العراق، وأوصاه بوصايا نافعة، ورسم له خطة الهجوم على أفضل ما يكون، كأن الخليفة عمر يرى أرض العراق ويعرفها جيداً, رغم أن قدماه لم تطأ العراق قط.

النصيحة حيا وميتا

اجتمع عند سعد بن أبي وقاص قرابة الثمانية والعشرين ألفاً، وقام الخليفة نفسه باستعراض الجيش؛ كي يطمئن بنفسه على سلامة الاستعدادات، وسار الجيش المسلم تحدوه آمال عريضة في نشر دين الإسلام بكل أرجاء العالم، حتى لا يعبد على الأرض سوى الله عز وجل، ووصل الجيش إلى منطقة “ذي قار”؛ حيث معسكر جيش المسلمين بالعراق، وكان قائده المثنى بن حارثة رضي الله عنه قد قضى نحبه من جراح ألمت به في إحدى المعارك السابقة، واندملت ثم نغرت عليه مرة أخرى؛ فمات منها هذا البطل الجسور واستمعوا إلى ما قاله المثنى بن حارثة في آخر حياته العامرة بالجهاد في سبيل الله، وهو يوصي المسلمين القادمين بالجهاد فيقول: “أوصي المسلمين وقائدهم سعداً بأن يقاتلوا عدوهم -الفرس- على أدنى حجر من أرض العرب، وعلى أول حجر من أرض العراق، فإذا كان النصر أخذهم المسلمون ومن ورائهم، وأن كانت الأخرى كانوا أدرى بأرضهم، وعادوا سالمين”. فلما سمع القائد العام سعد بن أبي وقاص نصيحة (المثنى) ترحم عليه، ودعا له، وعمل بهذه النصيحة الغالية.

((أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمونا في مواطن كثيرة كيف يكون التطبيق العملي لما أمرهم به الرسول صلى الله عليه وسلم؛ فالمثنى رحمه الله يعلمنا معنى الدين الصحيح كشعار يحيى المسلم عليه ويموت، فهو ظل ينصح للأمة حتى آخر رمق في حياته؛ ذلك لأن قضية الإسلام كانت تشغل حياته كلها، ولا يفكر بسواها؛ فهي مسئولية على عقله وفكره حتى آخر لحظة في حياته؛ فلا عجب إذاًأن يفتح الله عز وجل لهم البلاد، وقلوب العباد))

يوم الأباقر وكرامة المجاهدين

بعد انضمام جيش سعد وجيش “المثنى” أصبح تعداد المسلمين قرابة الستة والثلاثين ألفا، وعسكر هذا الجيش الكبير قريباً من القادسية, وذلك في شهر صفر سنة 15 هـ، وظل الجيش مرابطاً في المنطقة بناء على أوامر الخليفة عمر بعدم تعجل الصدام مع الفرس، ولكن واجهت هذا الجيش مشكلة: ألا وهي مسألة المؤن اللازمة لإطعام هذا الجيش الكبير، والذي يحتاج يومياً لحوالي ستة وعشرين جملاً، هذا غير الحبوب و التمر، وازدادت المشكلة تعقيداً بسبب غدر أهل السواد والمناطق المفتوحة، والذين خلعوا طاعة المسلمين، ونقضوا عهدهم؛ لما علموا بقدوم جحافل الفرس الجرارة، وتآمروا معهم على المسلمين؛ بأن فرضوا حصاراً اقتصادياً علي المسلمين، وقطعوا عنهم المؤن والطعام، وأخفوا قطعان الماشية كلها في غابة من الغابات الكثيفة؛ فأرسل القائد سعدُ عاصمَ بن عمرو ليحصل لهم على الطعام بسيوف المسلمين، طالما أن الغادرين قد منعوا عن المسلمين الطعام، واستطاع عاصم أن يأسر أحد الغادرين، وسأله عن قطعان الماشية التي كانت تملأ الوديان؛ فقال الراعي الغادر: “لا أدري”, وهنا تحدث كرامة هائلة؛ إذ صاح ثور من قطعان الماشية داخل الغابة بصوت عربي فصيح مبين: “كذب عدو الله ها نحن أولاء” فدخل عاصم الغابة، واستاق قطعان الماشية، وصارت غنيمة للمسلمين ، وسموا هذا اليوم بيوم الأباقر.

((ولا يستبعد أحد حدوث هذه الكرامات والخوارق للمسلمين في وقتنا الحاضر، ولا يستكثر المسلمون على ربهم عز وجل وعلا أن يغير نظام الكون طالما كانوا على حق، وينصرون الله ورسوله، بل إنا نقول إن جند الإسلام المخلصين في أيامنا تلك سيرون من الله عز وجل كرامات وخوارق أكبر وأكثر من سابقيهم؛ لأنهم في حاجة للتأييد والعون الإلهي أكثر من سابقيهم؛ لأننا في عصر غربة الإسلام، الذي قل فيه من ينصر دين الله، وهذه الكرامات تكون آية على صحة الطريق، وسلامة القصد وحسن الخاتمة))

الإنذار قبل الإعصار

ولأن المسلمين لا يحاربون من أجل الدنيا، ولا من أجل مكاسب زائلة، ولأن حربهم في سبيل الله وحده، ومن أجل مرضاته بنشر الإسلام، ولأن حربهم عادلة، فلقد أرسل الخليفة عمر بن الخطاب لقائده الميداني سعد بن أبي وقاص يأمره أن يرسل من عنده وفداً لعرض رسالة الإسلام، وشرح أهداف الحرب على “يزدجرد”, فأرسل سعد وفداً مكوناً من عشرة من كبار الصحابة وقادة المسلمين، تم اختيارهم بعناية فائقة؛ حيث تجمعهم صفات القيادة والهيبة و, وروعة المنظر وبسطة الجسم، والذكاء والفطنة والحكمة؛ بحيث كانوا خير تمثيل لدعوة أمة الإسلام، وجعل عليهم النعمان بن مقرن المزني أميراً، فذهب الوفد إلي المدائن، ودخلوا على كسرى “يزدجرد” وحاشيته، وأخذ أميرهم النعمان في عرض رسالة الإسلام بمنتهى الوضوح واليسر، ثم تكلم بعده “يزدجرد”, وكان شاباً طائشاً وسفيهاً في كلامه، طفولياً في أسئلته؛ حيث سألهم عن ملابسهم وسلاحهم، وأسواطهم ونعالهم، ومعنى كل كلمة بالفارسية؛ حيث كان يتشائم ويتفائل من الألفاظ، فأعاد عليهم صحابي آخر وهو المغيرة بن زرارة، رسالة الإسلام، وبصورة قوية، وهنا أساء “يزدجرد” الأحمق الكلام والأدب مع الوفد، وسخر منهم، فرد عليه المغيرة بن زرارة بكل قوة وعزم، وخيره بين الإسلام، أو الجزية، أو الحرب؛ فاستشاط “يزدجرد” غضباً، وهم بقتلهم، ثم أمر بوقر من تراب أن يحمل على رأس أشرف رجل منهم؛ فانتدب لذلك عاصم بن عمرو، ولم يكن أشرفهم، ولكنه بادر بنفسه صيانة لإخوانه؛ فحمل الوقر على رأسه، ثم انطلق الوفد مسرعاً، ودخلوا على القائد سعد، بعد أن وضعوا وقر التراب بين يديه: “أبشر أيها الأمير؛ فقد أعطانا الله أقاليد ملكهم، وهذا هو تراب أرضهم”. فانقلب السحر علي الساحر ورد الله كيد الفرس ، وفرح المسلمون بما جاء به عاصم بن عمرو ، وكان رستم غائبا لم يشهد هذا الموقف ، فلما عاد وعرف الخبر تشاءم بشدة ، وأرسل في طلب المسلمين ليأخذ منهم وقر التراب ، ولكنه لم يدركهم ، واستطاع عاصم بن عمرو بفطنته وذكائه وحسن سياسته أن يعمق من جراحات الفرس النفسية.

واحد ضد ربع مليون

لم يجد رستم بداً من الخروج للقتال رغم كرهه الشديد لذلك ، فأخذ في الاستعداد للحرب، وحشد أكثر من مائتين وأربعين ألفاً من المقاتلين الأشداء، ومنهم المسلسلون لكي يقاتلوا حتى الموت، هذا غير سلاح المدرعات المكون من ثلاثة وثلاثين فيلاً عملاقا، والجيش مجهز بأفضل وأحدث الأسلحة المعروفة وقتها، وأثناء السير للقاء المرتقب مع المسلمين خطف الفرس جندياً مسلماً؛ فلما علم رستم بذلك طلب منهم إحضاره فأتي به، وأوقف بين يدي القائد رستم، ثم دارت هذه المناظرة – القصيرة في ألفاظها العظيمة في معانيها – بين رستم الذي يقود أكثر من مائتي ألف مقاتل، وبين جندي مسلم لا يعرف أحد اسمه:

قال رستم: ما جاء بكم وماذا تطلبون ؟

قال المسلم: جئنا نطلب موعود الله بملك أرضكم وأبنائكم إن أبيتم أن تسلموا.

قال رستم: فإن قتلتم قبل ذلك ؟

قال المسلم: في موعود الله أن من قتل منا قبل ذلك أدخله الله الجنة، وأنجز لمن بقي منا ما قلت لك، فنحن على يقين من موعود الله.

قال رستم مستهزئاً: قد وضعنا إذاً في أيديكم، وضحك هو وحاشيته.

قال المسلم: ويحك يا رستم إن أعمالكم وضعتكم؛ فأسلمكم الله بها، فلا يغرنك ما ترى حولك؛ فإنك لست تجادل الإنس، إنما تجادل القضاء والقدر.

عندها استشاط رستم غضباً، وأمر بقتل المسلم؛ فقتل رحمه الله.

((ذلك الموقف الفريد في التاريخ الذي لا يعرف له نظير ليذكرنا بموقف الصحابي عبد الله بن حذافة مع ملك الروم ، ورفضه للإغراءات الكثيرة التي عرضت عليه ، ومثل هذه المواقف المتشابهة كثيرة في حياة الصحابة الذين كانوا علي يقين راسخ وإيمان شامخ بدينهم وبما وعدهم به الله ورسوله من نصر وتمكين ، وهذا الجندي الواحد الذي لم تذكر المراجع اسمه لخص رسالة الإسلام بأقل كلمات أمام هذا الطاغية المجوسي ، ولم يهتز أو يتلعثم أو يتردد أو يهادن ، بل كان مثل الطود العظيم ، حتى أنه قد صمد وحده أمام ربع مليون مقاتل من الأعداء الحاقدين))

الرسل الثلاثة

كان رستم كما أسلفنا شديد الكره للقاء المسلمين؛ لذلك فقد كان يعمل على تطويل المدة قبل الصدام المرتقب والوشيك بشتى الوسائل؛ لذلك طلب من القائد سعد بن أبي وقاص أن يرسل له من طرفه رسولاً للتشاور والتفاوض معه عسى أن يرجع عنه المسلمون، فأرسل لهم سعداً ثلاثة من الصحابة الواحد تلو الآخر، أولاً: ربعي بن عامر، ثم حذيفة بن محصن، ثم المغيرة بن شعبة، وكان رستم خبيثاً ماكراً؛ فقد رمى من هذه السفارة هدفاً شريراً ألا وهو إصابة المسلمين بالهزيمة النفسية؛ حيث أمر رستم عظماء الفرس وقادة الجيش بإظهار الزينة في أبهى حللها، وفرش مجلسه الذي سيلاقي فيه الرسل بالحرير والبسط والنمارق، والذهب، والجواهر، لإظهار القوة والسيطرة والأبهة، حتى إذا ما رأى المسلمون كل هذه القوة والزينة أصيبوا بالهزيمة النفسية المروعة، فيعودون إلي باقي المسلمين بقلوب منهزمة منكسرة، فينقلون هذه الهزيمة النفسية إلي باقي الجيش، ولكن الأمر العجيب أن رد فعل الرسل الثلاثة وجوابهم جاء واحداً متطابقاً؛ كأنهم رجل واحد, له قلب واحد، فلم ينبهر منهم أحد، ولم يهتز منهم أحد، وكانوا فوق كل هذه البهارج والزينات، واستعلوا بدينهم على كل هذه المحاولات الرخيصة لفتنتهم وهزيمتهم، فواحد خرق البسط برمحه وقطع الوسائد بسيفه ، ورفض أن يجلس عليها ، والثاني لم ينزل أساسا من فوق ظهر جواده ، والثالث دخل في مناظرة ضرب أمثال مع رستم أفحمه فيها ، وذلك بعد أن مشي حتى جلس علي سريره ، فانقلب كيد الفرس في نحورهم، ووقعت على رءوسهم الهزيمة النفسية عندما وجدوا الفارق الشاسع بين أقزامهم وعمالقة المسلمين.

((المدرسة التي تخرج منها الثلاثة واحدة: وهي مدرسة النبوة العليا، والمعلم الأستاذ واحد: وهو معلم البشرية كلها النبي صلى الله عليه وسلم، ومنهج التربية واحد: وهو المنهج السماوي من قرآن وسنة ، وهو المنهج الذي نفتقده في أيامنا هذه التي تشهد تطويرا للتعليم يضعه اليهود والصليبيون ليدرس في بلاد المسلمين، ونحن في أمس الحاجة للعودة إلي المنهج النبوي في التربية وإعداد الرجال ، نظرا للكم الهائل من الانحرافات السلوكية والأخلاقية التي تعصف بأبناء المسلمين)).

سحر الشخصية الجهادية

قبل اشتعال القتال بصورة شاملة اعتمد القائد سعد بن أبي وقاص على سلاح الاستطلاع؛ ليأتيه بالأخبار عن تحركات الجيش الفارسي، وكان أفراد سلاح الاستطلاع من خلاصة أبطال الجيش الإسلامي، وكانوا يتصفون بالشجاعة والقوة والإقدام وحسن التصرف، وكان من أهم فرسان هذه الكتيبة الخاصة هو طليحة الأسدي, والذي سبق وأن ادعى النبوة أيام الردة، ثم تاب وعاد إلي الإسلام، وحسن إسلامه، وكان من أبطال المسلمين الكبار، ولم يترك غزوة بأرض العراق إلا واشترك فيها تكفيراً عن ذنبه، وطلباً للشهادة – التي نالها في أحداث معركة نهاوند – وكان طليحة فارساً يعد بألف في القوة والشجاعة، قاد مجموعة من الفرسان لاستطلاع الخبر عن موقع الجيش الفارسي،و كان المسلمون يظنون أنه على مسافة بعيدة، فإذا بالكتيبة تكتشف أن موقع الجيش أقرب مما يظن المسلمون، فأرادوا الرجوع لإخبار القائد سعد ولكن طليحة يصر على القيام بهجمة جهادية على المعسكر الفارسي؛ لبث الرعب في نفوس العدو، ويحجم باقي فرسان الكتيبة عن ذلك؛ إذ كيف بعشرة أن يهجموا على مائتين وأربعين ألفاً، ولنا أن نتخيل هذا الموقف الفريد الرائع: فارس واحد يقتحم معسكر الفرس الضخم، ويغير عليه بمفرده؛ وهو يصيح ويكبر بأعلى صوته الذي أرعب الفرس بصورة كبيرة، واستطاع أيضاً طليحة أن يغنم من المعسكر الفارسي فرساً أبيض لا يقدر بثمن، ولما حاول بعض أبطال الفرس حفظ ماء وجه الفرس، ولم كرامتهم المهانة والمبعثرة تخت أقدام المسلمين قتل طليحة اثنين منهم وأخذ الثالث أسيراً، ووصل طليحة هو وأسيره إلي معسكر المسلمين، وعندما سأل القائد سعد الأسير الفارسي عن وضع الجيش الفارسي وخبره، كان هذا الأسير أول ما تكلم سأل عن طليحة: من هو ؟! وكيف هو ؟! وظل يتحدث عن بطولة طليحة وشجاعته وقوته وفروسيته مثل المسحور تماماً بهذه الشخصية الجهادية، ثم ما لبث أن أعلن إسلامه فوراً، وسمى نفسه مسلماً وطلب أن يلتحق مع كتيبة البطل طليحة إعجاباً بهذه الشخصية الجهادية.

((وهكذا كانت تتحدث الأفعال لا الأقوال، فتنجذب القلوب، وتسحر النفوس، ويدخل الناس في دين الله أفواجاً لما يرونه من أخلاق وأفعال المسلمين؛ تماماً مثلما يحدث الآن ولكن بصورة عكسية وللأسف الشديد)).

المصدر

ملتقلى الخطباء، شريف عبدالعزيز – عضو الفريق العلمي.

اقرأ أيضا

غزوة بدر الكبرى.. وقفات وتأملات

حقائق وعبر ودروس في ظلال غزوة أحد(1)

تأملات في غزوة الأحزاب

معركة القادسية وزوال الإمبراطورية الفارسية

غزة أم المعارك

التعليقات غير متاحة