في خضم معركة الأقصى، ونحن نخوض معارك الصبر المتعددة، في مواجهة ألد الخصوم: من عدو حاقد لئيم، ومنافق فاجر أثيم، وما ينتج عنه من الفقد بشتى أنواعه وألوانه وأشكاله، والنزوح القسري والتدمير والإبادة الجماعية بكل وسائلها وأساليبها؛ إضافة إلى الغلاء والقلة والفاقة والحرمان والجوع والبرد وانقلاب الطقس المفاجئ؛ خاصة أننا في فصل الشتاء، وتبعات كل خصم من هؤلاء وآثاره السلبية المترتبة على عداوته؛ وخاصة فقد الأحبة وتفطر القلب حزناً؛ وقد نفقده حيَّاً بِتَغَيُرِ المواقف؛ كما حدث مع الخذلان على المستوى الجمعي لأمتنا، والمستوى الفردي للأشخاص، مما يورثنا الحسرة والألم إلى أن يَمُنَّ الله علينا بالصبر والرضا؛ ومن ثَمَّ نحمد الله على الفقد أياً كان؛ فما كان من الله كله خير.
يقول النبي ﷺ: “الأرْواحُ جُنُودٌ مُجَنَّدَةٌ، فَما تَعارَفَ مِنْها ائْتَلَفَ، وما تَناكَرَ مِنْها اخْتَلَفَ”.
نتحابب ونتآلف وقد نتعاون عمراً ثم نتغير؛ ثم نختلف لسبب ما، ثم نتباغض ونتعادى!
فما الذي حدث؟
نتذكرَ قول النبي ﷺ: “إنَّ القُلوبَ بين أُصبُعينِ من أصابِعِ الرحمنِ يُقلِّبُها كيف يشاءُ”.
لنعلم عظيم فضل الله لمن أقامه على دينه؛ والويل لمن أزاغه عن الصراط؛ فما الذي يحدث وما سبب الزيغ؟
عندما تتغير مَوَاقِفُنُا وآراؤُنُا؟ فنختلف؛ فنفزع لبعضٍ؛ ونهمل آخرين؟
وهذا يقودنا إلى عظيم فضل تعالى، في التحابب والتآلف؛ يقول الله تعالى: ﴿وَأَلَّفَ بَیۡنَ قُلُوبِهِمۡۚ لَوۡ أَنفَقۡتَ مَا فِی ٱلۡأَرۡضِ جَمِیعࣰا مَّاۤ أَلَّفۡتَ بَیۡنَ قُلُوبِهِمۡ وَلَـٰكِنَّ ٱللَّهَ أَلَّفَ بَیۡنَهُمۡۚ إِنَّهُۥ عَزِیزٌ حَكِیمࣱ﴾ [الأنفال: ٦٣].
لذلك إذا رأيت أحد الناس لا يعادي ﴿أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنوا…﴾ [المائدة: ٨٢]، ولا يلتفت إليهم؛ ولا ينشغل بإجرامهم، وشدة عداوتهم؛ وكل هَمِّهِ البحث عن عيوب وأخطاء وزلات أهل الإسلام، ليطعن فيهم، ويفتري عليهم الكذب، فاعلم أنه من المنافقين؛ فلنحمد الله أن أزاغ قلوب المنافقين من صفّنا، فكره الله انبعاثهم؛ لأنه لو أخفوا حدةَ ألسنتهم عن آذان المسلمين لازداد المؤمنون خبالاً لشدة إيذائهم؛ قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَٰكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ * لَوْ خَرَجُوا فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ﴾ [التوبة: ٤٦-٤٧].
قلوب أهل النفاق هل تتآلف مع قلوب أهل الإيمان؟!
لذلك ترى ألسنة المنافقين حادَّةً على المؤمنين، وهي تطعن في كل أعمالهم؛ حتى ولو كانت أعمالهم لا نظير لها؛ كيوم السابع من أكتوبر العظيم؛ لندرك حينها أن قلوب أهل النفاق لا يمكن أن تتآلف مع قلوب أهل الإيمان، أو تتعاضد معهم؛ فألسنة وأقلام المغرضين قبل الأحداث الفاصلة -في المنشط- تتحدث عن نصرة الحق وأهله؛ فلما انكشف أمرها وانفضح سترها بميولهم إلى أهوائهم وطبيعة قلوبهم المنكرة في طعن المجاهدين والمقاومة، فضحهم الله؛ فقَلَّلُوا من آثار السابع من أكتوبر؛ بل واعتبروه مصيبة أصابت (أهل غزة) ولم يقولوا “الأمة”؛ لماذا على أهل غزة؟ أليس عندكم غيرة على دين الله؛ غيرة على أمة الإسلام؛ ألسنا أمة واحدة كما قال ربنا عز وجل: ﴿إِنَّ هَـٰذِهِۦۤ أُمَّتُكُمۡ أُمَّةࣰ وَ ٰحِدَةࣰ وَأَنَا۠ رَبُّكُمۡ فَٱعۡبُدُونِ﴾ [الأنبياء: ٩٢]. وقال: ﴿وَإِنَّ هَـٰذِهِۦۤ أُمَّتُكُمۡ أُمَّةࣰ وَ ٰحِدَةࣰ وَأَنَا۠ رَبُّكُمۡ فَٱتَّقُونِ﴾ [المؤمنون: ٥١]؟
فلماذا طعنتم فيمن يحاولون استرداد حق الأمة؛ وخذلتموهم، ولم تنصروهم وتحاربوا أعداء الله؟ ألستم مأمورين بقتال من اعتدى عليكم؟ أم أنكم للأسف لا تعدون أنفسكم من أمة محمد أو تخرجون غيركم من أمة محمد؟
لذا فإننا نجد أمة الكفر لبعضهم بعضاً (للأسف) والذين ظلموا أَخْيَرَ منكم لأقوامهم؛ قال الله تعالى: ﴿وَٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِیَاۤءُ بَعۡضٍ﴾ [الأنفال: ٧٣]. وقال تعالى: ﴿وَإِنَّ ٱلظَّـٰلِمِینَ بَعۡضُهُمۡ أَوۡلِیَاۤءُ بَعۡضࣲ﴾ [الجاثية: ١٩].
فلو كان عندهم شيء من الإيمان والتقوى لَوَالَوْا إخوانهم من المتقين، وما والوا أعداء الله من أهل الكتاب والمجرمين..
وهنا تظهر حقيقة ثبات القلوب وعدمها..
فإذا رأيت الكافر ينصر كافراً فلا تلومه؛ فالمثل يقول: “أهل الكفر ملة واحدة”؛ لكن عندما ترى مسلماً ينصر كافراً، يَمُدُّهُ بشتى أنواع المدد والدعم؛ ويخذل إخوانه أهل ملته ودينه؛ وهو منهي عن خذلانهم، واحتقارهم، وظلمهم؛ فاعلم أن الموازين اختلفت والمعايير تغيرت؛ يقول النبي ﷺ: “المسلم أخو المسلم لا يسلمه ولا يظلمه…”.
فلماذا المنهيون عن ظلم وخذلان إخوانهم، يناصرون الباطل ويعادون الحق؟
ألهذا الحد يملأ الغل قلوب البعض؛ أم أن القلب أصلاً قد خَلَا من الإيمان ولم يدخله؛ فكان ظاهره الإسلام بقوله واسمه؛ ولسان حاله وفعله كافر منافق، يقاتل بحقده فكرة الخير التي في قلوب الصالحين في مهدها؟
والعجيب أننا ما رأينا مجرماً في مأمن من العقوبة؛ كمجرم هذا الزمان، في أيامنا؛ يرتكب فيها الإبادة الجماعية والمجازر بأبشع صورها؛ ولا يجد من يردعه، أو يوقفه عند حده؛ ولا حتى يلومه، وذلك بتناصر الكفار بعض لبعض؛ وبخذلان أهل الملة والدين..
والأغرب أن المتخاذلين يصبون جام غضبهم ليس على المحتل المجرم بل على الضحية البريء؛ بل سلاح العدو المتقدم في ظهور المؤمنين.
جريمة تتكامل أركانها؛ على مرأى ومسمع دول العالم من أهل الكفر بلا خلاف؛ ومعهم المنافقون يناصرون الباطل ويخذلون الحق وأهله؛ حرباً استخدم فيها المجرم أشد الأسلحة فتكاً وأسوأها؛ كي نتحدث عن أبشع أنواع القتل والتدمير والإبادة الجماعية؛ يُقَتَّلُ فيها المدنيون بسادية ليس لها مثيل؛ ثم يتحدث الذين كره الله انبعاثهم عن أخطاء إخوانهم وزلاتهم؛ تركوا فعل المجرم الذي يمنع الإسعاف أن تصل إلى جثث القتلى لتنهشها الكلاب!
إخواننا أهل ملتنا وعقيدتنا وعروبتنا يشاهدون ويسمعون؛ ومع ذلك لا يحركون ساكناً؛ مع أنهم يسمعون صرخات المستغيث، وأَنَّاتُ الجرحى؛ ولا يأتون بخبرها، ولا يلتفتون إليها؛ ثم يبثون سمومهم وأراجيفهم وأكاذيبهم، ليطعنوا في المقاومة وأهلها؛ أي حقارة تلك التي نراها، من إِخْوَةِ الدين والعروبة؟!
هذا العدوان وهذا الخذلان قَلَّ نظيره في التاريخ، في الوقت الذي تُمْنَعُ عن المخذولين كل مستلزمات الحياة، من دواء وغذاء وشراب؛ مع استمرار قصف المستشفيات ومحاصرتها؛ وقتل العديد من الطواقم الطبية واعتقالهم، ومع ذلك تستمر ألسنة الحاقدين وأقلامهم بترديد الرواية الصهيونية الحاقدة؛ بل ويزيدون عليها بالطعن والسب والشتم؛ رغم أن العدو اللئيم يتعمد قتل كل حي متحرك، طفلاً كان أم امرأة أو شيخاً؛ إضافة إلى التنكيل بكل مَن يُعتقل..
عالم من حولنا دون استثناء -إلا من رحم الله- لا يحرك ساكناً، ولا يبدي أي اعتراض؛ عالم خلفيته الثقافية استعمارية وعقليته الفكرية حاقدة؛ وعالم من حولنا خلا من كل معاني الدين والمروءة والعروبة، بظلمه وخذلانه، فما الذي يمكن أن نقول؟ ما الذي يجري؟ وما الذي يحدث؟
البعض منهم لا يكتفي بالخذلان؛ بل وصل حد التواطؤ مباشرةً ليشارك في الحرب!
التعارف بيننا تنافرَ واختَلف؛ وما عاد بيننا أي شيء يؤتلَف!
الاختلاف ازداد عمقاً ووصل الأمر إلى درجة الانسلاخ والانعتاق، والابتعاد إلى حد العداوة والبغضاء؛ لتنشأ مجموعة القاعدين المُخَلَّفينَ الذين يبثون أراجيفهم، وينفثون سمومهم، ويهاجمون أطهار الأمة وأبرارها؛ رجال الشرف؛ بأعمال لم يشهد التاريخ مثيلاً لها على عظمتها؛ يبتغون بعملهم مرضاة ربهم أولاً ثم تطهير بيت المقدس وتحريره من رجس ودنس المحتلين.
وهم -أي القاعدون- لا يريدون ذلك؛ أولئك الذين ﴿كَرِهَ ٱللَّهُ ٱنۢبِعَاثَهُمۡ فَثَبَّطَهُمۡ﴾ لم يَكْتَفُوا بعدم المشاركة بالقعود وترك الجهاد والتَّخَلُّفَ؛ أو الاعتذار عن المشاركة في الطوفان؛ بل وبكل خسة ونذالة يطعنون في الطائفة المؤمنة المنصورة بإذن الله تعالى، التي تدافع عن شرف الأمة وكرامتها.
هؤلاء ﴿الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ﴾ كشف الله أمرهم ففضحهم ووصمهم ووصفهم بالكفر وتوعدهم بالعذاب الأليم؛ قال الله تعالى: ﴿وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ ۚ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [التوبة:٩٠].
لذلك لم يكن الخذلان الحد الذي وصله القاعدون؛ وبعد أن شاركوا باستمرار المجازر والإبادة الجماعية، بخذلانهم اللعين.
كما وصف الله تعالى عداوة المحتلين المنصورين من قِبَلِ المنافقين أنهم الأشد عداوة على الإطلاق؛ قال الله تعالى: ﴿لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ ٱلنَّاسِ عَدَ ٰوَةࣰ لِّلَّذِینَ ءَامَنُوا۟ ٱلۡیَهُودَ وَٱلَّذِینَ أَشۡرَكُوا۟﴾ [المائدة: ٨٢]. كما جمع الله تعالى بين عدوان المعتدين وخذلان المنافقين بقوله تعالى: ﴿لَتُبۡلَوُنَّ فِیۤ أَمۡوَ ٰلِكُمۡ وَأَنفُسِكُمۡ وَلَتَسۡمَعُنَّ مِنَ ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡكِتَـٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ وَمِنَ ٱلَّذِینَ أَشۡرَكُوۤا۟ أَذࣰى كَثِیرࣰاۚ وَإِن تَصۡبِرُوا۟ وَتَتَّقُوا۟ فَإِنَّ ذَ ٰلِكَ مِنۡ عَزۡمِ ٱلۡأُمُورِ﴾ [آل عمران: ١٨٦].
لَتُبۡلَوُنَّ فِیۤ أَمۡوَ ٰلِكُمۡ وَأَنفُسِكُمۡ (عدوان)
وَلَتَسۡمَعُنَّ (إرجاف وخذلان) مِنَ ٱلَّذِینَ أُوتُوا۟ ٱلۡكِتَـٰبَ مِن قَبۡلِكُمۡ
وَمِنَ ٱلَّذِینَ أَشۡرَكُوۤا۟ (أهل الخذلان المنافقين) أَذࣰى كَثِیرࣰاۚ
وَإِن تَصۡبِرُوا۟ (على خذلانهم) وَتَتَّقُوا۟ فَإِنَّ ذَ ٰلِكَ مِنۡ عَزۡمِ ٱلۡأُمُورِ.
فقد تجاوز عدوان المجرمين الخمسة عشر شهراً، فما أصابنا بفضل الله تعالى الضرر؛ واستمر الخذلان كذلك كالعدوان وما أصابنا الضرر فرفعنا الراية والعياذ بالله وسلمنا.
قال الله تعالى: ﴿لَنْ يَضُرّوكُم إِلَّا أَذَى…﴾ [آل عمران: ١١١].
هذا فضل الله..
وقال النبي ﷺ: “… لا يضرهم من خذلهم…”.
وهذا وعد الله..
فصبر جميل…
المصدر
مجلة أنصار النبي، الشيخ حسن الخطيب – عضو رابطة علماء فلسطين.
اقرأ أيضا
من صفات المنافقين المسارعة في ولاء الكافرين
المنافقون .. خطرهم وأبرز صفاتهم