العبادة والتوكل لهما لوازمهما ومقتضياتهما وما تثمرانه في النفس والحياة من آثار عظيمة القدر والنفع في الدنيا والآخرة . فإن لم تظهر هذه الآثار واللوازم فإن هناك دخلا وانحرافا في فهم أو تطبيق هذين الأصلين العظيمين؛ فالعبرة بما يظهر من الآثار لعبادة الله عز وجل والتوكل عليه.
من آثار ولوازم العبادة والتوكل
انتفاء الرياء والعجب والكبر
إن من ثمار العبودية التامة لله عز وجل والاستعانة به وحده سبحانه أن يتخلص القلب من هذا الثالوث الفتاك، الذي يمرض القلوب ، بل يميتها إن لم يتدارك العبد نفسه ، ويعالجها بصدق التعبد لله عز وجل وإظهار الفاقة والافتقار إليه سبحانه ، فيستعين به ويتوكل عليه، ويرى أن الحمد كله لله، والفضل بيده وحده ، وأن لا قدرة ولا حول ولا هداية ولا عافية إلا منه سبحانه، لا يأتي بالحسنات إلا هو، ولا يذهب بالسيئات إلا هو سبحانه وتعالی .
وإذا أراد العبد وجه الله عز وجل في جميع أعماله انتفى الرياء من القلب، وإذا أيقن العبد بضعفه وافتقاره لربه سبحانه وأنه ضعيف هالك إن لم يعنه ربه سبحانه ويوفقه ، فإن ذلك ينفي العجب، ويورث التواضع والإخبات للحق، كما يورث التواضع للخلق، وأن ليس له فضل على نفسه ولا على أحد ، وأن الفضل كله لله، والخير كله بيده سبحانه فهو المان به وحده . .
إن هذا الشعور حينما يسيطر على القلب فإنه لا مكان للعجب ولا للكبر فيه، وإنما يحل مكان ذلك الإخبات والخضوع لله عز وجل، مع التواضع للحق والخلق، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: (وكثيرا ما يقرن الناس بين الرياء والعجب ، فالرياء من باب الإشراك بالخلق ، والعجب من باب الإشراك بالنفس ، وهذا حال المستكبر ، فالمرائي لا يحقق قوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ والمعجب لا يحقق قوله: ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾، فمن حقق قوله: ﴿إِيَّاكَ نَعْبُدُ﴾ خرج عن الرياء ، ومن حقق قوله: ﴿وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ خرج عن الإعجاب، وفي الحديث المعروف: «ثلاث مهلكات: شح مطاع ، وهوى متبع ، وإعجاب المرء بنفسه»)1(1) مجموع الفتاوی (1/ 277)..
تفريج الكربات والسلامة من مضلات الفتن
إن الصادق في عبادته وتوجهه لربه والصادق في توكله واستعانته بمولاه سبحانه يصبح محفوظا من الله عز وجل معصوما من الفتن وشرورها، وإن مرت به کربة ثبته الله وصبره عليها ، وسرعان ما تنكشف وتنفرج عن خير وعاقبة حسنة له ، قال تعالى: ﴿وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ۚ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ۚ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ ۚ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾ [الطلاق: 2-3].
وقال سبحانه عن نبيه صلى الله عليه وسلم وصحابته الأجلاء: ﴿الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ * فَانقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ﴾ [آل عمران : 173-174].
وهذا الفضل من الله سبحانه عليهم كان بصدق توكلهم عليه سبحانه وإخلاصهم العبادة له .
وقد ذكر أبو نعيم رحمه الله تعالى في كتابه (حلية الأولياء) قصة تدل على أثر العبادة الخالصة والتوكل الصادق في تفريج الكربات والسلامة من مضلات الفتن ؛ حيث ساق بسنده إلى عون بن عبد الله قال: عن عون بن عبد الله بن عتبة ، قال: بینا رجل بمصر في بستان زمن فتنة آل الزبير ، جالسا كئيبا حزينا يبكي ينكث في الأرض بشيء معه ، فرفع رأسه ، فإذا صاحب مسحاة قد مثل له ، فقال: مالي أراك مهموما حزينا؟ فكأنه ازدراه ، فقال: لا شيء ، فقال: أبالدنيا؟ فإن الدنيا عرض حاضر ، يأكل منها البر والفاجر ، وإن الآخرة أجل صادق ، يحكم فيها ملك قادر ، يفصل بين الحق والباطل ، حتى ذكر أن لها مفاصل کمفاصل اللحم من أخطأ منها شيئا أخطأ الحق. قال: فأعجب بذلك من كلامه ، فقال: اهتمامي بما فيه المسلمون . فقال: إن الله سينجيك بشفقتك على المسلمين، وسل من ذا الذي سأل الله فلم يعطه ، أو دعا الله فلم يجبه، أو توكل عليه فلم يكفه ، أو وثق به فلم ينجه؟ قال: فعلقت الدعاء ، فقلت: اللهم سلمني وسلم مني، قال: فتجلت الفتنة ولم تصب منه شيئا2(2) حلية الأولياء (4/ 244) ط. دار الكتاب العربي . .
الرضا بقضاء الله عز وجل والتسليم لأحكامه وتفويض الأمور إليه
وهذا من أعظم ثمار العبادة الصادقة والتوكل الصحيح ، وإلا فما قيمة عبادة وتوكل واستعانة لا تثمر الرضا والتسليم والتفويض؟ .
ولا يعني الرضا والتسليم ترك فعل الأسباب ومدافعة أقدار الله عز وجل بأقداره ، وإنما تفعل الأسباب المأذون بها مع عدم التعلق بها، ثم إن لم ينفع الله عز وجل بها من جلب النفع أو دفع الضر ، فإن المتعین حینئذ الرضا والتسليم وحسن الظن بالله عز وجل ، وأن اختياره سبحانه لعبده المؤمن أحسن من اختيار العبد لنفسه ﴿وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ﴾ [البقرة : 219] .
وعن هذه الثمرة الجليلة يتحدث الإمام ابن القيم رحمه الله تعالی فیقول:
(التفويض: هو روح التوكل ولبه وحقيقته ، وهو إلقاء أموره كلها إلى الله ، وإنزالها به طلبا واختيارا ، لا كرها واضطرارا ، بل كتفویض الابن العاجز الضعيف المغلوب على أمره كل أموره إلى أبيه ، العالم بشفقته عليه ورحمته، وتمام کفایته، وحسن ولايته له، وتدبيره له.
فهو يرى أن تدبير أبيه له خير من تدبيره لنفسه ، وقيامه بمصالحه وتوليه لها خير من قيامه هو بمصالح نفسه وتوليه لها، فلا يجد له أصلح ولا أرفق من تفويضه أموره كلها إلى أبيه، وراحته من حمل كلفها وثقل حملها ، مع عجزه عنها، وجهله بوجوه المصالح فيها ، وعلمه بكمال علم من فوض إليه، وقدرته وشفقته .
فإذا وضع قدمه في هذه الدرجة انتقل منها إلى درجة «الرضا» وهي ثمرة التوكل، ومن فسر التوكل بها ، فإنما فسره بأجل ثمراته ، وأعظم فوائده ، فإنه إذا توكل حق التوكل رضي بما يفعله وكيله .
وكان شيخنا رضي الله عنه يقول: المقدور يكتنفه أمران: التوكل قبله ، والرضا بعده ، فمن توكل على الله قبل الفعل ، ورضي بالمقضي له بعد الفعل، فقد قام بالعبودية ، أو معنى هذا .
قلت: وهذا معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم في دعاء الاستخارة: «اللهم إني أستخيرك بعلمك ، وأستقدرك بقدرتك وأسألك من فضلك العظيم» ، فهذا توکل وتفویض ، ثم قال : «فإنك تعلم ولا أعلم ، وتقدر ولا أقدر ، أنت علام الغيوب».
فهذا تبرؤ إلى الله من العلم والحول والقوة ، وتوسل إليه سبحانه بصفاته التي هي أحب ما توسل إليه بها المتوسلون . ثم سأل ربه أن يقضي له ذلك الأمر إن كان فيه مصلحته عاجلا ، أو آجلا ، وأن يصرفه عنه إن كان فيه مضرته عاجلا أو آجلا . فهذا هو حاجته التي سألها ، فلم يبق عليه إلا الرضا بما يقضيه له ، فقال: «واقدر لي الخير حيث كان ، ثم رضني به» .
فقد اشتمل هذا الدعاء على هذه المعارف الإلهية ، والحقائق الإيمانية ، التي من جملتها: التوكل والتفويض ، قبل وقوع المقدور ، والرضا بعده ، وهو ثمرة التوكل ، والتفويض علامة صحته ، فإن لم يرض بما قضي له ، فتفويضه معلول فاسد)3(3) مدارج السالكين (2/ 123-122).. وهذه الثمرة تعد من أعظم أسباب النجاة من اليأس والقنوط ، وتحصيل أضدادها .
موالاة أولياء الله سبحانه والبراءة من الشرك وأهله
لما كانت العبادة قائمة على تمام الحب مع تمام الذل لله عز وجل، فإنه يمتنع تماما الجمع بين محبته سبحانه ومحبة ما يبغضه من الشرك وأهله أو كراهية ما يحبه ويرضاه ، وهذا أمر مرکوز في الفطر ؛ حيث إن المحبة الصادقة لإنسان ما تعني محبة ما يحب وكراهة ما يكره ، وإلا كانت المحبة مدخولة ، فإذا كان هذا يمتنع مع المخلوقين ، فكيف به مع الخالق عز وجل؟
يقول الشيخ الدوسري رحمه الله تعالی: (عبودية الله لا تسمح للعابد بموالاة أي عدو لله ولو كان أقرب قريب ، فضلا عن موالاة المحادين لله ورسوله، من دول الكفر أو معتنقي المبادئ الإلحادية باسم التقدم في الحضارة أو الاقتصاد ، فكل من يلقي إليهم بالمودة أو يتفق معهم في ثقافتهم أو تشريعاتهم فهو خارج من عبودية الله إلى عبودية الطاغوت .
عبودية الله تقضي على أهلها ببغض الذين شرعوا ما لم يأذن به الله في سائر النواحي ، ممن يترسم خطط الملاحدة والمستعمرين ، ولا يلتفت إلى هدي الله ورسوله . وكذلك بغض من يعتقد أو يدعو لحصر الدين في نفوس المؤمنين كأفراد دون تدخله في مشاكل الحياة من حرب وسلم وتحرر واستعمار .
فبغض هؤلاء من لوازم عبودية رب العالمين ، ومنابذتهم وهتك أستارهم وكشف حقيقتهم للناس من الجهاد في سبيل الله ، أما موالاتهم وتحبيذ أفعالهم فهي محادة لله ورسوله ، صاحبها متجرد من ولاء الله ورسوله ، غير محقق للأمر)4(4) صفوة الآثار والمفاهيم (62/1-63)..
ويقول أيضا رحمه الله تعالی: (عباد الله لا يتجردون من ولاء الله ورسوله وموالاة أوليائهما السالكين هديهما، بل يتجردون من ولاء من سلك غير هديهما في نواحي الحكم والحياة ، واتبع غير سبيل المؤمنين ، مما تمليه المذاهب والمبادئ العصرية التي رکزها أعداء الله ورسله من أئمة الكفر وطواغيت البشر ؛ لأن الموالي لهؤلاء والمحبذ لأفكارهم ليس من الله في شيء ، فموالاة الله تستلزم التجرد من ولاء المتبعين غير سبيله ، كما أن موالاتهم والسير في ركابهم يستلزم التجرد من ولاء الله ورسله وأوليائه ، والخروج من عبوديته الشرعية)5(5) المصدر السابق (63/1)..
الهوامش
(1) مجموع الفتاوی (1/ 277).
(2) حلية الأولياء (4/ 244) ط. دار الكتاب العربي .
(3) مدارج السالكين (2/ 123-122).
(4) صفوة الآثار والمفاهيم (62/1-63).
(5) المصدر السابق (63/1).
اقرأ أيضا
لوازم العبادة والتوكل .. الحرية وسلامة السلوك
المفهوم الصحيح للتوكل والاستعانة
المفهوم الصحيح للعبادة، ومظاهر انحراف “المفهوم”
لوازم العبادة والتوكل: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر