ثمة ملامح لدعوة الأنبياء وهديهم في إصلاح البشرية، والإسلام باقٍ بمنهجهم الكريم متمثلا في الرسالة الخاتمة، ولا بد من معرفة ملامح دعوتهم ومواجهتهم.
مقدمة .. التدرج والترجيح
التدرج في الدعوة ومراعاة المصالح والمفاسد وقواعد الترجيح عند التعارض
إن المتأمل في دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من بدايتها إلى نهايتها يرى أنها كانت تمر في مراحل متدرجة، كل مرحلة تؤدي إلى الأخرى حتى أتاهم نصر الله عز وجل.. كما يرى المتأمل فيها أيضا أن تلك المراحل وما فيها من مواقف وتصرفات وأحكام كانت مبنية على فهمهم لواقعهم الذي يدْعون فيه، وأن مراعاة المصالح والمفاسد كان له وزن كبير في تحديد معالم كل فترة؛ فجاءت دعوتهم محكَمة مثمِرة منصورة.
وكيف لا يكون ذلك وهي تسير بوحي الله عز وجل وأمره ونهيه، وما دام الأمر كذلك في صحتها وعصمتها، فتحتم على من يروم نصر الله عز وجل وتمكينه لعباده المؤمنين أن يهتدي بهذا الهدي المعصوم، وأن يطيل النظر فيه على ضوء مستجدات العصر وفهم الواقع المحيط.
يقول الإمام ابن القيم رحمه الله تعالى:
“أول ما أوحى إليه ربه تبارك وتعالى: أن يقرأ باسم ربه الذي خلق؛ وذلك أول نبوته، فأمره أن يقرأ في نفسه، ولم يأمره إذ ذاك بتبليغ، ثم أنزل عليه ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ﴾ [المدثر: 1-2]، فنبّأه بقوله: ﴿اقْرَأْ…﴾ [العلق: 1] وأرسله بـ ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ﴾ ثم أمره أن ينذر عشيرته الأقربين، ثم أنذر قومه، ثم أنذر من حولهم من العرب، ثم أنذر العرب قاطبة، ثم أنذر العالَمين، فأقام بضع عشرة سنة بعد نبوته ينذر بالدعوة بغير قتال ولا جزية، ويؤمر بالكف والصبر والصفح.
ثم أذِن له في الهجرة وأذِن له في القتال، ثم أمره أن يقاتل من قاتله ويكف عمن اعتزله ولم يقاتله، ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله. ثم كان الكفار معه بعد الأمر بالجهاد ثلاثة أقسام: أهل صلح وهدنة، وأهل حرب، وأهل ذمة؛ فأمر بأن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم، وأن يوفي لهم به ما استقاموا على العهد، فإن خاف منهم خيانة نبذ إليهم عهدهم، ولم يقاتلهم حتى يُعْلمهم بنقض العهد، وأُمِر أن يقاتل من نقض عهده. ولما نزلت سورة “براءة” نزلت ببيان حكم هذه الأقسام كلها، فأمره فيها أن يقاتل عدوه من أهل الكتاب حتى يعطوا الجزية أو يدخلوا في الإسلام، وأمره فيها بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم، فجاهد الكفار بالسيف والسنان، والمنافقين بالحجة واللسان.
وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار، ونبذ عهودهم إليهم…
فاستقر أمر الكفار معه بعد نزول براءة على ثلاثة أقسام: محاربين له، وأهل عهد، وأهل ذمة.
ثم آلت حال أهل العهد والصلح إلى الإسلام فصاروا معه قسمين: محاربين، وأهل ذمة. والمحاربون له خائفون منه، فصار أهل الأرض معه ثلاثة أقسام: مسلم مؤمن به، ومسالم له آمن، وخائف محارب.
وأما سيرته في المنافقين، فإنه أمر أن يقبل منهم علانيتهم ويكِلَ سرائرهم إلى الله، وأن يجاهدهم بالعلم والحجة، وأمره أن يُعرض عنهم، ويغلّظ عليهم، وأن يبْلُغ بالقول البليغ إلى نفوسهم، ونهاه أن يصلي عليهم، وأن يقوم على قبورهم، وأخبر أنه إن استغفر لهم فلن يغفر الله لهم، فهذه سيرته في أعدائه من الكفار والمنافقين”. (1زاد المعاد : (3/159-161) ت. الأرناؤوط)
هذا هو خط سیر دعوته صلى الله عليه وسلم وجهاده منذ أن بعثه الله سبحانه إلى أن مكن له في الأرض ونصره.
التأمل في فترة ما قبل الهجرة
ويهمنا من هذه الفترات فترة ما قبل الهجرة والإذن بالقتال وذلك لاعتبارين:
الأول: لأنها محل اتفاق بين الأنبياء جميعا؛ حيث إن هديهم عليهم الصلاة والسلام قد اتفق في هذه الفترة مع هدي الرسول صلى الله عليه وسلم في مكة قبل الهجرة حيث الاستضعاف والصبر وکف اليد؛ أما بعد الهجرة فكان الجهاد الذي نصر الله به نبيه صلى الله عليه وسلم، وبما أيده به من المعجزات.
الثاني: أن هذه الفترة هي أقرب ما يكون إلى أحوال المسلمين اليوم من جهة “الغُربة” التي يعيشونها في دينهم وعقيدتهم؛ حيث ظهر كثير من الشركيات في بلدان المسلمين وضُيّع كثير من الفرائض، وحكّم في أكثر بلدان المسلمين شرع الطاغوت وحكم البشر، وأهمل جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وعطل الجهاد، وانتشر الفساد في بلاد المسلمين بشكل لم يسبق له نظير، وصاحب ذلك تسلط الأعداء وكيدهم وإفسادهم في بلدان المسلمين، ونجم النفاق، واشتدت الغربة على أهل الحق فاستُضعفوا وأوذوا.
ولكن من رحمة الله عز وجل أنه يهيئ لدينه أنصارا لا يخلو منهم زمان حتى يأتي أمر الله. ثم إنه لا يزال ـ والحمد لله ـ في الأمة خير يحتاج إلى من يزيل الركام عنه.
إذا فهناك أوجه شبه بين ما يعيشه المسلمون في هذا الزمان وبين تلك المرحلة التي عاشها أنبياء الله عز وجل ورسله عليهم الصلاة والسلام قبل أن يأتيهم نصر الله سبحانه، وبالتحديد تلك المرحلة التي عاشها الرسول صلى الله عليه وسلم في العهد المكي قبل الهجرة. مع الانتباه إلى أننا في هذا الزمان نعيش اكتمال أحكام الإسلام؛ وبالتالي فنحن ملزَمون بها كلها؛ بينما كان التشريع في مكة في بدايته، وكان التركيز على بناء العقيدة وتربية النفوس عليها.
فنحن مطالَبون في هذا الزمان بالتزام أحكام الدين كلها، مع التأسِّي بهدي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في مرحلة الاستضعاف والتي حُددت ملامحها وفُصلت في سيرة نبينا محمد، صلى الله عليه وسلم، في تلك الحقبة.
ملامح الدعوة في عهد الاستضعاف
يمكن تلخيص الملامح الدعوية في مرحلة الاستضعاف كما هي في هديه صلى الله عليه وسلم فيما يلي:
أولا) نشر عقيدة التوحيد وأحكام الإسلام والانقطاع إليها بكل الجهد والطاقة
وهذا ما قام به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في دعوتهم لأقوامهم، واستمروا على ذلك يصِلون ليلهم بنهارهم، وانقطعوا إليه بجميع ما يملكون من جهد. وانطلقوا ناصحين مشفقين على الناس من عذاب الله عز وجل في الدنيا والآخرة، وهذا هو الذي قام به الرسول، صلى الله عليه وسلم، في مكة؛ يدعو أهل بيته وأقاربه وأصحابه ويدعو بطون قريش في نواديهم وتجمعاتهم، ويطوف على الناس في الأسواق. ويمر على وفود العرب إلى بيت الله الحرام؛ يدعوهم إلى الإسلام، ويخوفهم من عذاب الله عز وجل. واستمر على ذلك بكل صبر وقوة، لا يكلّ ولا يتوقف. وهذا هو الذي ذكره ابن القيم رحمه الله تعالى في هديه صلى الله عليه وسلم في دعوته للكفار منذ أن بعث إلى حيث لقي الله عز وجل كما سبق بيانه.
ثانيا) الاهتمام بالتربية والبناء والتزكية
وهذا أمر يزيد على الدعوة والتعليم لأحكام الإسلام؛ حيث لا بد من العناية بالفئة الجادة التي يظهر عليها حب الإسلام، والرغبة في الدعوة إليه والحرص على تعاليمه. فمثل هؤلاء ينبغي أن تكون لهم عناية ورعاية يُخَصون بها لتربيتهم على هدْي الإسلام، والعمل على تزكيتهم وتكوينهم على العلم الصحيح والعمل الصالح والدعوة إلى الإسلام، وصبغ حياتهم بذلك، مع تعميق معاني الأخوة ورابطة العقيدة بينهم، والتواصي بالحق والتواصي بالصبر، واحتساب ذلك عند الله عز وجل. وهذا النوع من التربية ضروري في هذه المرحلة؛ وذلك لبناء القاعدة الصلبة التي يحمي بها الله عز وجل دينه، ويهيئها الله سبحانه لتقود الأمة بعد ذلك، وتكون بمثابة أئمة الهدى للناس في العلم والعمل والدعوة والصبر. وهذا ما يُلمَس من دعوة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام الذين كانوا يعتنون بمن يؤْمن من أقوامهم تعلیما وتربية وإعدادا، ويتضح هذا بجلاء في دعوة النبي، صلى الله عليه وسلم؛ في مكة حيث كان يربِّي أصحابه رضي الله عنهم في دار الأرقم؛ فيعلمهم ما ينزل من الوحي ويصبّرهم ويشاركهم في مصاباتهم وابتلاءاتهم، حتى تخرَّجَ من هذه الدار الرجال العظام من السابقين الأولين الذين قامت على کواهلهم رسالة الإسلام بعد ذلك، وفتحوا الدنيا مع إخوانهم الأنصار والتابعين لهم بإحسان.
أهم جوانب التربية والتزكية
ومن أهم جوانب التربية والتزكية ما يلي:
أ- الفهم الصحيح لعقيدة الإسلام بفهم السلف الصالح وخير القرون، وتعميق المعنى الشامل للتوحيد وآثاره، وتعميق الإيمان باليوم الآخر والاستعداد له. وتعميق مفهوم الموالاة والمعاداة على أساس الإسلام.
ب- شحذ الهمم لدعوة الناس إلى هذا الفهم الصحيح للعقيدة وتوسيع قاعدة الدعوة.
ج- تزكية النفوس بتقوية الصِلة بالله عز وجل، والإكثار من ذكره ودعائه وعبادته والاستعانة به وحده.
د- تقوية الرابطة الإيمانية المبنية على الولاء والمحبة والنصرة لكل مؤمن. ودعم أواصر الأخوة والألفة بين الدعاة إلى الله عز وجل؛ وهذه بدورها تقتضي البراءة من المشركين والتميز عنهم ظاهرا وباطنا.
وهذا ما نراه واضحا في حياة المؤمنين من أتباع الرسل الذين يكوّنون بترابطهم ومحبتهم حزب الله أمام حزب الشيطان المتمثل في كل عقيدة تخالف الإسلام. وإن هذا الجانب من التربية والتزكية يجب أن يأخذ حظه من الاهتمام وأن تكون له العناية الشديدة من الدعاة إلى الله عز وجل في هذا الزمان الذي نشهد فيه الفرقة والمعاداة بين المؤمنين الداعين إلى الله عز وجل.
إنه ما لم توجد المحبة والألفة والتناصر بين أهل الحق أمام أهل الباطل فلا يطمع في نصر الله عز وجل وتمكينه؛ لأنه قد فرط في سببٍ يعد من أهم أسباب النصر والتوفيق؛ قال تعالى: ﴿..وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ۖ وَاصْبِرُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ [الأنفال: 46].
هـ- شحْذ الهمم والعزائم للإنفاق في سبيل الله عز وجل ودعم مجالات الدعوة والتضحية في سبيل الله عز وجل بكل نفيس خاصة في هذه المرحلة حيث الاستضعاف وقلة ذات اليد وقلة الموارد الاقتصادية .
ثالثا) الصفح والصبر على الأذى وكف اليد
وهذا من أهم ملامح الدعوة في فترات الاستضعاف والذي يتضح من هدْي الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في دعوة أقوامهم في تلك المرحلة مع الصبر والاستعانة بالله عز وجل على كل وسائل الأذى والصد والاستفزاز الذي يقوم به أهل الباطل وأعداء الدعوة.
حيث لم يؤذن لهم في القتال واعتماد المواجهة المسلحة، بل أُمروا بالصفح والصبر والاستعانة بالله عز وجل، ولم يؤذن لهم في القتال إلا بعد الهجرة إلى المدينة حيث توفر المكان الذي تأوي إليه الدعوة وتحتمي فيه، وحيث قویَت شوكة المسلمين وكثر عددهم؛ وذلك كما مرَّ بنا في سرد ابن القيم رحمه الله تعالى لمراحل الدعوة والجهاد التي مر فيها الرسول صلى الله عليه وسلم.
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة المشرفة وبداخلها الأصنام وشعارات الشرك ولم يغيّر شيئا منها. وكان يمرّ على أصحابه وهم يعذَّبون أمام عينيه كآل ياسر وغيرهم فلا يملك إلا أن يقول: «صبرا آل ياسر فإن موعدكم الجنة» (2الحاكم (3/ 388)، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 294) وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات). مع أنه صلى الله عليه وسلم أكثر الناس غيرة على محارم الله عز وجل وحرمات المسلمين.
خاتمة
يجب على أرباب الدعوة اليوم النظر بتأمل وتروٍ في هذه الفترة وملامحها؛ فالشبه اليوم كبير والدروس ملحة، كما أن مخالفة هذا الهدْي الكريم أنتج أزمات للإسلام وأهله، وللدعاة، أخرت الدعوة في مواطن وأزمنة وأعطت للعدو فرصة لاستئصال الدعوة والأهلها.
……………………..
الهوامش:
- زاد المعاد : (3/ 159-161) ت. الأرناؤوط.
- الحاكم (3/ 388)، وذكره الهيثمي في مجمع الزوائد (9/ 294) وقال: رواه الطبراني ورجاله ثقات.
اقرأ أيضا: